على هامش المؤتمر الاقتصادي.. الخُبز والخبّاز

د. محمد قسم الله محمد ابراهيم - 05-10-2020

دخلتُ إلى الموقع الالكتروني لوزارة المالية والتخطيط الاقتصادي قبل يوم من انعقاد جلساته، على أمل أن أجد تعريفاً كاملاً بالمؤتمر الاقتصادي أهدافه ومراميه والجداول الزمنية وأوراق العمل المقدمة ومقدميها وأسماء المشاركين وما إلى ذلك، غير أنني وجدتُ في الصفحة الرئيسية لموقع الوزارة في أعلاها إعلان عن تأجير كافتريا الوزارة وإعلان لتوفير أحبار وصيانة طابعات الوزارة ولم اجد أي إشارة للمؤتمر الاقتصادي وتفاصيله في الموقع الذي هو الواجهة والبوابة ليس لوزارة المالية فقط بل لكل السودان علاوةً على أنّ مثل هذه المؤتمرات من ناحية منهجية على الأقل يُرتجى منها الخروج بتوصيات علمية وعملية يمكن أن تساهم في الخروج من عنق الزجاجة.
ولذلك لم أستغرب حين وجدتُ سيلاً من الفيديوهات التي تشاركتها مواقع التواصل الاجتماعي والوسائط لبعض المشاركين من داخل المؤتمر تميزت مشاركاتهم بالهتافية والفجاجة ولا ادري كيف وجد هؤلاء الفرصة لمشاركة في مؤتمر كهذا يُفترض فيه ان يتداعى إليه الخبراء وأهل الاختصاص والخبرة وصناعة القرار لا (المتهجمين) للحديث عن امور وتعقيدات شائكة لا تحتمل محض الكلام والسلام على شاكلة ذلك الفيديو لأحد المشاركين الذي كان يتلعثم فيه ويشيح بيديه لآخر يقاطعه على المنصة الرئيسية وهو يحاول من ورقة أمامه قراءة بعض ما يعتقد هو أنه رأي اقتصادي حول المشكلة الاقتصادية المزمنة والخطيرة التي تواجه الحكومة الانتقالية ويمكن أن تطيح بها بل يمكن أن تمتد مخاطر الازمة الاقتصادية الحالية للإطاحلة بكل بلدنا واستقراره السياسي والأمني.
يحدث كل هذا والمؤتمر منقول على الهواء مباشرة للعالم، وليس سيئاً أن يقول الناس كل ما يرونه بمنتهى حرية ودون حجر أو قيد، لكن هذا ليس لقاء مكاشفة ولا برنامج بين السائل والمسئول، هذا مؤتمر اقتصادي علمي منهجي يجب أن تقتصر المشاركات فيه على فئات مدروسة بعناية ومختارة وفق كفاءة وشروط بعينها تحقق قيمة مضافة لمساعي الحكومة الحالية حتى تخرج التوصيات على النحو المأمول وليس فقط هتافات مثلما يحدث في أركان النقاش في الجامعات.
وفي تقديري أن الظروف الضاغطة للحكومة الحالية وما يعانيه الشارع ليس بحاجة لمؤتمر اقتصادي يستغرق الكثير من الوقت والجهد بقدر ما أن الحكومة وكابينتها الاقتصادية بحاجة للتشغيل الفوري لكل مواردنا المتاحة بل والعمل على استقطاب موارد إسعافية للمساهمة في ردم الفجوة المتسعة جداً بين الإيرادات والمصروفات وهي التي أنتجت هذا الغلاء الفاحش ابتداءً من أسعار (التسالي وفول الحاجات) إلى أسعار الدولار الذي صار سلعة يتاجر بها الناس في هذا السودان المكلوم مروراً بالخبز والحاجيات المعيشية الأساسية ناهيك عن خدمات الصحة والتعليم التي صارت رفاهية عند قطاعات عريضة من فئات الشعب خصوصاً وأنّ المدارس حتى الآن في كف عفريت وليس صحيحاً أن أسباب التأجيل كلها متعلقة بجائحة كورونا وفيضان النيل لكن الأسباب الأساسية لوجستية بحتة ومالية بامتياز حين عجزت الوزارة عن توفير الكتب والمناهج ومعينات العملية التربوية برمتها فضلا عن البيئة ككل في المدارس التي صارت نهباً للإهمال الكلي، وكذلك المستشفيات والخدمة الطبية التي صارت غير متاحة ورديئة في بيئة رديئة ومستشفيات متهالكة وادوية منعدمة والمتوفر منها بمواصفات رديئة يقع نهباً للاحتكار والمضاربات والتخز
ين والتربُّح.
أقول الكابينة الاقتصادية بحجة للتفكير خارج الصندوق والبحث عن موارد حقيقية وشركاء دوليين يمكننا التسويق لمواردنا الكامنة عبر صيغ متعددة مثل (B.O.T) وغيرها من البدائل المعلومة.. الشاهد أنّ الوزير السابق البدوي وقبله حمدوك والوزيرة الحالية والعديد من الطاقم الوزاري كانوا على صلات وثيقة بحكم أعمالهم بالمؤسسات الدولية ولا أدري كيف يعجزون عن إستقطاب القدر اليسير من مقدرات هذه المؤسسات الضخمة قروضاً ومنح وشراكات.
المؤتمر الاقتصادي الحالي كشأن مؤتمرات سابقة في العهد السابق جعجعة اكثر من الطحين فكم من مؤتمرات للتعليم والصحة والاقتصاد والحكم انعقدت عبر السنوات ثم لم يجد المواطن في حياته اليومية إلا المزيد من العنت والمشقة والمعاناة أما هؤلاء المتمشدقين بإعتلاء المنصات للحديث فيبقى كل منتوجهم لا يتعدى حدود التنظيرات غير المجدية في واقع الحياة ومعاش الناس، ومن نافلة القول إنّ الحالة الماثلة اليوم ليست في حاجة لمؤتمرات اقتصادية وإضاعة وقت البلاد في التقاط الصور التذكارية وارتداء البدلات وربطات العنق التريكواز، إنّ مشكلة البلاد الأساسية في الحاجيات الأساسية بطبيعة الحال وفي مقدمتها الخبز نعم الخبز وهذا مؤلم ومؤسف أن يعجز اقتصاد دولة كامل عن توفير احتياطات خبز المواطنين بعد عام ونصف من الثورة المجيدة، ولم يعد مجدياً أن نعفي حكومة حكومة حمدوك من المسئولية وأن نداري عنها بأن نُعزي عجزها في توفير الخبز مجرد الخبز إلى الدولة العميقة و(الكيزان) فقد شبعت الدولة العميقة موتاً وهم بين المحابس والمنافي أضعف من أن يكون لهم دور في السودان وقد لفظتهم الثورة بعيداً بقرار الشعب الأعزل بعد أن يئس من الإصلاح ومعدلات الفساد المتزايدة.. ذات الشعب الذي ينتظر اليوم آماله المعلقة في الفترة الانتقالية التي تتقاصر أيامها وتتوالى والقوم يصطرعون ويمارسون التمكين الجديد في فاجعة جديدة للشعب الذي لم يكن همه من إزالة النظام السابق إلا بناء دولة جديدة بمفاهيم جديدة.. دولة يديرها المتجردون من أبناء الشعب بتجرد ونكران ذات وليس اصطراع وتقاطع مصالح وتهافت على المناصب والكراسي.. دولة يتمتع مواطنها بالعيش الكريم فمواردنا تكفي ولكن كيف نديرها على الوجه الصحيح هذا هو السؤال؟؟!!.
نعم أزمتنا الاقتصادية برمتها وللأسف الشديد هي أزمة خبز ومعيشة في أبسط تعريفاتها ووزير التجارة يضيع وقت البلاد والعباد في تكوين اللجان والبرامج التي لن تقتل ذبابة ولن تحل الأزمة لا عبر برنامج سلعتي ولا عبر لجان حراسة الطلمبات والمخابز غير أنها ستنتج لوبيات وكارتيلات فساد جديدة، إنّ حل أزمة الخبز بالذات تكمن في الوفرة وتقليل فجوة الندرة اما كيف سيتم تقليل فجوة الندرة فهذه مسئولية الوزير وإلا لن يستحق أن يجلس على كرسي الوزير يوماً واحداً فمهمته بالأساس تنحصر في معالجة الندرة التي انتجت أزمة الخبز وإذا كان الوزير يعجز عن توفير مدخلات الخبز فليس له مكان ليس الوزير مدني فحسب ولكن أي وزير في كل مكان في الأرض دعك من مسئوليات وزارة التجارة الجسيمة الاخرى التي يقف حيالها الوزير مدني بلا حيلة حيث تعجزه جزئية الخبز وتستغرقه حتى أخمص قدميه دون أن يفعل شيئاً ولا مجال هنا لمقارنته بوزير التجارة الذهبي السيد محمد يوسف أبوحريرة الرجل الذي عرف كيف يصنع الحلول الناجعة لمشاكل البلاد في ذلك الوقت الي يشابه هذا العهد بعد ثورة أبريل التي اقتلعت نظام النميري، الشاهد أنّ القضايا التنفيذية الفنية تحتاج للعارفين لا النشطاء والموالين وهذه أولى نقاط عجز حكومة حمدوك حين قدم الولاء الحزبي التنظيمي بينما كان الأجدر الاختيار وفق معطيات خبرات عملية وعلمية تعرف كيف تدير قضايا هذه الامور الخطيرة.
وثمة امر آخر لا يمكن تجاهله، حيث انصرفت الحكومة بكلياتها إلى الانغماس في مفاوضات الحركة المسلحة والسؤال المبدئي من يُفاوض من؟؟؟!!! ولماذا؟؟!! مفاوضات الحركات المسلحة جعلت الامر يبدو وكأنّ الحكومة الانتقالية هي الخصم وانتقلت حكومة حمدوك رغم حداثتها في الملعب السياسي إلى خانة العدو بالنسبة للحركات المسلحة وتمركزت الحركات في خانة المفاوض الشرس لتحقيق جملة مطالب متطاولة وهنا الشعب فقط الشعب هو المتضرر الاول كالعادة.
استغرقت المفاوضات قرابة العام وانتقل الأكثرية من اعضاء المجلس السياسي وانصرفوا إلى جوبا وكل يوم يظهرون في كامل أناقتهم يرسلون الوعود والاحلام الوردية بقرب السلام بينما الضغوط المعيشية تفعل فعلتها وتزداد قساوة كل صباح جديد، وها هم قد وقعوا السلام فماذا سيجني الناس في دارفور ومناطق النزاع في المنطقتين، هل سيصحون ذات يوم ليجدوا أنّ شيئاً ناعم الملمس مخملياً إسمه سلام جوبا قد حطّ بجناحيه عليهم فأحال واقعهم الكالح قمحاً ووعداً وتمني؟ بالطبع لا فللسلام استحقاقات باهظة تحتاج للتمويل الضخم وإذا كانت الحكومة التي تتفاوض تعجز عن الإيفاء بقطعة خبز لأطفال الخرطوم حيث التعايشي وحمدوك والبرهان فكيف ستوفر قطعة خبز ومأوى لأطفال المعسكرات في كلمة ونواحي مورني وكُلبُس حيث الحرب فعلت أقسى ما تفعله من التشريد فكافكم بالله عليكم متاجرة بقضايا وأشواق المساكين.
لقد كان من أوجب واجبات الحكومة الانتقالية كلها تركيز جهدها لاستنباط الحلول والبدائل في المشكلة الاقتصادية وليس إهدار الوقت في قضايا جانبية وسلسلة تعيينات وإقالات وتبديلات كراسي وقد بدا العجز واضحاً في التركيز الإعلامي على إقالة مسئول صغير في أقاصي ولاية سنار حيث يهلل الناس للانتصار الضخم وكان المسئولون يتماهون مع ذلك فيعلنون تعديلات على قائمة موظفي هيئة المياه في ريفي المدينة عرب فيهلل الناس مجدداً ثم يقيلون المدير التنفيذي للحصاحيصا فيهلل الناس من جديد ثم يقيل شاب صغير المدير التنفيذي لمحلية جبل اولياء في جلسة مفتوحة فيهلل الناس يهتفون بالوالي الغالي حبيب الناس.
يحدث كل هذا التغييب المتعمد والمشكلة الاقتصادية تتفاقم وتتزايد حتى اتسع الفتق على الراتق ولم تجدِ إزاء ذلك سياسات اللجنة الاقتصادية برئاسة حميدتي ونيابة حمدوك فقد ذهبت كل تدابيرها أدراج الرياح فالدولار لن يجدي معه الصراع كما قال الجنرال حميدتي الدولار يعرف فقط الوفرة والعرض والطلب وتوازن قوى السوق الافتراضية، لم تنفع ولن تنفع (كشات) الدوريات لتجار السوق العربي لمحاربة الدولار ولا ديباجات الوزير مدني في تسعير سلع لأنّ الندرة تتسع والطلب يفوق العرض والتضخم يتزايد ووزيرة المالية تنتظر أن تجني نتائج من الحلول العسكرية والبوليسية للمشكلة الاقتصادية ولم يدرس أي طالب مبتدئ في شهره الاول أن حل المشكلة الاقتصادية يكمن في الحلول العسكرية والبوليسية بل يدرسون جدليات العرض والطلب وما بينهما.
في زمن النظم البائد تمت عسكرة قوات الجمارك لملء الفجوة التي تخلفها نجاعة الإجراءات الاقتصادية فاستعانوا بالترهيب العسكري فأصبحت الجمارك حائرة بين الداخلية والمالية ولم تتوقف عمليات التهريب حتى اليوم فمربط الفرس في تقوية دائرة الانتاج والتوزيع وتحفيز المستثمرين مثلاً، وإذا سارت الأمور على شاكلة الإستعانة بالحلول العسكرية في مقابل العجز عن معالجات وآليات فنية اقتصادية نتوقع في عهد الوزيرة المتحمسة للحلول العسكرية هذه أن تتم عسكرة الضرائب وتحيلهم إلى ضباط ضرائب، فمعدلات الربط على الضريبة وتقديرات حصائلها السنوية لا تخلو من عدم الدقة، ولذلك تعاني من التهرب الضريبي وضعف الربط الشبكي والتسجيل الالكتروني بينما يمكن للوزيرة أن تفعل من دور الضرائب في دعم الموازنة بحوسبتها بالكامل واعتماد الفواتير الالكترونية التي ستمنع أي تهرب ضريبي وتفعيل الإقرارات الضريبية الالكترونية المرتبطة رأساً بديوان الضرائب وإيقاف العمليات اليدوية تماماً في الديوان والتقديرات الفردية التي اغتنى منها أفراد وتسربت معها موارد الدولة تحت سمع وبصر وزارة المالية.
كنا نتوقع أن نسمع ونرى في مداولات وجلسات المؤتمر الاقتصادي أوراق قوية تناقش الاقتصاد السوداني بواقعية وقوة وأن تتناول هذه الاوراق بواسطة الخبراء والدارسين القطاع التقليدي ومدى مساهمته في الناتج القومي، ومعوقات القطاع الصناعي ومدى مساهمته في حل الازمة الحالية، وأوراق عن مشروع الجزيرة وحلول تنتزعه في المدى القصير من وهدته بينما تتحقق في ذات المدي القصير عوائد كذا وكذا بالأرقام، كنا نتوقع اوراق عن الذهب بالكميات والأرقام والتهريب والتهرب الضريبي ومشكلات الضرائب وكيفية تفعيل دةرها في زيادة مداخيل وزارة المالية التجربة السعودية القريبة من السودان تجربة قوية جداً في زيادة الاداء الضريبي يمكن تناولها والإفادة منها وتنفيذ خطواتها في بلادنا، إلى جوارنا تجارب ناجحة في الرقابة المالية والإدارية والضرائب وأنظمة الحكم البلدي لماذا لا ننقل منها بما يفيدنا فعلاً، وعلى أيام النظام البائد يرسلون الوفود إلى سنغافورة وإلى كوريا وسويسرا وهولندا وألمانيا للإطلاع على تجارب تلك الدول في ضريبة القيمة المضافة والبلديات وغيرها من (الاستهبال) الإداري ولا نجني من تلك الرحلات شيئاً وقد رأيتُ أحدهم بعثوه ضمن وفد إلى حكومة دبي للإستفادة من تجربتها في تدريب الموارد البشرية فجاء هذا الموظف يحمل في جيوبه عدد من موبايلات وجوالات (الجلاكسي) باعها في السوق وهذه كانت أكبر فوائد الرحلة الميمونة.
والملاحظ أنّ المؤتمر استنتج في ختامه قائمة طويلة عريضة من التوصيات التي سيصعب الإمساك بتلابيبها وكان الأجدى ضغط التوصيات بكافة محاورها في عناصر رئيسية حتى يسهل العمل علي تنفيذها بخطط واقعية وان لا تبقى حبيسة التنظير والاوراق كشأن العديد من فعاليات المتجبهجين في عصرهم البائد.
ما رأيناه وشاهدناه من مداخلات ومشاركات خلال المؤتمر الاقتصادي تشير بوضوح إلى عدم نضج الفكرة قبل تنفيذها وربما جرى إقامته -المؤتمر- على عجل لأسباب سياسية كشأننا عادة في مثل هذه الموضوعات الكبيرة، لكن الثابت أنّ الواقع الاقتصادي اليوم لا يحتاج لمؤتمر ولا يحتاج لكثير كلام طالما هنالك ندرة تتسع كل يوم فلن نكون بمنأى عن مخاطر الانفجار في أي لحظة، والمعروف أن الاستقرار الاقتصادي هو رأس الرمح للاستقرار الاجتماعي والعسكري كما هو معروف في مناهج مبادئ الاقتصاد.
khaldania@yahoo.com