المسكوت عنه في الحياة السودانية.. من ود عدلان إلى زمن البرهان (3)
نحن - معاشر السودانيين – نعشق كثيراً الوقوف خلف حوائط الماضي والتاريخ .. نُمارس البكاء علي الأطلال .. ثم نجد السلوى في صدي الذكرى..
وكأننا المقصودون بكل عام تُرذلون .. ورغم أنّ الغد موصوفٌ دائماً بالإشراق إلا أنّ غدنا لا يُنبئ بذلك.. ولا نحتاج لبراهين لإثبات أننا نغُذُّ الخطى للوراء فالواقع أصدق دليل باستخدام الملاحظه كأبسط طريقه إحصائيه للوصول للنتائج.
أجيالنا السابقه تتحدث بكثير من العرفان عن الأمس والذي ما عاد يُماثل اليوم في شيئ .. رغم أنّني اكاد أُجزم غير باغٍ أنّ البون ليس شاسعاً (والحال من بعضو) منذ ما قبل أيام ود عدلان إلى زمن البرهان، لأنّ النتائج بمقدماتها ولأنّ اليوم وليد الأمس.
وحالنا اليوم كسودانيين ليس صنيعة الصدفه إنّما بفعل فاعل .. هذا الفاعل هو نحن .. نحن السودانيين أنفسنا بمختلف أجيالنا.
فهل نحن شعبٌ تنقصه العبقريه ؟! أعني عبقرية صناعة الحاضر لنستقبل أياماً تُغري بمغادرة حوائط المَبكَي.
مشكلتنا أننا ننظر دائماً للوراء فنتعثّر ثم لا تُصلح هذه العثرات المشي وما تركناه وراءنا هو بعض الحال.. الحال الذي يُغني تماماً عن السؤال.
حدثوني عن إنجاز أو أيامٍ خوالٍ نذرف عليها الدمعات .. لنَقُل الإستقلال .. هذه المنحه الإنجليزية البحتة ، فالإنجليز بمثلما سيّروا إلينا الجيوش وأخضعونا للتاج البريطاني عندما تحديناهم بثورتنا المهدية وراسلنا الملكة فكتوريا بلسان الخليفة عبد الله بلهجةٍ آمرة لا تخلو من الغرور أن تُسلِم كي تَسلَم ونكافئها بالزواج من الأمير يونس ود الدكيم .. نعم هكذا تذكر كتب التاريخ .. ولم تُسلم الملكه كي تَسلَم، لكنها جرّدت التجريدات التي إجتاحتنا شبراً شبراً واستعمرونا مشكورين لسنوات كانت نِعمَ الإستعمار تركوا لنا خلالها بنيةً تحتيه لا يُستهان بها ليس أقلَّها مشروع الجزيرة ولا خطوط السكك الحديديه ولا جامعة الخرطوم ولا أنظمة الخدمة المدنية والقائمة طويلة ، الشاهد أنّنا لم نُضف جديداً لما تركوه في هذه المرافق كمثال بل دهورناها بجدارة إلي محطات الرمق الأخير.. أقول بمثلما هم إجتاحونا عسكرياً فهم كذلك وبمحض إرادتهم بارحونا ذات صباح شتوي على انغام الموسيقى دون أن نفقد قطرة دم واحده كالجزائر مثلاً .. أعطونا إستقلالنا كصحن الصيني لا شق ولا طق أو كما قال الزعيم الأزهري ورفعنا علم استقلالنا، وزعماؤنا يرتدون ربطات العنق الأنيقة ويتبادلون الابتسامات التي ما لبثت أن تحولتْ إلى لكمات فيما بين ممثلينا الوطنيين في البرلمان التأسيسي ثم لم تلبث الصراعات الحزبية أن دحرجتنا إلى الدائرة الجهنمية التي لا نزال نقبع فيها حتى اليوم بين العسكرتاريا والمدنيين المؤدلجين بين اليمين واليسار والطائفية التقليدية، فبعد سنتين فقط قام الاميرلاي عبد الله خليل رئيس وزراء أول حكومة بعد الاستقلال وبمباركة حزب الأمة بتسليم (كيكة) السلطة مغلفة باوراق السوليفان إلى الفريق عبود ليؤسس لثقافة الإنقلابات العسكرية وحكم العسكر (الما بتشكَّر) في منظومة الحكم الذي لم يشهد استقرارا في روليت السلطة والثروة حتى لحظة كتابة هذه السطور.
وقد سبق وذكرنا في المقال الاول من هذه السلسلة حينما كان عماره دنقس وعبد الله جماع يؤسسان ملكاً كما حملت عناوين التاريخ السوداني بكل الفخر في العام 1505 إلى أن قام إسماعيل باشا بإسقاط الدولة السنارية التي تقاسمت ضمن دويلات اخرى هذه البقعة التي أطلق عليها الإستعمار الانجليزي حتف الأنوف إسم السودان حيث لم يكن للسودان مدلول جغرافي لبقعتنا الحالية إنما مدلول إثني وديمغرافي لرقعة عريضة تمتد من البحر الاحمر للمحيط الهادي من أرض السودان في مقابل أرض البيضان فاللفظة لها دلالة عنصرية بائنة إستمرأها المستعمر الانجليزي واستسهل إطلاقها حين (لملم) حدودنا على عجل بما فيها دارفور بعد السلطان علي دينار وصراعات اعالي النيل وفازوغلي وفشودة والزبير باشا والبازنقر وتاريخ طويل من التعقيدات التي استولدت السودان ولذلك ليس مستغرباً إطلاقاً أن تنفجر كل حين براميل البارود المختبيئة تحت التباين العشائري والقبلي والديني شمالاً وشرقاً وغرباً وجنوباً ناهيك عن الإثني وهذه قضايا لا يمكن إنكارها وتجاوزها بأي حال من الأحوال فهي تعقيدات تاريخية مزمنة تجاهلناها طويلاً ومثل هذه القضايا لا يمكن معالجتها بالتجاهل او تطييب الخواطر أو الاتفاقيات المكتوبة بحبر باهت، مثلما حدث وسيحدث كثيراً منذ أوان المائدة المستديرة واتفاقية اديس أببا والحكم الاقليمي ونيفاشا وجوبا الأخيرة كلها ذابت وستذوب مثلما يذوب لوح ثلج في صيف السودان القائظ، ولن نكون بمأمن من هذه المخاطر إلا بحلول عملية ومعالجات واقعية تبحث في جذور مشاكلنا التاريخية وتقاطعاتنا العشائرية والدينية والثقافية والإثنية والغبن المكبوت في النفوس والموروث طويلاً والغعتراف بها على رؤوس الأشهاد.
تروي كتب التاريخ فيما تروي إنّ الشيخ بشير ودعقيد سافر إلى مصر وطلب مقابلة محمد علي باشا ليعينه على خصومه الذين انتزعوا مشيخته فأبقاه الخديوي حتى أرسله مع الجيش الغازي للسودان وكافأه بمشيخة نظير مرافقته للغزاة، ثم سار الجيش متجهاً إلى سنار عاصمة الفونج وكان يحكمها ودعدلان الذي انتابته الحالة السودانية غير المحمودة في امتطاء الغرور وتضخيم الذات فبعث برسالته الشهيرة للخديوي (لا يغرنك انتصارك … الخ) ولم يكن ودعدلان يعيش واقع عصره وكان يستعين بالأولياء والصالحين بدلاً عن تجنيد الجند وتجهيز العتاد كما ذكرت الكثير من أدبيات تلك الفترة، وودعدلان نفسه انشغل كثيرا بمعاداته لأبناء عمومته وقتل منهم كثيرين ولذلك كان فريسة لتربص أبناء عمومته هؤلاء حتى اغتالوه قبل أن يتمكن من صد الهجوم على سنار فخلفه الأرباب دفع الله وزيراً وبادر بمفاوضة إسماعيل باشا ورغبة السلطنة في الخضوع له، ولما اقترب الجيش من سنار خرج إليه بادي السادس متنازلاً ومبايعاً للسلطان العثماني في تركيا وتم تعيين بادي ليكون شيخاً بدلاً عن سلطان كشأن أسلافه فقط مجرد شيخ على سنار وموظف ضرائب يجمعها ثم يسلمها صاغراً للإدارة التركية المصرية الجديدة فتأمل بالله عليك كيف نُدمن الخضوع وهذا من المسكوت عنه في كتب التاريخ الانتقائية التي لا تناقش مخازينا في الخضوع للأجنبي وهذه قضية أزلية وقع في براثنها الكثيرون من أبناء هذا السودان في الجهر وفي الخفاء.
لقد أنهك الصراع القبلي المزمن قوانا تاريخياً فلولا التشرذم والمكائد لما وجد إسماعيل باشا طريقه ممهداً بهذه السهولة المخزية، والشئ بالشئ يُذكر فإنّ لقب أرباب الذي اشتهر في دولة الفونج لا يُمنح لمن كانت أمُّه من عامة الشعب حتى وإن كان أبوه أرباباً، فالنظام هنالك إقطاعي بحت، لا يسمح بالقفز من أسفل الهرم لأعلاه وهو نظام اقطاعي قاسي أفرز واقعاً مجتمعياً لا تزال مظاهره ماثلة حتى اليوم بصورة أو بأخرى.
لقد إنغمسنا كثيراً في أوهام التعايش السلمي وأوهام الريادة والقيادة .. ورحم الله أمرءاً عرف قدر نفسه.
يحدثونك عن العصور الذهبيه في السياسه السودانيه .. ولم يحدث أن تسنَّمنا موقعاً يُعتدُّ به عالمياً وإقليمياً مثلما فعل المصريون في الأمم المتحده وجامعة الدول العربيه برغم موقعنا الإستراتيجي المزعوم كمعبر بين العرب والأفارقه أو كما نقول .
ولم نزَلْ بعد في مرحلة الجمعية التأسيسيه التي تنبعث كل ذات ديموقراطيه جديده دعك من طريقنا الشائك في رحلة البحث عن دستور دائم للبلاد.. ولم نتمكن حتي من ترسيخ منهجيه راشده في الحكم منذ بواكير العهد الوطني ، ولم نَرِثْ بطبيعة الحال غير هذه الحاله المزمنه التي يُرثَي لها الموسومة بالسفسطائية.
يحدثونك عن العصر الذهبي للكرة السودانية برغم أنّ الكره السودانيه هذه لم تلعب يوماً في كأس العالم ولم تحظَ بمنصات التتويج عدا مرةً يتيمةً عبدناها كأصنام قريش وعشنا علي صداها ولم نحرث غير مزيد من التدهور المريع في كافة الأنشطة الرياضية، ولم يكن لدينا مثلما لدى الأقربون لاعباً واعداً واحداً صنديد المواهب يلعب في دوريات المحترفين الأوروبيين، بل إنّه ليست لدينا بنيات أساسيه رياضية معيارية موروثة علي نحو ما نُشاهده عالمياً وإقليمياً وحتي في دول الجوار.
يحدثونك عن العصور الذهبية في الخدمة المدنية.. أتذكّر هنا حديثاً لأحد البياطرة الشهيرين وصل لدرجة البروفيسور في الجامعات السودانية حين قال أنّه مُنع من دراسة كلية الطب في الستينيات بعدما سألوه في المعاينة عن أسرته وهل فيها من درس الطب؟ ثم أستبعدوه برغم تأهيله الأكاديمي لصالح إحدي بنات الأُسر المعروفه مع محدودية المقاعد وقتها ولعلّ ذلك مما يشير أنّ سوس المحسوبية والمجاملات وبنية الإقطاع المستتر قد وجدت مسراها باكراً فأخذت طريقها سرباً وطرباً وتمكنت من مفاصل الخدمة المدنية عندنا، فإبن فلان يرث والده قبل أن يُغادر والده مقعده في الوزارة والسفارة وهذه الظاهرة موجودة في الشرطة والقضاء والنيابة والجيش وحتى الإذاعة والتلفزيون تجد عائلات بأكملها تحتكر المواقع هنا وهناك .. هل تُراني بحاجه للمزيد من سكب الحروف والأمثله هنا .. ربما إلتفاته واحده يمينك دعك من يسارك تكفي.
الحضارات لا تتجزأ ولذلك فالحاضر وليد الماضي لكن أن نجترّه بإدمان هكذا ونضخِّمه لا لشيئ إلا لأنه يرتبط في أذهاننا بالذكريات العزيزة وعن يوتيوبيا نتخيلها مثلما تفعل أجيالنا المتعاقبة فهذا ما أخرج آدم السوداني من الجنه.
تماماً مثلما أخرجت التفاحه أبا البشريه من الجنه أخرجت الذكريات المحنّطه آدم السوداني من جنة التقدم والرفاه .. إنّ العيش علي صدي الذكري لا يُسمن ولا يُغني من جوع .. ومثلما أسلفتُ فالحال الماثل الآن من بعض الذي كان .. تتوالد الأجيال تحمل نفس الصفات الوراثيه .. نتوارث ذات العقده المزمنة .. عقدة العصور الذهبيه الموروثه كابراً عن كابر وجيلاً بعد جيل عصور ذهبية شيدناها بالأحلام في دنيا الأوهام.. ثم ندندن (بفنجرية) نحنا الساس ونحنا الراس.. والزارعنا غير الله يجي يقلعنا .. ونحن اولاد بلد نقعد نقوم على كيفنا.. وغيرها من مؤشرات تمجيد وتضخيم الذات.
أيها السودانيون .. أبوكم آدم سنّ المعاصي وعلّمكم مفارقة الجِنان … أمكم حواء أيضاً شاركته في هذا..
نواصل..
khaldania@yahoo.com
شارك هذا الموضوع: