كنّا كباراً بما يكفي ليتشكَّل لدينا وعيٌ كافٍ يؤهلنا كي نتذكر تلك الأيام .. أيام القطن في مشروع الجزيره و.. يا الشيخ أخوي يلاكا الزراعه أصلو العمل واجبو السراعه. كان هذا قبل أن تختطفنا إقتصاديات زمن البترول أو قُلْ الخدعه الكبري وقبل أن يتأرشف كل هذا الإرث الزراعي التليد ويُصبح ضرباً من ضروب الماضي تتغشَّاه لماماً بعض ذكريات تبعث في النفس جذوة الشجن أو قُلْ كان هذا قبل الشروع في وأد المشروع حين كان مشروع الجزيره لُحْمَةَ إقتصادنا وسداتَه وسدرة المنتهَي.
أيام القطن .. أو قُلْ كذلك الجوهر (الفردي) والحساب الفردي .. كلمة سر لن تجدها إلا بين (الشلابي) و (التقانت) و (أب عشرين).
يومها كان المزارع في الجزيره وفي غير الجزيره مستور الحال ..لم يكن أشعث أغبر ذو طمرين تنبو عنه أعين الناس..صحيح لم تأخذنا الزراعه كقطاع تقليدي لمرحلة الإستهلاك الجماهيري الوفير (High Mass Consumption) كما يرنو إليها علماء الإجتماع ومنهجيات إقتصاديات التنميه لكنه في الواقع لم تكن مظاهر الفقر والفاقه تتخذ سبيلها في أوساط مجتمعنا سَرَباً وطَرَباً كما يحدث الآن.
في العام 1925 وهو التاريخ الرسمي لبداية المشروع بمصاحبة بنيات تحتيه أخري وفرها المستعمر عند دخوله إبان حملة كتشنر .. ليس فقط لتوفير الأقطان لمصانع لانكشير ويوركشير كما نؤرخ لذلك ولكن للحقيقه كان في ذلك إحداث نقله تنمويه هائله سابقه بمقاييس الزمان والمكان
آنذاك لصالح إنسان هذا السودان جعل الله المشروع في ميزان حسنات الإنجليز فقد كان بإمكانهم إنشاء مشروع وفق ما أرادوا في أيِّ مكانٍ آخر وبلاد الله واسعه خصوصاً وأنها الإمبراطوريه التي لا تغيب عنها الشمس. الشاهد أننا نختزل كل هذه البنيه التحتيه والتنمويه الضخمه المتمثله في مشروع الجزيره ونعتبرها مجرد مزرعه لتوريد قناطير القطن لأبناء العم سام فحسب ونتناسي الدور الفاعل الذي لعبه المشروع بكل هيله وهيلمانه فيما بعد في الإقتصاد القومي والتنميه الإجتماعيه.
المهم .. أقول إنّه في العام 1925 إكتمل العمل في خزان سنار بعد الحصول علي قرض من حكومة لندن بقيمة ثلاثة ملايين جنيه إسترليني هي تكلفة الخزان وتوسعت المساحات المزروعه فيما بعد إلي 2.2 مليون فدان بإشراف ثمانية عشر قسماً ومائه وأحد عشر تفتيشاً بالإضافة لرئاسة المشروع في بركات وهناك في الجزيره يتوزع المزارعون بين القري و(الكنابي) ومن هذه القري والكنابي التي يلاحظ الزائر للجزيره أنها مصممه لتكون معسكرات لعمال زراعيين إذ لا تتمتع بمساحات تكفي لتوسعها المستقبلي ولا لبناء شبكة طرق إسفلتيه فالشارع بالكاد يكفي لمرور السيارات
دعك من تصميم شوارع إسفلتيه..ولم تجتهد العقليه الوطنيه التي حكمت بعد السودنه في تحسين البيئه ولم تتخذ من الجزيره علي مدار السنوات إلا الدجاجه التي تبيض ذهباً حتي إذا أعجزها البيض (والكأكأه) صارت لا تصلح حتي لسد المسغبه..
من هناك أسهم المشروع بريع وافر في إحداث طفرة كبرى في المناحي الاجتماعية للسودان حيث شهدت المنطقه هجرات من جميع القبائل بل وفد إليه العمال من دول غرب أفريقيا وأصبح المشروع بالتالي نقطةً للتداخل بين هذه المجموعات المختلفة وبوتقه للتعايش السلمي ونموذج للوحده أحقُّ أن يُرعَي ورد عملي علي دعاة التفتيت والنعره العنصريه. وإقتصادياً فقد إعتمد الإقتصاد السودانى طوال فترة الحكم الثنائى على آليات تقليدية فى الزراعة والتجارة والصناعة المنزلية رغم التحديث الذى صاحب فترة الحكم التركى المصرى والمتمثل فى إدخال الساقية والشادوف ثم شهدت فترة المستعمر الإنجليزي تطورات فى الإقتصاد السودانى أهمها إنشاء مشروع الجزيرة الذي أحدث نقله نوعيه وتغييرات كبيرة فى البنية التحتية للإقتصاد السودانى متمثلة فى السكة الحديد والإتصالات والمرافق التعليمية وغيرها وفي فترات العهد الوطني كان محصول القطن او الذهب الابيض يسهم بنسبة كبيرة في الدخل القومي حيث
كان يشكل اكثر من ثمانين بالمائه من صادرات البلاد الكلية لمعظم دول العالم خاصة الاوربية منها لسمعته الجيدة في الاسواق العالمية ولجودة اصنافه في سوق المنافسه العالميه وحقق مدخولات مقدرة من العملات الصعبة للبلاد كانت تنفق في استيراد المحروقات والسكر وتشهد بذلك
أضابير وزارة الماليه وذاكرة الناس.
ومن القطن وأرباح القطن والنسبه المئويه التي كانت تُستقطع من الأرباح بواقع إثنين بالمائه تحت بند الخدمات الإجتماعيه ومن خلال تعاون الجهات الحكومية في وزارة الزراعة ووزارة الحكم المحلى والجهات الشعبية قامت العديد من دور التعليم والصحة وتم توفير مياه الشرب والإهتمام بصحة البيئة وتعليم الكبار (محو الأمية) وقيام الجمعيات التعاونية حيث إنتدبت الخدمات ضباطاً للعمل فى الجزيرة ومن ذلك برنامج زراعة غابات الكافور (شجرالبان) بالتعاون مع مصلحة الغابات بغرض توفيرالخشب كمواد بناء ووقود.
تعاونت الخدمات مع وزارة المعارف والتعليم فى مجال الفاقد التربوى فقامت بتأسيس الفصول الصناعية. كما أنشئت مدرسة لتدريب أبناء المزارعين على زراعة المحاصيل المختلفة فقامت الأولى فى بركات والثانية فى مساعد وأنشئت فيما بعد جامعة الجزيره بأبعادها الريفيه والزراعيه كما أُقيمت العديد من المشاريع الصحيه ومن نافلة القول أنّ الجزيره لم تحظَ بالدعم الحكومي المباشر في مجالات الخدمات الأساسيه والبنيات التحتيه وحتي مشروعات إنارة الكهرباء تمت بالعون الذاتني وكثير من مدارس قري المشروع أنشأها الأهالي بالدعم الذاتي.
وليس المقام بكافٍ للدخول في فذلكه تاريخيه إقتصاديه وإجتماعيه لسرد إسهامات محصول القطن في الدخل القومي وللقطن صولاته في الإقتصاد السوداني عبر السنوات قبل أن نعرف البترول كنغمه تعالت كواحدة من الفرقعات الخاوية لحكومة الإنقاذ علي حساب القطاع الزراعي عموماً، وقد صار نصيب السودان من البترول بعد الإنفصال لا يتعدي الخمسين ألف برميل وبات البترول أثراً بعد ان ابتلعته القطط السمان وتلك حكايات أخرى مليئة بالأسرار التي ستفصح عنها الأيام، وحتي في سنوات الإنتاج قبل الإنفصال لم يكن لهذا المنتوج الأسود تأثيره البائن علي حياة الناس إلا علي صفحات الصحف والتصريحات الرسميه للمسئولين، الشاهد أنّه وعلى سبيل المثال في العام 2003م ساهم القطاع الزراعي في الناتج الإجمالي المحلي بنسبة 45%، كما ساهم قطاع الثروة الحيوانية بـ 20% وساهم قطاع البترول والتعدين بنسبة 9% في الناتج المحلي الإجمالي( وزارة المالية والاقتصاد الوطني: البرنامج الاقتصادي متوسط المدى: 2004 – 2009م، أغسطس 2004)
إنّ اقتصادنا قد تحول من اقتصاد منتج زراعياً إلى إقتصاد مستهلك ببروز طبقه جديده هي التي تستمتع بمردودات البترول بشكل أو بآخر وهذه الطبقه الجديده ضيقه نسبياً ومستهلكه وغير منتجه ولعلّ هذا مما يبرر التفاوت الطبقي والنمط الإستهلاكي الذي ساد في السنوات الأخيره. إنّ إرتفاع اسعار القطن فى الاسواق العالمية والمؤشرات الاقتصادية الآنيه تؤكد استمرار ارتفاع الاسعار خلال السنوات القادمة ، ويكفي أن نعلم أنّ عائد تصدير بالة من القطن تساوي عائد صادر (5) براميل بترول خام. ثمّ يحق لنا أن نعلم بعد ذلك أنّ الحكومة أضاعته مع سبق الإصرار والترصد لتهدم صرحاً باذخاً وقد حانت ساعة الجزاء الذي هو من جنس العمل فالمشروع سيقتص لنفسه من واقع أصوله التاريخيه وما تم تبديدها على مر سنوات الإنقاذ وقد كتبنا في ذلك كثيراً جميعهم يستحقون المحاكمة عن ما اقترفوه في حق المشروع وعلى رأسهم المتعافي صاحب كارثة القطن المحور وراثياً وكثيرون من شركاء التدمير الممنهج.. نعم (تفكفك) المشروع رويداً رويداً أو قُلْ (مسسمار مسمار) علي رؤوس الأشهاد ولم ينبس أحد ببنت شفه من سوبا إلي بركات إلي (كرتوب) غرب المشروع .. نعم لم ينبس أحد ببنت شفه المسئولين في الإدارات ومجالس الإدارات وإتحاد المزارعين ذو الواجهات الزجاجيه الفخيمه علي شارع النيل والذي يبقي مباني بلا معاني إلي الزراعيين من المفتشين أو قُلْ هؤلاء الذين لم يرثوا من عقلية الإنجليز إلا عقلية السرايات التي لا تُحسن غير التعالي ولذلك حدث إنفصال عاطفي بين المفتش السوداني والمزارع بالتعالي غير المبرر الذي كان يمارسه المفتشون علي المزارعين ويذكر الناس في الجزيره أنّ المفتش ما كان يقف بسيارته ليستمع لكبار السن من أعضاء مجالس الإنتاج بل كان يضغط علي دواسة البنزين وهؤلاء المساكين يُمسكون بباب سيارته ويهرولون .. أما عامة المزارعين فليس بمقدورهم مقابلة جناب الباب العالي مفتش المشروع دعك من طرح مشاكلهم وإيجاد الحلول.. لقد سادت مثل هذه العقليه سنوات طويله في المشروع حتي تهالك المشروع أمام سمعهم وبصرهم وتدنت الإنتاجيه لأدني مستوياتها إلي الحد الذي جعل الدوله تنبذه كخيار إقتصادي فاعل قبل أن يزهد فيه المزارع.. لم يَرثْ المفتشون الزراعيون من الإنجليز عقلية تطوير المشروع من حيث كفاءة التشغيل .. تلك العقليات الخلاقه التي أعملها الإنجليز في إنشاء المشروع وإرساء دعائمه الفنيه حتي تركوا لنا إرثاً ضخماً تباهينا به ردحاً من الزمان حتي نظام إدارته والخدمه المدنيه فيه كانت نموذجاً يُحتذي وأصلاً من أصول المشروع التي يجب حسابها تماماً كأيِّ أصل ذي قيمه.. نعم لم تكن أصول المشروع تنحصر فقط في القنوات الضخمه والقناطر ومساكن المفتشين والموظفين والسكه حديد والمحالج وغيرها من الأصول الملموسه لقد كانت معايير الإداره أصلاً بديعاً ونظاماً محكماً شكّل إضافه لقائمة الأصول الموروثه التي لا تُقدر بثمن حتي ضاعت بالتقادم.
والدوله أو قُلْ الحكومه كانت تجد لديها المتسع من التمويل كي تبذله في إنشاء المشروعات في الشماليه وسندس وغيرها وهي مشاريع لا تُقاس بمشروع الجزيره بينما ذات الدوله تبخل علي مشروع الجزيره بُخل الذين إذا استنبح الأضياف كلبهم قالوا لأمهم بولي علي النار.
بل تعمد الدوله إلي بيع الأصول الموروثه كابراً عن كابر في الجزيره المحالج والهندسه الزراعيه تماماً مثل أخرق يبيع (عفش البيت) في سبيل الحصول علي المال و…. حتي يصحو الناس ذات يوم فلا يجدوا حتي السكه حديد .. أرضاً خلاء بلا سكه حديد ولا يحزنون.
وتتلاشي في الجزيره المعاني الكبيره للأمن الغذائي الذي اتخذه العنابسه محض شعارات لا تتعبأ في جوالات .. وقد كان الخير العميم في مواسم (الدرت) يبشر بالأمن والوفره والحساب الفردي.. القطن والذره والفول السوداني وحريق الفول في (الحدبه الصعيد الحله) وطماطم (الله كريم) التي لم تكن تعرف المبيدات و(السربه) حتي تعود أبقارنا يكاد (الضرع) ينخذلُ.. وألبان الجزيره وقوز كبرو.. و…. و… وتلك أيام حياها الغمام. ولن ينقطع عند الناس في الجزيره بعض الأمل أن ينبعث المارد من قمقمه يوماً مثل طائر الفينيق يحترق ثم ينتفض من تحت الرماد.. ثم هل تراها الدوله الجديدة المأمولة في حاجه (لروشته)؟؟!! والصافي (راعي البقر) يعرف أنّ علة المشروع تكمن في سخاء التمويل وابتعاد (المُنظِّرين) عن سدة المشروع شكر الله سعيهم وإخضاع المتسببين للمحاكمات العلنية في الحواشات على الهواء مباشرةً.
لقد إنخدعنا لذلك المنتوج الأسود الذي استجلب لنا الفساد والمفسدين وصرنا في هستيريا نبحث عنه حتي وقعنا فريسة الشركات الأجنبيه التي استنزفت مواردنا دون أن نجني من إنتظارنا الطويل في (إنتظار البترول) سوي المزيد من الرهق وبضع (براميل) بالكاد تكفي لأحفاد ذوي البشرة الصفراء.
ومن نافلة القول إننا بانتظار احتجاز المتسببين في تدمير هذا الرصيد الضخم لمشروع الجزيرة أين الإنتاج؟ أين القنوات؟ أين الهندسة الزراعية؟ أين الدورة الزراعية؟ أين ألبان الجزيرة؟ أين السرايات؟ أين وأين وأين؟؟؟؟؟ والحساب ولد.
وقد نعود والحديث عن المشروع لا تحده الحدود.
د. محمد قسم الله
شارك هذا الموضوع: