الحب والموت في مدائن كمبال

حسن عثمان - 01-11-2022

منذ رحيله الفاجع قبل عدة سنوات ، لم أكتب كلمة واحدة عن عبد الواحد كمبال، ليس لأني لا أحب المراثي وما يتفرع عنها من وجع متجدد ولكن لأن كمبال، لفرادته وغرابته وتعدد صفاته، لم يكن ، في نظري ،موضوعا للكتابة. ففي أغلب أحوالي وتقلبات مزاجي لا أكتب إلا عما أعرف وما يمكنني احتماله من فيوض الحب والعرفان.
الآن ، وبعد أربعة عقود قضيناها في تبادل الود اليومي والخصام اليومي والمشاكسة اليومية لا اعرف عن عبد الواحد كمبال أكثر من أنه كان كوكبا من مجرة خارج درب التبانة، وأنه مثقف عضوي بالقياس الغرامشي وأنه ،لبساطته وعفويته، مجرد "تربال" * بربطة عنق، وانه خليفة غير متوج لحاتم الطائي، وانه ذاك المتطرف في محبته لسائر خلائق الله.
وأشهد، مع ذلك، أني لم اعرف عنه شيئا يؤهلني لمقام الكتابة عن ذاك الكائن الأسطوري الذي يبدأ يومه بتلبس بعده الثلاثي(Third Dimension) وينهي ليله بالخروج من كل الأبعاد الأليفة في المخيال البشري المتواضع.
وها أنا أتذكره الآن كرفيق أسفار عديدة بين الرباط ومراكش وأصيلة وطنجة وأكادير ومدن أخرى لا تسعها خريطة المغرب ولا تقوم اصلا إلا في خياله الخصب ولا تستنفذ من طاقته إلا ما يعينه على الإنتقال من المطبخ الى غرفة الجلوس.
أحيانا، لا يهمك في السفر اين تذهب ولكن مع من. وللسفر ،مع كمبال، اشراط عديدة اولها قبولك ان رحلتك قد تنتهي قبل أن تبدأ او قبل أن تبلغ مبتغاك لأن رفيقك متعدد الأبعاد يعاني رهاب الأماكن المرتفعة ويخشى كثرة اللجاج وفارغ الكلام عندما تغشاه نوبة حزنه القديم وهو يردد "حليل أم در حليل ناسا".
"حليل"عبدالواحد كمبال الذي كان ،في ما أعرف، آخر العنقود في سلالة المثقفين السودانيين الذين قتلتهم الغربة بالاحباط والإحساس المفجع بالعجز عن الوفاء بعهودهم لوطن تركوه فريسة للكواسر والضباع وقطاع الطرق.
كان يحلو له، ليلة بعد أخرى ، ان يردد لازمته  الشهيرة:" من ليس له وطن/ليس له في الثرى ضريح"، ولكنه يرقد الآن في مقبرة العلو بالرباط ويرصد في ما يقابله من المحيط حركة أمواج يحلم بأن تحمله الى مقابر فاروق بالخرطوم. ولكن، هل يحلم الموتى في رقادهم الطويل؟ لو انهم يفعلون لكان عبدالواحد كمبال أول المتحلقين حول موائد الأنس في مقر نقابة الصحفيين أو آخر العائدين من الحقل في قرى الفقر المقيم بالولاية الشمالية.
كان يحب المغرب حد الهوس، ترابا وأناسا وطرائق عيش وتنوعا ثقافيا مذهلا ولكنه لم ينجح أبدا في التصالح مع اللهجة المغربية ولم يدرك منها إلا أبسط مفردات التداول والتواصل اليومي لأنها ، في اعتقاده الراسخ ، أشبه ب"قلع الضروس". ومع ذلك، كان يعرف احدا أينما توجهنا ولا فرق عنده بين أن يكون سياسيا ،صحفيا أو سائق تاكسي. كانوا يعرفونه بما يكتب ويعرفهم بما يحب فيهم ويقربهم اليه ولكني لم اعرف أبدا كيف كان يراني عندما يستكين الى بعده الثلاثي ويغلق ما تصلنا به من ابواب لا تصلح أصلا للتواصل بين المخلوقات.
كانت اسفارنا المشتركة ضربا من السيريالية والعبث الخلاق واعادة اكتشاف الاستثناء المغربي والبحث المنهك عن الوطن البديل.
والآن، أينما توجهت ، يطالعني عبد الواحد كمبال ،بقامته المديدة وضحكته الصاخبة، وهو يعلن أن "من ليس له وطن/ليس له في الثرى ضريح". ولكن لتنم هانئا يا عبد الواحد ،وسعتك الرحمة، فكل مدائن المغرب لا تزال تسأل عن "كمبل"، ذاك السوداني الذي لم يعد يطلق ضحكته الفريدة في فضاءاتها العامة ومجالس أنسها العامرة. "حليلك"يا عبد الواحد وحليل أم در حليل ناسا. ولنا موعد قد لا يطول أجله ولكن، رجاء لا تغلق الباب دوني وتذهب منفردا الى مدائنك الجديدة.