.. في المقالات السابقة كنا قد تعرضنا لأهمية مواجهة و نقد تجربة الصادق المهدي في حياة السودانيين السياسية و فرص الحكم و ما ترتب علي هذه التجربة من نتائج ما زلنا نحصد آثارها الي الآن من عدم إرساء قواعد متينة للتجربة الديمقراطية السودانية بالإضافة إلي بقاء تجارب الحكم بواجهة حزبية و هيكل و عقل طائفي اعتمد علي الدوام علي بقاء الطائفة و انساقها كماكينة للوصول الي سدة الحكم عبر صندوق الانتخاب و الناظر الي هذه العملية يدرك أنها بقت شكلا فقط لنمط إنتخابي و لكنه لم يحدث النقلة الديمقراطية في داخل الحزب و عقلية عضويته و بالتالي في مجمل حياة السودانية و ذلك لأن الصادق المهدي حرص على الحفاظ علي هذا الشكل المريح و المتراخي و سريع المكاسب و لكنه نسي أمر هاما جدا في فلسفة التاريخ و مجراه و هو أن التراكم اليومي يؤدي إلي تغيير نوعي و هو بالضبط كما كان يجري من تراكم خارج تفكير و خطط الصادق المهدي و في ذات مناطقه التاريخية من نشوء جيل جديد لأبناء الأنصار يفكر بعقل حداثوي و مرتبط بحركة التاريخ و منجزه الذي أسرع من وتيرته في العقود الأخيرة و هولاء منهم من اتجه إلى اليسار أو الحركة الإسلامية أو انضم للحركات المسلحة .
.. تجربة الإنقاذ الإسلاموية أيضا جردت الصادق و الطائفية عموما من كثير من مناطقها التاريخية لأنها تحرث في ذات الأرض المشتركة، أرض إستثمار العاطفة الدينية و تدوير التراث الديني دون هضم له من غالبية من الناس لم تنل من التعليم الا القليل ناهيك عن الأمية الغالبة . تجربة الإسلامويين استطاعات أن تخلق فرق في المعادلة و حصدها لانها اعتمدت على المتعلمين و اثرهم منذ البداية و استطاعت أن تزاحم الطائفية المتكلسة و شغل مناطقها و ظل الصادق المهدي كعقل يتصل بالمعارف و البحث و التأمل لكنه بقي عقل معزول هناك في قمة هرم الطائفة و الحزب حيث لم تتنزل هذه المعارف المعزولة علي الجسم الذي يستنم ذراه و قمته و ظل يؤلف الكتب و العناوين و كأنه مقصدها كان لمناطق و عقول خارج المنظومة الحزبية و الطائفية (حزب الأمة و كيان الأنصار ) و ذلك ليقول للوسط الثقافي دوما انا موجود بكتبي و مؤلفاتي و التي لو سألت عنها غالبية عضوية الحزب أو الطائفة لأجابوك بعدم معرفة عناوينها ناهيك عن محتواها .. الصادق ظل لوقت طويل متمدد في ارخبيل خيالي يخصه وحده و أحيانا علي تماس مع قضايا خارج سياق كيانه و لكنها ضمن الارخبيل الشاعري الذي صنعه لنفسه مثل مشاركته الكثيفة لمؤتمرات الوسطية خارج البلاد و شغله الدائم علي خلق كيان إسلامي عابر تكون له فيه دور الريادة و القيادة .
.. هذه الأمور مجتمعة أدت لكثير من المواقف المتناقضة في حياة الصادق و خلال تجربته في الحكم، مثل عدم مقدرته علي إلغاء قوانين سبتمبر رغم رائه الصريح فيها بأنها لا تساوي الحبر الذي كتبت به و كذا تمسكه دوما بالتحالفات الاستراتيجية مع جماعات الإسلام السياسي كرصيد مقابل أي صعود أو مكاسب سياسية لليسار .بالرغم من أننا في السودان و لإرساء قواعد الديمقراطية الراسخة كنا فقط نحتاج إلى تيار ديمقراطي عريض يصبح هو نفسه المعول عليه في إشاعة ثقافة الديمقراطية و تمددها داخل السلوك و التفكير الإجتماعي للمجتمعات السودانية .
نواصل في الحلقة القادمة و الرابعة
شارك هذا الموضوع: