الى طارق عثمان وعبدالله محمد عبدالله ومحجوب البيلي وخالدة حفيظ وسائر أهل المودة في أصقاع العالم
لا ازال اذكر، مرة بعد أخرى، ما قاله ستيفان مالارميه ذات قصيدة : "لقد قرأت كل الكتب، واحسرتاه، ولكن الجسد حزين".
وكلما تذكرته أدركت ان المعرفة مهرجان الروح والجسد جوقة منشدين يستبد بها الفرح تناغما وتماهيا مع فيوض العرفان، وان ملارميه لم يفعل شيئا غير هدم آخر عتبة في البرزخ العلوي الواصل بين الثقل الفيزيائي للبدن والخفة اللامتناهية للروح.
عموما ، قد لا يستدعي الأمر إعادة التبصر في مقولة وحدة وعلائق المكونين ولكنه يطرح ذات الأسئلة المقلقة حول التعارض الفاضح بين أثيرية الروح والكثافة المادية لجسد لا يعرف كيف يطير ويعلو على أديم الأرض.
والشاهد أن الكتب ، كل الكتب واحسرتاه ، بشعرها وسحرها وعلومها وفنونها ، لم تخرج جسد مالارميه من موته "الروحي" الفادح. وها ما نحن إزاؤه: روح تغص بالفرح وجسد خامد حزين ، روح موقوفة للأعالي وجسد خامل من التراب الى التراب.
ربما يلزمني أن أعترف بأنني لم أقرأ كل الكتب ولكني أدعي معرفة ذات الوجع الذي لحق بستيفان مالارميه ويجعلني الآن عاجزا عن الاجابة على سؤال أهل المودة :"لماذا لا تكتب؟".
حسنا ، كيف أكتب وقد شبع العالم موتا وجوعا ومرضا وتفاهة اسفيرية فادحة وسوء تقدير وتدبير ولم يبق ثمة هامش لحلم جديد يستحق ان نصلي على أعتابه خاشعين؟
كيف اكتب وقد أصبحنا نبحث عن توصيفات الحب والصداقة والإلفة في محركات البحث في الانترنت؟
كيف اكتب وهذا الفضاء المطرز بالرصاص لم يعد آمنا لعبور الحمام؟
ما أسهل ان نلامس هذا الجرح العصي مرة بعد مرة لنستعيد وعينا الشقي بأن "كل" الكتابة باطلة وقبض الريح ، وأن عالما يحلم به الشعراء والتشكيليون والفلاسفة ومهندسو الوجع الانساني لا يتماثل بالضرورة مع عالم يصنعه اصحاب الحال من السياسيين وتجار الحروب وورثة العقول التي لم يمسسها الهواء النقي.
هذا السؤال الملحاح الذي أجاب عليه مالارميه بشطر بيت واحد هو ذات ما طرحه شاعر عربي أدركه الحزن فخرج لذاته يجلدها ويسائلها: (ماذا فعلت بالوردة ، ماذا صنعت بالذهب؟). ولو تطوع مالارميه للإجابة لما قال شيئا غير: (لقد قرأت كل الكتب ولكن الجسد حزين) ولو جزمت بأنني لن اكتب فستسقط عني ، إلى حين ، تهمة سرقة النار من قمة الأولمب حسب مرويات الميثولوجيا الاغريقية. ولكن كيف سأنجو من هذه الورطة بكامل روحي وبعض جسدي وهما يرددان معا نشيد إنشاد لعالم جديد؟
شارك هذا الموضوع: