في أوان التسعينات والزهو السلطوي يستبد بالمتجبهجين والمتجبهجات من الموالين الجدد جاء أحدهم محافظاً لإحدى المحافظات التي كانت تنشطر مثل الأميبيا بحثاً عن مناصب جديدة لعهد التمكين الذي كان نواة لكل التدهور المريع في كافة مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاخلاقية حتى لحظة كتابة هذه السطور.
جاء هذا الأحدهم ويدعى (خ. ب) ينتعل مركوباً وجلباباً من الساكوبيس المهترئ يسبقه رتل من حاشيته بحكم الوظيفة الجديدة، عينوه محافظاً بشهادة الولاء فقط وبفقه التمكين في زمن علي الحاج إبان تنظيراته في الحكم الإتحادي الذي وصفه المرحوم محمد طه محمد احمد بأنّه حبال بلا بقر، لم يحصد المواطنون شيئاً من ذلك المحافظ الذي أنهك السيارة الحكومية الفارهة في مشاوير متكررة لقريته بسائقها الأمي الذي كان (يخلف كراعو) داخل مكتب المحافظ ليوزع التعليمات هنا وهناك (عمك قال وعمك ما قال) والغريبة أنّ الولاء والتمكين مثلما استولد طبقة من أنصاف المتعلمين المستنفعين استولد كذلك طبقة أنكأ من هذه تكونت من حاشية وأقرباء المسئولين عاثوا فساداً وإفساداً ولذلك لم نكن نستغرب ان نجد سائق المحافظ في سنة من السنوات يمتلك (بيت ناصية) وسيارات وحوافز ومكافآت علاوة على السلطة التي يحقق بها مآربه بسهولة بحكم أنّه (سواق المحافظ)، المهم.. انقضت سنوات ذلك المحافظ الذي انتقل بعد نهاية خدمته للخرطوم من قريته النائية ليسكن في أحد الأحياء الفارهة جنوب الخرطوم لكنّه لم ينسى بلدته التي امتلك بين مزارعها العديد من قطعان الأبقار والأنعام، هذا الرجل يغوص الآن في الزحام وربما صار ثورجياً، مثلما فعل مفتش الغيط (أ.ع) ذلك الموظف محدود القدرات الذي تسلَّق الزانة التي سمح بها (الجبهجية) لكل من هبّ ودبّ ليتسنّم مناصب الوزارة في أكثر من ولاية ثم تسلل مختبئاً دون أن تناله يد الحساب والعقاب بعد أن إمتلك لنفسه ممتلكات وعمارات وما خفي اعظم، ومثلهما معلم بإحدى المدارس الصغرى (ع. س) قفز هو الآخر بزانة التمكين وموالاة (الجبهجية) ليصبح عضو مجلس تشريعي واغتنم فرصته في المال العام وصار من أثرياء زمن الغفلة دون أن يسأله أحد (تلت التلاتة كم)؟؟!!
النماذج كثيرة وطويلة ومعروفة، لكن القاسم المشترك بين الكثيرين من مسئولي النظام البائد أنهم كانوا بلا تأهيل كافي لشغل الوظائف الجسيمة التي تسنموها، وأعني بالتأهيل في المقام الأول التأهيل الأخلاقي قبل التأهيل العلمي والعملي، ولذلك انسرب عدد كبير بلا تمحيص داخل مفاصل الدولة في لوثة سنوات التمكين وكانوا هم نهاية المطاف سبباً في انهيار الحكم البغيض بسبب تراكم الفشل والفساد الذي أنتج ثورة ديسمبر التي إنهار معها نظام البشير بدراماتيكية تدعو للتأمُّل.
التحدي الآن ليس في تفكيك الحكومة البائدة من أعلى الهرم إلى أدناه لكن يبقى التحدي في استقصاء هؤلاء المفسدين الذين استباحوا المال العام ثم يحاولون التواري في الزحام وكأنّ شيئاً لم يكن.
هوس التمكين الذي ابتدعه النظام البائد وأفرز رهطاً من الانتهازيين هو الخطأ الجسيم الذي كان مثل دابَّة الأرض التي أكلتْ منسأة النظام البائد غير مأسوف عليه، وهو ذات الخطأ الذي يجب أن تتفاداه حكومة الفترة الإنتقالية في تعيينات الهياكل التنفيذية والتشريعية والسياسية في الفترة المقبلة بكافة مستويات الحكم.
ونواصل في حكاوي الجبهجية وحكاية وزير (الموز واللحمة المفرومة).
شارك هذا الموضوع: