عرض تحليلي وتلخيص اوراق مؤتمر سياسات الاقتصاد الكلي يناير 1986

محمد محمود الطيب حسن النور - 03-10-2020

بمناسبة عقد المؤتمر الاقتصادي القومي
عرض تحليلي وتلخيص اوراق مؤتمر سياسات
الاقتصاد الكلي يناير 1986
د٠محمد محمود الطيب


من أهم المؤتمرات الاقتصادية في تاريخنا المعاصر مؤتمر سياسات الاقتصاد الكلي والذي نظمه مركز الدراسات والبحوث الانمائية (جامعة الخرطوم) بالتعاون مع منظمة فردريش ايبرت الألمانية وانعقد في الأيام من 13 وحتي 15 من يناير. 1986 بقاعة الصداقة بالخرطوم٠
عقب الانتفاضة العظيمة في مارس ابريل 1985 والتي أدت الي سقوط نظام حكم الفرد واستعادة الديمقراطية عم شعورا عاما بالفرح والتفاؤل المبرراذ شعرالمواطن وتنسم عبيرالحرية والديمقراطية لأول مرة بعد فترة حكم ديكتاتوري بغيض وكانت البلاد تستعد لبزوغ فجر جديد تسوده الحرية والديمقراطية والعدالة وفِي تلك الأجواء كان الشأن الاقتصادي الهم الشاغل لكل الناس وكان الأمل كبيرا في ان يتمكن النظام الديمقراطي الجديد من تغيير الواقع الاقتصادي المرير من جراء فشل سياسات النظام المايوي وان يتمكن النظام الجديد من اجراء إصلاحات أساسية وهيكلية تمكن المواطن البسيط بالشعور بالامن والامان الاقتصادي والسياسي٠
وفِي تلك الاجواء عقد المؤتمرالاقتصادي الهام والذى يكاد ان يكون الاول من نوعه في تاريخ السودان الحديث وكان يهدف الي دارسة الواقع الاقتصادي المرير من جراء سياسات نظام مايو والبحث عن سبل الإصلاح واستشراف المستقبل من خلال تقديم دراسات شاملة قدمت من خيرة الخبراء والاساتذة الاجلاء في مجال الاقتصاد والسياسة وكان المؤتمرتحت إشراف كلية الاقتصاد جامعة الخرطوم ومساهمة من منظمة فردرش ايبرت الألمانية٠
ورغم انقضاء العقود والسنوات الا اننا نجد ان هناك الكثيرمن الدروس والعبروالفائدة العلمية والاكاديمية والعملية يمكن ان تستخلص من الاواراق القيمة التي قدمت من اساتذة اجلاء وعلماء افاضل نسأل المولي عز وجل الرحمة والمغفرة لمن مضى منهم ونتمنى دوام الصحة والعافية لمن مازال مقيما بيننا اطال الله في عمرهم المديد٠
في هذا المقال محاولة عرض وتلخيص وتحليل لأهم ما جاء في تلك الأوراق التي قدمت في كتاب طبع بعد المؤتمر ليكون توثيق تستفيد منه الأجيال القادمة٠
ولقد رأينا أنه من المناسب الان وفي هذا التوقيت ونحن على اعتاب المؤتمر الاقتصادي المزمع عقده في نهاية سبتمبر 2020 ان نقوم بعرض هذا الجهد العلمي القيم بدلا من يكون حبيسا الاضابير المكتبات ويقدم ويستفاد من بعض التوصيات الهامة والتي نرى أنها مازالت تعبر عن واقع الحال بشكل يدعو للدهشة رغم مرور كل هذه السنوات بل العقود٠
وتوخي الامانة العلمية والدقة كان يجب أن يكون المؤتمر الاقتصادي الحالي هو المؤتمر الاقتصادي الثاني لأن المؤتمر الأول كان قد عقد في يناير 1986 ونستعرض أوراقه في هذا المقال٠
وفي اعتقادنا الخاص ان مايجعل هذه الاوراق والتوصيات ذات فائدة ويمكن ان يستفاد منها ان هناك مازال بعض التشابه في الأوضاع والظروف الموضوعية والسياسية إلى حد كبير يدعو للدهشة ويمكن تلخيصها في الاتي:
أولا/ الطبيعة العسكرية الدكتاتورية للنظامين (نظام مايو ونظام يونيو) واستيلائهم على السلطة عن طريق الانقلاب والحكم بالقبضة العسكرية الأمنية القمعية والدولة البوليسية٠
ثانيا/ ايديولجية النظام المعتمدة علي استغلال الدين والمتاجرة به واستخدام الجهاد وأسلمة المجتمع كأدوات للتمكن والسيطرة وبسط نفوذه٠
ثالثا/استخدام الدين في الاقتصاد وأسلمة النظام الاقتصادي في المعاملات المصرفية وفِي الزكاة٠تحول النظام المصرفي في عهد النميري الي نظام البنوك الأسلامية بأيعاز من الاسلامين بقيادة حسن الترابي٠
رابعا/ سيطرة طبقة الطفيليين المتأسلمين والتي تعمل في مجال المضاربات في العملة والعقارات والسيارات والمحاصيل واخيرا الذهب والابتعاد عن الأنشطة الإنتاجية كالزراعة والصناعة وذلك بدافع تحقيق الربح السريع بأقل جهد وأقل مخاطر ساعدهم في ذلك قيام البنوك الاسلامية بتمويل نشاطهم الطفيلي٠
خامسا/ الارتباط بمؤسسات التمويل الدولية والالتزام بتنفيذ روشتة صندوق النقد الدولي للحصول على قروض أو استشارات فنيه والالتزام بتسديد الديون المتراكمة وفق برامج اعادة الجدولة٠
سادسا/ تغيير سلوكيات المجتمع وتحويله إلى مجتمع استهلاكي طفيلي غير منتج و تفشت ظواهر اجتماعية سيئة نتيجة لذلك كالسرقة والاحتيال والدجل والشعوذة والصرف البذخي والتفاخري والاستهلاك المفرط من البضائع المستوردة٠
في مقدمة المؤتمر استهل الدكتور بشير عمر فضل الله وزير المالية في فترة الحكم الديمقراطي 1986 بكلمة ضافيه جاء في كلمته الاتي:
تحت ظل حكم الفرد واحتكار الحكمة والقرار تستشري الأخطاء ويكثر من يحملون وجه القبح ويكرسون التعتيم وتنمو في المجتمع كل أنواع الاختلالات والتشوهات٠وقد كان ذلك نصيب بلادنا العزيزة وحصيلتها من الحكم الأوتوقراطي البغيض والتي ما فتئت تقاومه كجسم دخيل غريب علي شعبها السمح بطبعه المحب الديمقراطية والشورى لمدة 16 عاما غير منقوصة حتى لفظته في أبريل 1986
لقد خلف النظام المباد أزمة اقتصادية شاملة تمثلت في اختلالات وتشوهات رهيبة تتجلى مظاهرها فيما يلي:
-اختلال الموقف المالي للقطاع العام للتضخم المنفلت ولالتزامات الإنفاق والذي يقابله عجز بائس في جانب زيادة الإيرادات٠

  • اختلال بين قدرة المجتمع على الادخار وحاجته موارد حقيقية إضافية للاستثمار٠
  • اختلال بين القدرة علي زيادة الصادرات والطلب المتزايد على الواردات
  • تراكم الديون الخارجية والتي تجاوزت 9 بليون دولار وبلغت التزامات سدادها السنوية أضعاف حصيلة الصادرات٠
    كما ترك لنا النظام المباد إرثا لا نحسد عليه من المشاكل الجسيمة الأخرى مثل تدني الانتاج والانتاجية وتدني مستوى الأداء علي نطاق القطر في كل القطاعات والاجهزة وانهيار النظام والهيبة في الخدمة العامة……. الخ
    وهذه وخلافها مشاكل لن تنتهي بزوال النظام المسبب لها ومن ثم فهي تمثل تحديات كبري في طريق اعادة بناء الوطن٠
    ولقد قبل الخيرون من أبناء هذا الوطن التحدي واجتمعت كلمتهم حول بذل الجهد المتخصص لذوى المعرفة الأكاديمية والخبرة في شكل دراسات تقدم في مؤتمرات قطاعية يشترك في مداولاتها التنفيذيون و الأكاديميون المتخصصون والاقتصاديون ومراكز البحث العلمي والأحزاب السياسية والاتحادات ويفضي كل مؤتمر قطاعي ألي توصيات تصب في المؤتمر الاقتصادي القومي وهو منبر قومي اشمل يتوج الجهود القطاعية السابقة له ببرنامج عمل لإنقاذ الوطن ويتفق عليه المشاركون فيه ويلتزمون به٠
    ولقد كان أول المؤتمرات القطاعية مؤتمر سياسات الاقتصاد الكلي والذي نظمه مركز الدراسات والبحوث الانمائية (جامعة الخرطوم) بالتعاون مع منظمة فريدريش ايبرت الألمانية وانعقد في الأيام من 13 وحتى 15 من يناير. 1986 بقاعة الصداقة بالخرطوم٠
    تناولت الورقة الأولى موضوع تحديد هوية الاقتصاد السوداني وتحديد مفهوم للتنمية وخلصت إلى ضرورة قيام القطاع العام بالريادة في عملية التنمية ٠
    أما الورقة الثانية فقد طرحت للبحث موضوع سوق النقد الأجنبي وما أحاط بها من سياسات في إطار علاقة الاقتصاد السوداني والمنظمات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والصناديق العربية وقد تمكن الباحث من تفنيد الأساس النظري لأطروحة صندوق النقد الدولي بتحقيق تطابق في السعر الرسمي والسعر الحر للعملة السودانية على مدى سنوات من خلال خلق سوق رسمية وأخرى موازية (سوق سوداء كما يسميها الباحث) بعد رفع نظام الرقابة على النقد كما أن الباحث اثبت بالشواهد العلمية خطل السياسة وما أفضت عليه من تشوهات في الاقتصاد٠
    تناولت الورقة الثالثة سياسة الأسعار واستراتيجية دعم السلع الضرورية من عدة زوايا هامة. البحث يشمل عرضا مستفيضا لضرورة الدعم من منطلق متطلبات الأمن الغذائي للإنسان السوداني انسجاما مع معايير المنظمات الدولية (منظمة الأغذية والزراعة العالمية) ويطرح الباحث جوانب مثيرة حول الحقيقة والخيال في مسالة الدعم وهل صحيح مثلا ان الخبزمدعوم؟ ويخلص إلى توصيات هامة لدعم كل سلعة من السلع الضرورية (الخبز السكر المواد البترولية)٠
    تتناول الورقة الرابعة ما اتسمت به فترة الحكم المباد من اختلال في السياسات المالية والنقدية والموازنات من خلال استعراض مثابر وشامل لكل مظاهرالإفراط النقدي وأسبابه ونتائجه ومن ثم يخلص الباحث الي توصيات مستفيضة لمعالجة مختلف المشاكل الناجمة عن سياسة الإفراط النقدي من اختلالات اقتصادية واجتماعية٠
    وفي الورقة الخامسة (ظاهرة عدم التوازن بين الأقاليم والعلاقة الاقتصادية بين المركز والأقاليم) يتناول الباحث الجذور التاريخية التي صاحبت عدم التوازن حيث حظيت أقاليم بعينها بالنصيب الأوفر من المشاريع الاقتصادية الهامة بينما لم يكن الحال كذلك بالنسبة لبقية الأقاليم ثم جاءت سياسات ما بعد الاستقلال تكريسا للوضع السابق فازداد الإقليم المغبون غبنا والمحظوظ حظا اكثر٠
    تناولت هذه الورقة عبر استعراض نظري مستفيض للمسألة الإقليمية والسياسات المتبناة وسجل الباحث أن النمو المتوازن بجانب كونه مطلبا جديرا بالأخذ به من قبل العدالة فهو لايقل الحاحا كذلك من زاوية كفاءة الأداء كما استعرض الباحث الجوانب المختلفة كمظاهر النمو غير المتوازن والتفاوت بين الأقاليم مستخدما معايير علمية مثل نصيب الفرد من الدخل والخدمات والنسبة المئوية لتوزيع الموارد القومية ٠
    ولاحظت الورقة خلو الممارسة في توزيع الدعم المالي المركزي علي الأقاليم من معادلة تأخذ في الاعتبار أسس موضوعية للتوزيع واقترحت الورقة معيارًا من ستة مؤشرات بتفاوت وزنها النسبي كعناصر في معيار تشكيل حجم الدعم المركزي لكل اقليم٠
    اما الورقة السادسة والاخيرة فقد تناولت موضوع كفاءة الجهاز التنفيذي الحالي لإدارة دفة الاقتصاد خاصة على مستوى الوزارات والمصالح الحكومية. تناولت الورقة مظاهر تدني مستوى الأداء من ناحية ومن ناحية أخري أسباب كل ظاهرة من ظواهر ذلك التدني في شمول وتفصيل٠ وخلصت الورقة إلى أن تدهور كفاءة الجهاز التنفيذي على مستوى الوزارات والمصالح الحكومية والمؤسسات العامة قد ساهم بالقسط الأوفر في تدهور أداء الاقتصاد القومي ومن ثم في الازمة الاقتصادية الموروثة من النظام السّابق٠

الورقة الأولى
تحديد هوية الاقتصاد السوداني والاتفاق حول مفهوم واضح المقصود بالتنمية مع تحديد أدوار كل من القطاع الخاص والعام
إعداد دكتور ابراهيم الكرسني
كلية الاقتصاد جامعة الخرطوم

مقدمة
إن الانطباع الذي يتبادر الي الاذهان من خلال النقاش في الدورات والمحاضرات والندوات العامة من دور القطاعين العام والخاص في عملية التنمية الاقتصادية ينبئ عن الاستقلال التام وعدم الصِّلة بين هذين القطاعين٠
وفِي الحقيقة فإن القضية الاساسية ليست لأي من القطاعين تترك مهام القيام بعملية التنمية إذ إن التنمية الاقتصادية والاجتماعية للسودان موضوع هام وخطير لايمكن تركه لأحد القطاعين منفردا٠
إن القضية الاساسية تكمن في أن القطاعين يمكن أن يقوم بدور القيادة في عملية التنمية لتصفية التخلف ووضع السودان على أعتاب طريق التنمية الذي يعتمد على استلهام واستنهاض الذات والاعتماد على النفس والموارد المحلية٠
ان الغرض من هذه المساهمة إيضاح اهمية القطاع العام كقائد لعملية التطور الاقتصادي والاجتماعي في السودان وسنقوم بتبيان هذا الدور من خلال إبراز السلبيات والتخريب الذي وقع على البنية الاقتصادية والاجتماعية إبان الفترة التي تميزت بسيطرة وقيادة القطاع الخاص لعملية التنمية باتباع هذا النهج السلبي اَي إبراز سلبيات سيطرة القطاع الخاص ليس مرده عدم امتلاكنا وحيازتها للمعلومات القوية لدفعها لتعضيد مقولتنا عن الضرورة الموضوعية لقيادة القطاع العام للتنمية الاجتماعية والاقتصادية في السودان ولكن لان اغلب الاقتصاديين الذين ساهموا في النقاش اتخذوا موقفا مؤيدا لاتباع الطريق الثاني المنادي بقدر ضروري من التخطيط من قبل الدولة والاجهزة الحكومية تحت قيادة القطاع العام٠

ملخص الورقة:

منذ استقلال السودان السياسي عام 1956 ظل الصراع بين القوى الاجتماعية المختلفة يدور حول قضية التنمية٠ ان هذه القضية الجوهرية الهامة لم تكن محور الصراع بين القوى الاجتماعية المختلفة وحدها بل أضحت محورا الصراع بين الحكومات المدنية والعسكرية أيضا
ولقد نادت الأحزاب السياسية المختلفة بطريقين لتنمية البلاد٠
نادت الأحزاب التقليدية المحافظة بطريق التنمية الرأسمالي وذلك بتشجيع قيادة الرأسمال الخاص لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية وأدت إلى نمو أسرع في معدلات التخلف في السودان٠
ونادت الأحزاب الراديكالية اتباع طريق التنمية الاشتراكي الذي يهدف إلى رسم وتنفيذ خطط قومية متكاملة تحت توجيه القطاع العام٠
أن استراتيجيات التنمية التي تم تنفيذها منذ الاستقلال كان لها محتوى طبقي محددا هو تعبير عن تبعية النظام الاقتصادي بالضرورة لنظام الاستعمار الجديد٠
أن ديمومة التخلف كشكل مميز للرأسمالية التي عرفتها الدول الواقعة تحت سيطرة رأس المال الأجنبي تتطلب وجود الطبقات المحلية التي تتطابق مصالحها مع مصالح رأس المال الأجنبي وسعيها لتحقيق سيطرتها السياسية٠
أن استراتيجية التنمية في محتواها الشامل (الاستقلال الاقتصادي) كأداة ضرورية للحفاظ على ذلك الاستقلال السياسي والتحول الديمقراطي تظهر في تبني مسألة الإصلاح الزراعي والتي تشكل جوهر الصراع الطبقي في السودان منذ العام 1956
ولقد انعكس ذلك في الصراع السياسي بين الرأسمالية المحلية وقوى الاستعمار الجديد من جهة وبرنامج الطبقة العاملة وبقية القوى الشعبية من جهة اخري٠
ان جوهر ومحور الثورة الوطنية الديمقراطية هو كما يرى الحزب الشيوعي- القضاء على القاعدة المادية للطبقات الاجتماعية التي تقف حائلا إزاء تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية في السودان وهذه الطبقات تشمل:
1/ العناصر التي خلقها الاستعمار في القطاع الزراعي خاصة مشاريع الطلمبات الخاصة٠
2/ الشرائح العليا في بيروقراطية جهازً الدولة والتي تخدم مصالح الاستعمار الجديد٠
3/ البرجوازية الطفيلية التي تتعاون مع الاستعمار الجديد٠
4/ العناصر الرجعية التي خلقها الاستعمار في قطاع ما قبل الرأسمالية٠
ولتحقيق هذه الأهداف فإن الإصلاح الزراعي يمثل العمود الفقري للثورة الوطنية الديمقراطية وسيؤدي إلى تغيير علاقات الإنتاج المختلفة والتي مازالت تعم الريف وسيؤدي إلى تطوره وتحرير أكثر من 80٪؜ من السودانيين والذين مازالوا أسرى علاقات انتاج استغلالية وإلى إبراز قواهم وطاقاتهم الكامنة٠

الأثارالسلبية لتنمية القطاع الخاص علي البنية الاقتصادية والاجتماعية في السودان:

ان اثر قيادة القطاع الخاص لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية في السودان تبدو جلية في ظهور أثار سلبية في كافة أوجه الحياة في المجتمع السوداني وسنحاول إلقاء الضوء علي المظاهر الاساسية لهذه التجربة التي شكلت البناء الاقتصادي للمجتمع السوداني وتتمثل هذه المظاهر الاساسية في الاتي:
اولا/ سيادة الاقتصاد الزراعي
بالنظرالي مساهمات القطاعات المختلفة في الناتج القومي للاقتصاد السوداني نجد الارتفاع النسبي لمساهمة القطاع الزراعي والتدني النسبي لمساهمة القطاع الصناعي - خاصة السلع المصنعة- ويؤكد ذلك السمة المتخلفة للاقتصاد السوداني٠
ويورد الكاتب بعض الأرقام لتوكد هذه الحقيقة فنجد ان نسبة مساهمة الزراعة للناتج القومي قد بلغت نسبة ال66% في العام 1955 وتناقصت هذه النسبة حتي وصلت نسبة ال39.2% في العام 1977 ويقابل هذا زيادة مساهمة الصناعة من 1% في العام 1956 ألي 9.4% في العام 1977 ووفق هذه الإحصائيات نجد ان ليس هناك تحسن يذكر و ان الزراعة مازالت تسيطر علي اقتصاد القطر٠
ثانيا/ تدني إنتاجية الأرض والعمل
يعتبر انخفاض مستوى إنتاجية الأرض والعمل سمة بارزة أخرى في تركيب الاقتصاد السوداني فنجد حوالي 70% من السكان يعملون بالزراعة ويساهمون ب40% من مجمل الناتج القومي وهذا مؤشر تدني إنتاجية العامل وتدني مستوى التقنية المستخدمة في عملية الإنتاج
إضافة لذلك يؤكد الكاتب أن تدني الإنتاجية في القطاع الزارعي ناجم عن غياب استخدام المخصبات وغياب تطبيق الدورة الزراعية واستخدام اُسلوب الزراعة المتنقلة للحفاظ على الإنتاجية السابقة مما يؤدي إلى تدهور خصوبة التربة والقضاء على ثروات البلاد الطبيعية حسب رأي الكاتب
ثالثا/ تدني مستوى دخل الفرد
أدى انخفاض إنتاجية الأرض والعمل إلى تدني الإنتاج الكلي والي تدني جملة الناتج الإجمالي المحلي وكذلك متوسط دخل الفرد٠
ويعزي الكاتب تدني متوسط دخل الفرد إلى تخلف القاعدة الإنتاجية في السودان وبعتبر ذلك حاجزا كبيرا وعائقا أمام التنمية المستقبلية في البلاد٠
رابعا/ تدهور المستويات المعيشية للفقراء
انخفاض مستوى متوسط دخل الفرد تمثل مؤشرا ودلالة على الفقر أضف إلى ذلك ارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل الذرة واللحم الضاني والبقري والذي بلغ 400% في الفترة ما بين 1956-1976 بينما كانت الزيادة في الحد الأدني للأجور 94% فقط لنفس الفترة وهذا مؤشر واضح تفاقم حدة الفقر في السودان٠
خامسا/ جهاز الدولة تقليدي ومحافظ
أن نشوء وتطور الرأسمالية الخاصة في السودان استلزم وجود استمرارية جهاز دولة رجعي وقمعي ويرمز الكاتب إلى مصطلح "رجعي" الي قيام الدولة دوما وباستمرار بخدمة أهداف الطبقات الرجعية٠
ويشرح الكاتب خصائص جهاز الدولة المنحاز الطبقات الرأسمالية على حساب الفقراء ويرى الكاتب ذلك في ازدياد نسبة الضرائب غير المباشرة والتي تصل إلى نسبة الـ 85% في الفترة ما بين 1971-1976
ويؤكد الكاتب ان الدولة بخصائصها الرجعية هذه بدلا من أن تعتمد على زيادة دخلها من زيادة الإنتاج والانتاجية للشركات العامة نجدها تتبع اسهل الطرق بفرض ضرائب على المواطن وهنا تظهر الطبيعة الرجعية للدولة حسب قول الكاتب٠
ضريبة الدخل الشخصي معظمها يأتي من دخول الأعمال والتي يعود معظمها ثانية إلى الطبقة الرأسمالية فإن هذا يوضح انحياز الدولة ضد الفقراء٠
كما يؤكد الكاتب أن الصرف والإنفاق الحكومي المتزايد على الأمن والدفاع والذي بلغ نسبة 31.6% وهو يساوي حصيلة الصرف على الخدمات الاجتماعية والاقتصادية في نفس الفترة
سادسا/ غياب القطاع الرأسمالي
إن إحدى السمات البارزة للاقتصاديات المتخلفة هي الوجود المحدود لقطاع الصناعات ومساهمته في إجمالي الناتج المحلي واقتصاره على إنشاء الصناعات الخفيفة الاستهلاكية والتي يستهلكها الأغنياء كما نلاحظ غياب الصناعات الرأسمالية٠

الضرورة الموضوعية لقيادة القطاع العام

يؤكد الكاتب ان هناك اجماع عام بين الاقتصاديين أنه نتيجة لضعف وتبعية الطبقة الرأسمالية في الدول المتخلفة فإن نظم وقوانين واستثمارات الدولة تلعب دورا هاما وضروريا لتحقيق "القفزة" إلى إيجاد تنمية ذاتية مستمرة وعرف الاقتصاديون القطاع العام بأنه يشمل المؤسسات الاقتصادية المؤممة وتلك التي تملكها الدولة وفِي هذا السياق يرى هؤلاء الاقتصاديون أن على القطاع الخاص أن يلعب دورا مساعدا ولكنه مهم لتعزيز دور القطاع العام في تحقيق أهداف التنمية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع ككل٠
أن الضعف والتبعية التي تميز طبيعة طبقة الرأسمالية السودانية كما اكد الكاتب دورها في الدمار والتخريب الناتج لقيادتها لعملية التنمية منذ نيل الاستقلال السياسي٠
أن التركيب الاقتصادي والاجتماعي في السودان جعل الطبقة الرأسمالية تفشل في ان تلعب دورها التاريخي في تثوير وتطوير القوى المنتجة
الطبقة الرأسمالية السودانية تحقق مصالحها عن طريق النمو الاحتكاري وهذه صفة نجدها في الرأسمالية الخاصة في معظم الدول المتخلفة عكس مايحدث في الرأسمالية الخاصة في الدول المتقدمة والتي تعمل في ظل ظروف المنافسة الكاملة٠
ويتوصل الكاتب أن هناك استحالة قيام رأس المال الخاص في الدول المتخلفة اليوم بتحقيق تثوير وتطوير القوى المنتجة وهنا تبرز الضرورة الموضوعية لقيادة القطاع العام لعملية التنمية٠
ويشترط الكاتب لنجاح دور القطاع العام لابد ان يسبقها وضع السلطة السياسية في أيدي تخالف عريض من العمال والفلاحين والفقراء لتوجيهه الدولة لخدمة مصالحهم٠
ويرى الكاتب ان الفلاحين والفقراء يمثلون أكثر من 85% من مجموع السكان فإن هذه الخاصية تعطي سلطة التحالف الأفضلية وأنها الأكثر ديمقراطية في الإطار السوداني ٠
اَي خطة يجب أن تعمل من خلال المواطنين لهذا لابد من العمل على تعبئتهم لأجل مصالحهم وإجراء تغييرات تعبر عن مصالحهم وهنا يأتي دور الدولة في العمل على إنجاح اَي خطة٠
كما يؤكد الكاتب على أن التطبيق الناجح لاستراتيجية تنموية علي ضرورة الاستقرار السياسي لأحداث تغيير جذري في التركيب الاقتصادي والاجتماعي٠

تعليق وتحليل
نحن نري ان هذه الورقة والملاحظات الواردة فيها مازالت مفيدة حتي الان ويمكن استخدامها كأطار تحليلي للاسباب التالية:
اولا/ تشابه السمات الاساسية لاقتصاد الطفيلي قي فترة مايو وفِي فترة المتاسلمين واستمراره حتي الان قطاع غيرمنتج تدني نسب مشاركة القطاعات المنتجة وتراجعها كالقطاع الزراعي والصناعي وكذلك القطاع الاجتماعي في التعليم والصحة وتزايد نشاط قطاع الخدمات والأعمال والانشطة الهامشية والطفيلية ومازالت هذه السمات قائمة حتي الان٠
ثانيا/ تعميق التفاوت في توزيع الدخل لصالح الطبقات غير المنتجة علي حساب الفلاحين والعمال في القطاعات المنتجة بسبب إهمال هذه القطاعات كذلك تدني مستوي الانتاج والانتاجية في هذه القطاعات خاصة بعد ظهور النفط والذي اصبح عماد الاقتصاد بشكل كامل وادي لظهور "المرض الهولندي" وهو اعتماد الاقتصاد علي مصدر ريعي واحد الاهو قطاع النفط واهمال باقي القطاعات وهو خلل هيكلي خطير في الاقتصاد الوطني٠
ثالثا/ طبيعة الدولة القمعية والصرف الكبير علي قطاع الدفاع والأمن للحفاظ علي السلطة لأطول فترة ممكنة مهما كلّف الأمر من أموال وأرواح
رابعا/ القطاع الخاص الطفيلي المحلي والأجنبي الغير منتج والاستغلالي وغالبا ما يلعب دورا محطما ومدمرا لموارد البلاد٠

إصلاحات القطاع العام
أولا/ إزالة التمكين والتخلص من عناصر النظام المباد لخطورة وجودهم وتأمرهم على الثورة٠
ثانيا/ البناء المؤسسي والعمل وفق نظام علمي يراعي الفعالية وتجويد الأداء والمحاسبة والشفافية٠
ثالثا/ ادخال تكنولوجيا المعلومات وخلق نظام مالي واداري حديث وتفعيل الحكومة الالكترونية٠
رابعا/ التخطيط المؤسس على أسس علمية ومتابعة التنفيذ والتقييم والمحاسبة في كل مراحل التنفيذ٠
خامسا/ اختيار الكفاءات المؤهلة ومتابعة الأداء وتطويره عن طريق التدريب والتأهيل المستمر٠
سادسا/ تفعيل دور القطاع التعاوني والدخول في شراكات مع القطاع العام والقطاع الخاص وتطوير أداء الجمعيات التعاونية الاستهلاكية والانتاجية٠

الورقة الثانية
صندوق النقد الدولي والفوضي الاقتصادية في السودان.
تجربة السوق السوداء
تقديم
بروفسير علي عبدالقادر جامعة الجزيرة
بروفسير محمد نور الدين جامعة الجزيرة

بداية العلاقة بين السودان ومؤسسات التمويل الدولية وبالتحديد البنك الدولي وصندوق النقد كانت إبان الحكم المايوي وذلك عندما مر النظام بأزمات اقتصادية وسياسية حادة أدت لخضوعه لتلك المؤسسات خضوعا تاما ملتزما بتوصياتها ومتابع لكل ما يملى عليه من سياسات بعد أن أصبح النظام يبحث عن اَي سبيل للبقاء في السلطة وبأي ثمن وكان ذلك في العام 1979 من خلال ما يسمى ببرنامج الإصلاح الهيكلي للاقتصاد السوداني والذي بموجبه تمكن النظام من الحصول على بعض القروض والمساعدات الفنية مقابل الالتزام بكل التوصيات او بما يسمى بـ روشتة الصندوق والتي تشمل تخفيض العملة وسحب الدعم عن السلع الأساسية وزيادة الضرائب وتحرير التجارة الخارجية وغيرها من الشروط المجحفة في حق المواطن السوداني لصالح الطبقات الرأسمالية والطفيلية٠

سنتعرض في هذا الجزء لعرض وتحليل ورقة الأساتذة الإجلاء بروفسير علي عبدالقادر وبروفسير محمد نورالدين من جامعة الجزيرة وكانت الورقة بعنوان "صندوق النقد الدولي والفوضى الاقتصادية في السودان: تجربة السوق السوداء"
اخترت الحديث عن هذه الورقة تحديدا لما تشمله من تحليل سياسات مشابهة شكلا ومحتوى لما يحدث الآن من فوضى في مجال إدارة النقد الأجنبي ومجمل سياسات الاقتصاد الكلي ولا يفوت على فطنة القارئ الاختلاف الجوهري لطبيعة النظام المايوي ونظام المتأسلمين كما وكيفا مع وجود بعض أوجه التشابه في سياسات سعر الصرف والالتزام التام بتوجهات صندوق النقد الدولي في هذا الإطار٠

ما أشبه الليلة بالبارحة
هذا العنوان يصف واقع الحال الْيَوْمَ رغم انه يتحدث عن ويحلل الأوضاع الاقتصادية في فترة نظام مايو مما يدل على أننا ندور في نفس الحلقة المفرغة من التخبط وتكرار الأخطاء واجترار التجارب الفاشلة وكما يقول المثل من جرب المجرب حاقته الندامة٠
في مقدمة البحث تعرض الباحثان لتلخيص سياسة الصندوق في السودان وشرح اهم بنودها واكدت الدراسة خطل سياسة الصندوق في السودان وفشلها في ارض الواقع واستندت الورقة في التحليل علي عدة شواهد نظرية وعملية لإثبات فشل فرضيات سياسة الصندوق في السودان٠
تعرضت الورقة لاستعراض ما جاء في أدبيات ونظريات سعر الصرف في ظروف الدول النامية٠
قدمت الورقة النموذج العملي والمودل الاحصائي لتحديد سعر الصرف والذي يعتمد عليه الصندوق في تبرير سياساته في الدول النامية أو ما يسمى بنموذج (نواك) والذي يستند علي افتراضات محددة٠
توصل الباحثان لتقديم نموذج بديل استند علي عدة افتراضات تختلف عن افتراضات نموذج (نواك) وفي الختام تتعرض الورقة لأثر سياسة الصندوق على مجمل سياسات الاقتصاد الكلي٠
ملخص الورقة ما جاء في أدبيات تحديد سعر الصرف بالتعرض علي آراء. بعض الأكاديميين على سبيل المثال لخصت آراء كروقر(1983) الذي يرى أن معظم الدول النامية تتعرض لتقلبات في شروط التبادل التجاري لذلك أن تحديد سعر الصرف بعينه ربما لم يستمر كسعر توازني للصرف
كما يرى دياز اليخاندرو(1983) ان سعر الصرف حتي اذا استخدم كأداة مثلي للسياسة الاقتصادية فلا يوجد دليل على سلوك سعر الصرف هذا سيكون السعر الحقيقي على المدى الطويل بلاك (1976) يقول ان السوق الحر للنقد الأجنبي يتسم بعدم الاستقرار أما كروقر (1983) فيرى أن العلاقة بين تعديلات سعر الصرف وازدياد الواردات او علي الاقل تقليل الفجوة بين الأسعار المحلية والعالمية للصادر او السلع المنافسة للوارد يري كروقر أن هذا السؤال لم يحسم بعد٠
استعرضت الورقة النموذج الذي صاغه نواك عام 1984 والذي يشرح كيفية أداء السوق غير الرسمية للنقد الأجنبي ومن المعروف ان هذا المودل يستخدم بواسطة صندوق النقد الدولي لتبرير سياسته لتحديد سعر الصرف٠ ويعتمد نموذج نواك على عدة فرضيات تتلخص في الاتي:
اولا/ تعرف السوق السوداء وتتحد مصادر النقد الأجنبي فيه من عائد تهريب سلع الصادر٠
ثانيا/ يعتمد عرض النقد الأجنبي في السوقين الرسمي والاسود على الأسعار النسبية المناسبة بحيث يكون يكون تأثير أسعار الصرف النسبية على عرض النقد الأجنبي متساويا في السوقين وبناء على هذه الافتراضات الجوهرية اضافة عدة افتراضات أخرى توصل نواك إلى النتائج التالية:
اولا/ كلما حدث تخفيض في سعر الصرف الرسمي (يعني تخفيض قيمة الجنيه) أدي ذلك الي ارتفاع في سعر الصرف في السوق السوداء اَي أن هناك علاقة عكسية.ويري نواك أن السبب في ذلك يعزى إلى أن تحويل الموارد من إنتاج السلع غير التبادلية إلى سلع الصادر ويؤدي ذلك إلى توسع العرض الإجمالي لسلع الصادر على الرغم من انكماش البيع في السوق السوداء٠ وتنبه الورقة هنا أن التوصل لتلك النتيجة قد تم باستخدام القيد المفروض على تأثير أسعار الصرف النسبية على حصيلة الصادر ومرونة الصادر لتغيير سعر الصرف في السوقين٠
تنوه الورقة ايضا ان النتيجة التي توصل إليها نواك تذهب تؤيد مادرج عليه الصندوق من توصية للدول النامية لاتباع سياسات خفض سعر الصرف العملات المحلية بحجة ان من شأنه تضييق الشقة بين السعرين السعر الرسمي والسعر في السوق الموازي٠
من ابتكارات هذه الورقة القيمة أنها أتت بنموذج بديل لنموذج نواك او النموذج الذي يستند عليه الصندوق في تبرير سياساته٠
واستند هذا النموذج البديل على افتراضات مختلفة عن نموذج نواك والمعروف في علم الاقتصاد أن اَي تغيير في افتراضات اَي نموذج يتوقع أن يأتي بنتائج مختلفة بطبيعة الحال وهنا علينا ان نشير الى أن الافتراضات التي استند عليها النموذج البديل أكثر ملائمة وواقعية لظروف الاقتصاد السوداني يستند النموذج البديل على عدة افتراضات أهما:
اولاً/ تتم مقابلة الطلب الزائد على النقد الأجنبي في سوق موازية أو سوق سوداء رسمية تمثل مصادر النقد الأجنبي فيها من تحويلات المغتربين
تانيا/ يعتمد عرض النقد الأجنبي في السوق على سعر الصرف الرسمي بحيث تكون مرونة الصادرات للسعر الرسمي مساوية للصفر بينما تعتمد تحويلات المغتربين على نسبة السعر الموازي ٠ويتوصل النموذج البديل على نتائج مختلفة تماما عن نموذج نواك.

النتائج التطبقية للنموذج البديل
لاختبار أطروحة الصندوق قام الباحثان بإجراء بعض التجارب التطبيقية من خلال استخدام الدالة الخطية "Linear regression analysis" وذلك لاختبار العلاقة بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء وكما اسلفنا ان نموذج نواك قد توصل لوجود علاقة "عكسية" بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء في مسار نحو التوحيد٠اما النموذج البديل فقد قام الباحثان المحترمان باستخدام معلومات تعكس واقع الاقتصاد السوداني وكانت المعلومات عبارة عن المتوسطات الشهرية لأسعار الصرف في السوق السوداء في الفترة من سبتمبر 1981 الي فبراير 1985 وكانت نتائج التقديرات الاحصائية تؤكد وجود علاقة "مباشرة" قوية بين سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء٠وهذه النتيجة تؤكد على رفض اطروحة الصندوق باستقرار سوق النقد في السودان او بمعني اخر الاتجاه العام لأسعار الصرف نحو التوحيد٠وخلاصة النموذج البديل أن أي تخفيض في سعر الصرف الرسمي يؤدي إلى المزيد من التخفيض في سعر الصرف في السوق الموازي٠
ومضت هذه الورقة القيمة في إجراء عدة اختبارات تطبيقية إحصائية كاختبار أطروحة عدم الاستقرار الديناميكي باستخدام فكرة شيانج (1974) وذلك باستخدام الدالة الخطية واثبت الباحثان احصائيا عدم الاستقرار الديناميكي في السودان وهذا يعني تباعد السعر مع سعر التوازن مع مرور الزمن وتؤكد الورقة ان شروط عدم الاستقرار الديناميكي للسوق السوداء تتوفرفي السودان٠
وتعرضت الورقة بشكل ضاف لدراسة العوامل المؤثرة على سعر الصرف في السوق الموازي وفي هذا الاطار قام حسين (1982) وهو احد المشاركين في الدراسة بصياغة الاطروحة التي تقول بان التغيرات في سعر الصرف في السوق الموازي يمكن ان تفسر بواسطة التغيرات في التسهيلات الائتمانية للقطاع الخاص كذلك التغيرات التي تحدث علي الفارق بين السعر الرسمي وسعر الصرف في السوق الموازي٠

تحليل وتعليق علي الورقة
أكدت هذه الورقة القيمة خطل تطبيق سياسة تحرير سعر الصرف وخلق سوق سوداء لسعر الصرف بفرضية اتجاه السعرين نحو التوحيد في المدي المتوسط والطويل انصياعا لتوجيهات صندوق النقد الدولي٠
والغريب في الأمر إصرار الحكومة في اتباع نفس النهج المجرب سابقا اذ طبقت هذه السياسات منذ العام 1979 إبان فترة الحكم المايوي وتكرر نفس الخطأ في بداية عهد حكومة المتأسلمين إبان تولي عبد الرحيم حمدي لوزارة المالية وتطبيقه لسياسة التحريرالاقتصادي٠
والآن اتجهت حكومة المتأسلمين الى استخدام نفس الأسلوب فيما يسمى بسياسة الية تحديد سعر الصرف وهي في مجملها سياسة تعويم تام لسعر الصرف الرسمي وتقنين للسوق الأسود ليس الا٠
ونؤكد على ما خلصت إليه هذه الورقة من أن اَي معالجات لمشاكل توحيد سعر الصرف سوف تكلل بالفشل الذريع في وجود هذه الحقائق:
أولا/ سيظل الاختلال الهيكلي المزمن في سوق سعر الصرف ماثلا أمامنا لارتباطه بطبيعة النظام السياسي الطفيلي فاذا نظرنا الي الميزان الداخلي نجد ات هناك عجز في الموازنة ناجم من زيادة الإنفاق الحكومي وخاصة في بندي الأمن والدفاع والصرف السياسي مصحوبا في ضمور الإيرادات الضريبية والجمارك لضعف النشاط الاقتصادي والفساد والإعفاءات الضريبية والجمركية٠
ثانيا/ عجز مزمن في الميزان الخارجي يقدر بحوالي الخمس مليار دولار فالواردات تفوق الصادرات لأسباب هيكلية مزمنة فإذا نظرنا لهيكل الواردات وهي تمثل جانب الطلب علي الدولار فنجد معظم هذه الواردات تتمتع بعدم مرونة عالية للتغير في سعر الصرف فمعظم الواردات اما ادويه ومعدات طبية او مدخلات انتاج او سفر للعلاج في الخارج اضافة لبعض السلع الكمالية ومعظم هذه السلع لاتستجيب لتغيرات سعر الصرف بمعني ستظل الورادات تشكل عبئا وضغطا على الطلب علي الدولار٠
ثالثا/ اذا نظرنا الى جانب العرض فنجد أهم مصادرة عوائد الصادرات وتحويلات المغتربين وعوائد بيع الذهب ومعظم هذه المصادر يتشكك في استجابتها لأي تغير في سعر الصرف مهما كان محفزا لأسباب تتعلق بعدم الثقة في النظام السياسي والنظام المصرفي في السودان٠
في ختام هذه الورقة القيمة تعرض الأساتذة الإجلاء إلى تلخيص آثار تجربة السوق السوداء لسعر الصرف على الاقتصاد الكلي و تلخصت هذه الآثار في الجوانب الآتية :
اولا/ الآثار التضخمية أكدت الورقة علي اعتراف الصندوق بتأثير تلك السياسيات السلبي على الاقتصاد السوداني فقد أدت التوقعات بتخفيض سعر الصرف الي عددا من الآثار الضارة منها المضاربات وتخزين سلع الصادر والوارد للحصول على أرباح اوفر في حالة تخفيض العملة وفد أدي ذلك لازدياد حدة التضخم واختفاء كثير من السلع وذلك لطمع التجار والمضاربين من الطفيلية وتؤكد الورقة أن التخفيض أدى إلى تحويل الدخل من المستهلكين والمنتجين إلى طبقة التجار كما توجهت البنوك بتوفير التمويل اللازم لمعظم نشاطات العملة في السوق السوداء مما أدى إلى توجيه الموارد في نشاطات غير منتجة وأضاع فرص تمويل نشاطات أكثر جدوى اقتصادية٠
ثانيا/ الأثر السلبي علي توزيع الدخل أكدت الورقة على في الفترة ما بين العام 1977 و1983 فترة تطبيق تلك السياسات كان النمو الحقيقي في القطاعات الإنتاجية مثل الزراعة والخدمات والمواصلات سالبا بينما حقق دخل الفرد في قطاعات التجارة والبناء والتشييد أعلى معدلات نمو وهذا يؤكد ازدياد نهم الطبقات الطفيلية غير المنتجة والتي استفادت من تلك السياسات في نشاطات السمسرة والمضاربات وتخزين السلع الهامة بغرض الربح٠
ثالثا/ تعرضت الورقة لأثر تلك السياسات على عملية اتخاذ القرارات الاقتصادية فتجربة السوق السوداء أدت إلى خلق سلوك طفولي غير منتج مثل المضاربات وفقدان الثقة في الجنيه واستخدام الدولار محافظ الثروة وكذلك برزت حمي هروب رؤوس الأموال المحلية للخارج مستفيدة من ما يسمى بحرية التعامل في النقد الأجنبي كذلك يلاحظ انحراف سلوك القطاع المصرفي وانخراطه في تمويل عمليات السوق السوداء لصالح الطبقات الطفيلية غير المنتجة أصلا كل ذلك أدى إلى تشويه عملية اتخاذ القرار الاقتصادي في السودان٠

نستخلص من هذا الجهد الأكاديمي المقدر النتائج التالية:
أولا/يستند صندوق النقد الدولي على مودل لتحديد سعر الصرف مبني على افتراضات لاتمت للواقع السوداني بصله وتاتي بنتائج غير واقعية وأثبت الباحثان عند صياغة النموذج البديل بالشواهد النظرية والتطبيقية أنه وعند تغيير الافتراضات لتلائم الوضع السوداني نأتي بنتائج مختلفة وأكثر واقعية٠
ثانيا/ يفترض نموذج الصندوق أن تخفيض سعر الصرف الرسمي يؤدي إلى تقارب الفجوة بين السعر الرسمي والسعر في السوق الموازي في اتجاه نحو التوحيد وأثبت المودل البديل خطاء تلك النتيجة بالشواهد التطبيقية وواقع الحال يؤكد أن تخفيض سعر الصرف الرسمي يؤدي إلى توسع نشاط السوق الأسود بشكل ملحوظ٠
ثالثا/ تؤكد الورقة ان نشاط السوق الأسود واقعا ماثلا أمامنا ويغذي بنشاط تحويلات المغتربين وتهريب عوائد الصادر وان مهما حاولت الدولة من تقليص نشاط السوق الاسود بإجراءات أمنية وإدارية ان ذلك لايجدي فتيلاً٠
رابعا/ تؤكد الورقة أن مرونة الصادرات لتخفيض سعر الصرف الرسمي متدنية للغاية وربما تصل للصفر لذا لايمكن توقع استجابة المصدرين واتجاههم نحو السوق الرسمي في ظل وجود نشاط السوق الأسود٠
خامسا/ يؤدي التخفيض في السوق الرسمي الي مزيدا من التخفيض في السوق الموازي ويكثف نشاط السوق الأسود كما أثبتت الورقة و تؤكده شواهد الواقع المعاش٠

الورقة الثالثة
سياسات الأسعار واستراتيجية دعم السلع الضرورية
د.صديق عبدالمجيد صالح
د.خالد عفان
كلية الاقتصاد جامعة الخرطوم

موجز الدراسة:
من ضمن مقترحات صندوق النقد الدولي لتطبيق برنامجه المعروف في السودان رفع الدعم نهائيا عن سلع الاستهلاك وإيقاف سياسة تثبيت الأسعار وقد نفذ هذا البرنامج تماما منذ أن ابتداء صندوق النقد في إدارة الاقتصاد السوداني في يونيو 1978 واختفي الدعم من الميزانية العامة للدولة تماما منذ ذلك التاريخ٠

والمتابع لنسبة الدعم منذ العام 1973 يكتشف أنها لم تتجاوز ال2.4% من نسبة الصرف الحكومي الكلي وعليه تصبح مسالة رفع الدعم ليست ذات قيمة مالية تأخذ مثل هذه الضجة٠
الدعم مسالة ذات اهمية اقتصادية واجتماعية ذَا اهمية من الدرجة الأولى لبناء رأس المال البشري كعنصر مهم لتنفيذ البرامج التنموية في المدي البعيد٠
هناك ثلاثة أرباع سكان القطاع الحضري وأكثر من من تلك النسبة للقطاع الريفي يستهلكون أقل من الحد الأدنى من السعرات الحرارية المطلوبة يوميا لكل فرد ويعتبر اكثر من ثلث هذا العدد في عداد سوء التغذية
وفِي نفس الوقت نشهد ارتفاعا مستمرا في اسعار السلع الاساسية بينما ينخفض مستوى الدخل الحقيقي للفرد في تلك الشرائح ولذلك يصبح الدعم ضرورة اقتصادية واجتماعية حتى يتمكن المواطن من الحصول علي الحد الأدني من الاستهلاك الضروري لتوفير الطاقة المطلوبة٠
تبعا لذلك فقد توصلت هذه الدراسة إلى مؤشرات عدة تتلخص في تحقيق الأمن الغذائي وتشجيع الإنتاج المحلي لبدائل الاستيراد مع دعم مدخلات الانتاج الاساسية باتباع سياسات تسعيرية وتسويقية وتوزيعية وتتلخص هذه السياسات في الاتي:
ضمان سعري ارضي يفرق من سعر السوق الحر وتطبيق الأسعار المختلفة حسب انواع السلع المصنعة بحيث تدعم السلع ذات المكون المحلي وترفع أسعار السلع الفاخرة ذات المكون المستورد حتى يمكن لمبدأ الدعم التقاطعي مقابلة تكلفة الدعم جزئيا ولضمان إدارة ورقابة هذا البرنامج لابد من رفع كفاءة وتنظيم دور الجهات الرسمية مع إشراك النقابات والهيئات الشعبية في إدارته ومراقبته٠

مدخل لسياسات الدعم والتسعير
هناك جدل حول موضوع دعم السلع الاساسية وهناك فريقان حول الموضوع الفريق الأول يطلب دعم السلع الاستهلاكية وفريق اخر يسعى الي توفير السلع بل اغراق الاسواق وفرة بدعم او بدون دعم
ولما لم تكن هناك استجابة من الحكومة لأي الفريقين بحجة عدم وجود بدائل مدروسة خارج إطار توصيات صندوق النقد الدولي برفع الدعم عن سلع الاستهلاك٠

تعريف الدعم
يعرف الدعم في علم الاقتصاد الجزئي بفرق السعر بين سعر السلعة او الخدمة المفروضة من قبل الدولة وسعر السوق لتلك السلعة حسب ما تحدده قوى العرض والطلب في تلك اللحظة وعليه يمكن ان يكون السعر المدعوم أعلى او أدنى من سعر العرض والطلب وذلك يعتمد على هدف تدخل الدولة فمثلا تفرض الدولة سعرا أعلى من سعر السوق بغرض تشجيع المنتج (مثل سعر تسليم قمح المزارع للمطاحن) وفِي حالة سعر أدنى من سعر السوق يكون الهدف حماية المستهلك للحصول على تلك السلعة على أساس القوة الشرائية للدخول المتدنية مثل دعم السكر والخبز٠
وعليه فسياسات الدعم أو الضريبة علي السلع تكون اما واحدة من فرضيات سياسة او وسيلة لتحقيق هدف اقتصادي او اجتماعي ضمن برامج الدولة ففي الحالة الأولى يمكن ان يكون دعم السلع هدفا أساسيا منفردا لتركيز أسعار تلك السلع أو غير مباشر لخدمة غرض اجتماعي واقتصادي مثل توفير السلع بأسعار اقل من سعر السوق حتى يتمكن المواطن من الحصول علي هذه السلع ليتمكن من بناء رأس المال البشري المهم لتنفيذ برامج التنمية٠
ولفرض الغرض الأخير تبني معيار نموذج الفائدة والتكلفة الاجتماعية لتسعير تلك السلع بدلا عن معيار التكلفة الخاصة الحدية في نظرية العرض والطلب٠
وانطلاقا لهذا الفهم والنهج القياسي يتم حساب اساسيات الحياة من القوت حسب السعرات الحرارية اليومية اللازمة لحياة الفرد كما هو مقدر ومقترح من منظمة الزراعة والاغذية الدولية فتوفي السلع الأساسية التي تضمن الحد الأدنى من السعرات الحرارية لمعظم أفراد المجتمع محسوبا علي أدني قوة شرائية في المجتمع او ضمان الحد الأدنى من الدخل لاكتساب تلك السلع السياسة السعرية المطلوبة لتلك السلع والهدف إبعاد شبح الجوع وتوفير الحد الأدني لرأس المال البشري لرفع الانتاج والانتاجية كشرط اساسي للخروج من الازمة الاقتصادية للبلاد٠
نموذج التسعير حسب التكلفة الحدية الاجتماعية والمنفعة الحدية الاجتماعية معمول به حتى في المدرسة النيوكلاسيكية أضف إلى ذلك الممارسة العملية لسياسات دعم السلع وبالذات السلع الزراعية ومدخلات الإنتاج من الولايات المتحدة إلى الاتحاد السوفيتي مرورا بأغلبية دول العالم الثالث٠
الدعم ليست قاصرا على دعم المستهلكين ولكن في حالات كثيرة يشمل الدعم المنتجين كما هو الحال بالنسبة للأسعارالارضيّة لمحصول القمح الأمريكي حيث يدعم المنتج بسعر اعلي من السوق وكذلك دعم مدخلات الانتاج الاساسية في حالة تعدي المنفعة الاجتماعية على التكلفة الاجتماعية خاصة في مجال بدائل الاستيراد٠

خلاصة الدراسة
الدعم ليس بدعة اقتصادية تخص السودان بل اُسلوب اقتصادي ابتدعته النظريات الاقتصادية لتصحيح تسعير بعض السلع وربما رفع كفاءة استخدام وتخصيص الموارد الاقتصادية بين القطاعات المختلفة وكما يخدم الدعم العدالة التوزيعية بين مختلف طبقات المجتمع٠
إذن الدعم مواز للضريبة ومرغوب في بعض الحالات لتصحيح الجوانب الاقتصادية والمالية في المدى القصير كما هو مرغوب لرفع كفاءة وخدمة أغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المدي البعيد٠
وقد طبق في كل دول العالم شرقا وغربا مرورا بدول العالم الثالث
تأكد تطبيقيا كفاءة الدعم في تأمين غذاء الشعوب وتشجيع الانتاج الزراعي والصناعي وزيادة الاحتياطي من المخزون لبعض السلع اضافة الي التحسن الملحوظ في الموقف الغذائي لتنمية راس المال البشري وبالتالي التحسن في صحة تلك الشعوب٠
يجب النظر لمفهوم الدعم بمنظور حساب الفائدة علي أساس اقتصادي اجتماعي وتستخلص الدراسة لمراعة الاتي:
1/ السعرات الحرارية المطلوبة للغذاء حسب معايير الامم المتحدة اهمية الدعم لضعف القوة الشرائية لطبقات الدنيا في المجتمع ورأس المال البشري المطلوب للتنمية٠
2/ يعتمد الانسان السوداني في المتوسط علي الحبوب لتوفير حوالي 80% من السعرات الحرارية المستهلكة يوميا يوفر رغيف الخبز اكثر من 55% من تلك السعرات لذا وجب دعم هذه السلع الضرورية
3/ نجد ان هناك اكثر من 70% من من احتياجات السودان من القمح تستورد من الخارج ومن العون الامريكي اكثر من 75% من القمح المستورد وهذا يزعزع الامن الغذائي ويضعف قدرة الاستغلال الاقتصادي والسياسي للبلاد٠
4/ لم تتعد نسبة دعم السلع 2.4% من مجمل الصرف الكلي وقد أوقف تماما منذ العام 1978 تلبية لتوصيات صندوق النقد٠ الضجة حول الدعم غير ذات حجم مؤثر ماليا بل الدعم اصبح ضرورة اقتصادية واجتماعية
5/ تفرض علينا مقولة الامن الغذائي وبرنامج بدائل الاستيراد وانتهاج سياسة تشجع زيادة انتاج القمح المحلي وذلك بزيادة الرقعة المزروعة قمحا ودعم وإعادة الحساب المشترك لمدخلات انتاج القمح بالاضافة الي تخفيض اسعار ارض المزارع٠
6/ تطبيق تكنولوجيا الخبز ونتائج معهد أبحاث الأغذية بشمبات لإنتاج أنواع مختلفة من الخبز المجهز بخلطة دقيق الذرة مع دقيق القمح المحلي مع الدقيق المستورد وآخر فاخر من الدقيق المستورد بأسعار مختلفة
علي ان يدعم الرغيف المجهز بمكونات محلية اعلي (مثل 10% دقيق ذرة فما فوق وكذلك ال60% فما فوق دقيق محلي) فيكون سعر الرغيف حوالي 12 قرش وذلك لان تكلفة إنتاجه الاجتماعية تقل مع فائدته الاجتماعية بينما سعر الرغيف الفاخر المجهز من القمح المستورد باعلي من تكلفته الخاصة في حدود 20 الي 25 قرشا والعائد من هذا النوع يدعم جزئيا الرغيف الشعبي٠
7/ يمكن الاستفادة من خبرة وزارة التجارة والتموين في إدارة ومراقبة برنامج التسعير المتباين بمساعدة الاتحادات العمالية والمنظمات الشعبية علي تكون انواع الرغيف الفاخر دون راقابة متروكة لقوي السوق الحر٠
8/ لاشك ان سياسة دعم الرغيف الشعبي ستؤثر وتتأثر بسوق الذرة في المدي البعيد وفِي اتجاه السياسة الحالية لشراء وتخزين الذرة يمكن دراسة إمكانية تطوير الكسرة الحديثة٠
٩/ يمكن تطبيق مبداء الدعم التقاطعي لسلعة السكر بإلزام كل المصانع المحلية من انتاج نسبة معينة من السكر الداكن ذو التكلفة الاقل من السكر الأبيض الفاخر مع تخفيض تكاليف الانتاج الحالية وخاصة الإدارية منها ولابد من اعادة النظر في السياسات التوزيعية والتسويقية الحالية للسكر ليحل محلها نظام عادل يضمن وصول تلك السلعة للمستهلك بالاستفادة من خبرات وزارة التجارة والتعاون وتقوية التعاونيات اضافة لإشراك النقابات والمنظمات الشعبية في التوزيع والتسويق٠
10/ تمتاز هذه السلعة الضرورية بمرونة عرض متدنية تجعل مبدا رفع الأسعار بغير جدوي٠
11/ لابد من ادخال الثقافة الغذائية في المراحل التعليمية ووسائل الاعلام لتبصير المواطن باهمية الغذاء الصحي والتوازن المطلوب لتنمية رأس المال البشري٠
12/ اذا كان الرغيف والسكر يوفران 62% من السعرات الحرارية يوميا لطاقة الفرد السوداني فان المواد البترولية تمثل 72% من طاقة الاقتصاد الوطني ومن هنا جاء اعتبار المواد البترولية سلعة استراتيجية ومدخلات انتاج أساسية لذا وجب دعمها٠
تطبيق سياسة تنظيم حصة البنزين للعربات بأسعار التكلفة وتخصيص طلمبات اخري للبيع بسعراعلي من تكلفة البنزين خارج الكوتة حتي تتحصل الدولة وليس الوسطاء والسماسرة علي ذلك الدخل ويمكن ان يخصص جزء من ذلك الدعم لدعم الجازولين كمدخل انتاج اساسي للزراعة والصناعة وبالمثل الفيرنس لإنتاج الكهرباء اذا رغبت الدولة في تطبيق مبدأ الدعم التقاطعي مع التسعير المختلف المعمول به في قطاع الكهرباء٠

تعليق وتحليل
للتعليق علي الورقة القيمة نود ان نوضح الملاحظات التالية:
اولا/ رغم مروركل هذه السنوات والعقود نجد ان هذه الورقة مفيدة كاداة تحليلية لمعالجة قضية الدعم الشائكة الجوانب وطرحت الورقة اقتراحات عملية وعلمية ممتازة يمكن أخذ ماهو مناسب لظروف البلاد الحالية٠
ثانيا/ اهتمت الورقة بالتركيز علي دوافع الدعم وأهميته للطبقات الفقيرة في المجتمع وفِي التأكد من حصولهم علي الحد الأدني للسعرات الحرارية المطلوبة حسب معايير الامم المتحدة والتي تمكن الانسان من ان يكون منتجا ومساهما في التنمية الاقتصادية للبلاد وتركز الورقة علي اهمية دعم هذه الفئات في ظل ارتفاع الأسعار للسلع الاساسية وتدني مقدرتهم الشرائية للحصول علي هذه السلع٠
ثالثا/ تركز الورقة علي تطبيق الدعم التقاطعي للسلع الاساسية وخاصة في الخبز والسكر والوقود والكهرباء وذلك بتحديد نوعين من السلع نوع تجاري ويترك تسعيره لقوي السوق وآخر مدعوم اقل تكلفة يهدف الي تقديم الدعم الي الطبقات الفقيرة٠
رابعا/ من اهم المفاهيم التي وردت في هذه الورقة التركيز علي استخدام مبدأ مقارنة المنفعة الاجتماعية الحدية مع التكلفة الاجتماعية الحدية في تبرير الدعم خاصة للسلع الاساسية وعدم الركون لحساب المنفعة الخاصة والتكلفة الخاصة حسب قوانين السوق الحر ومذهب صندوق النقد الدولي وسياسات التحرير والتي تبرر رفع الدعم وتتعامل معه كتشوهات اقتصادية تعوق قانون العرض والطلب٠
اجراء إصلاحات علي نظام الدعم في اَي دولة يتطلب ذلك خطوات مسبقة وشروط وواجبات يجب القيام بها قبل القيام برفع الدعم وحتي صندوق النقد الدولي في الكثير من تقاريره ودراساته يركز علي اجراء إصلاحات سياسية واقتصادية قبل الشروع في عملية رفع الدعم او اجراء اَي إصلاحات أساسية وتتلخص في الاتي:

اولا/ الاعتبارات المالية
1/ بما ان الهدف الأساسي من ترشيد الدعم اعادة تخصيص الموارد وكذلك ومعالجة عجز الميزانية ولكن يجب الوضع في الاعتبار ان هناك تكلفة لتحقيق هذا الهدف يجب التأكد من وجود موارد تصرف علي البرامج المستهدفة للطبقات الفقيرة المتضررة من رفع الدعم لذا يجب التأكد من حجم تكلفة الدعم علي الميزانية ومقارنة ذلك مع تكلفة البرامج التعويضية لرفع الدعم مثال لذلك برنامج الدعم النقدي المباشرفي هذا الإطار يوصي الصندوق الاتجاه البحث عن مصادر تمويل خارجية لهذا الغرض٠
2/ التقييم الدقيق للفوائد المتوقعة من إصلاح نظام الدعم التأكد من رفع الدعم سيساعد في اعادة تخصيص الموارد ويحدث توفيرا في الصرف علي الميزانية وكذلك يساعد في بشكل إيجابي في تحسين مستوي الدخل الحقيقي للاسرالفقيرة٠
3/ دراسة نظام الدعم الحالي بكل دقة دراسة مستفيضة تشمل الأهداف الفئات المستفيدة طريقة ادارته وتكلفته٠
كذلك دراسة المنطق الاقتصادي وكذلك الكفاءة الاقتصادية له يجب النظر بصفة خاصة للتميز بين الدعم الضمني ومقارنة ذلك بالدعم غير الضمني وعادة مايصعب تحديد ذلك من الميزانية بشكل مباشر٠
في حالة دعم المنتجين الوضع يختلف لان الغرض هنا حماية دخل المنتج من تقلبات السوق لذلك تدعم الأسعار بمستوي اعلي من اسعار السوق لذا يجب توخي الدقة في تقديم الدعم المنتجين المحتاجين فعلا للدعم من اصحاب الدخول الدنيا وكذلك من فقدوا أعمالهم نتيجة تطبيق إصلاحات رفع الدعم٠
4/ دراسة تأثير رفع الدعم علي الدخول الحقيقية للفقراء ويتطلب ذلك معلومات دقيقة وإحصائيات عن حجم الدعم بالنسبة لمنصرفات الاسرة لقياس مدي تأثير رفع الدعم علي هذه الاسرة عادة ماتجمع هذه المعلومات من
(Household Surveys)

ثانيا / الاعتبارات الاجتماعية والسكانية
1/ توفيرنظام للحماية الاجتماعية والامكانيات الإدارية للتنفيذ قبل الشروع في تطبيق رفع الدعم لان إيجاد نظام بديل مثل الدعم النقدي يتطلب إمكانيات ادارية ولوجستية ونظم معلومات شامل يجمع كل المعلومات عن الاجتماعية والسكانية والاقتصادية عن مجمل السكان وخاصة المستهدفين ببرامج الدعم٠
2/ تقسيم الفئات المستهدفة الي مجموعات (Clustered) علي اسس وخصائص اجتماعية واقتصادية او علي اسس جقرافية المطلوب هنا القيام بدراسات مكثفة لتقييم الفقرعن طريق استبيانات الاسرعادة ماتكون هذه الدراسات مهمة جدا في تصميم نظام شبكات الضمان الاجتماعي التي يجب ان توجد قبل الشروع في اجراء اَي إصلاحات في نظام الدعم٠
3/التأكد من الطاقة الاستيعابية لبرنامج الحماية الاجتماعية الموجود اصلا لاستخدامه في تنفيذ نظام الدعم التعويضي لرفع الدعم مثال لذلك نظام الضمان الاجتماعي او نظام المعاشات او نظام تأمين العطالة او نظام الدعم الاجتماعي٠

ثالثا/ الاعتبارات السياسية
1/ يكون هناك خطر الإضرابات السياسية ماثلا للعيان عند تطبيق رفع الدعم بعجلة ودون الوضع في الاعتبارات شبكات الضمان الاجتماعي وكذلك عندما تكون الحكومة لاتتمتع بشعبية كبيرة٠
2/ يجب ان نتأكد من ان رفع الدعم يشكل عبئا علي مجموعة محددة دون المجموعات الآخري٠
3/ يجب ان يكون رفع الدعم وفق خطوات (Gradual)
ووفق جدول زمني معلن لتقليل الرفض الشعبي٠
4/ الإصلاحات العاجلة مجدية عندما تكون الحكومة قوية سياسيا (politically strong) !!!!!!!!

من كل ماسبق ذكره نود التركيز علي الاتي:
اولا/ رفع او ترشيد الدعم يتطلب الكثير من التجهيزات الإدارية والفنية واللوجستية وكذلك المعلومات الدقيقة والدراسات المعلومات الإحصائية علي مستوي الاقتصاد الجزئي والاقتصاد الكلي وكل ذلك غيرمتوفر الان في السودان كماهو معلوم بالضرورة٠
ثانيا/ من الشروط الهامة جدا لرفع الدعم وحود شبكة قوية للضمان الاجتماعي لحماية الطبقات الفقيرة والتي ستضرر بشكل كبير من رفع الدعم وذلك غير متوفر الان في السودان٠
ثالثا/ من اهم الشروط الاقتصادية لتبرير رفع الدعم ان تكون تكلفة الدعم تمثل نسبة عالية من الميزانية كذلك يجب مقارنة تكلفة الدعم مع تكلفة البرامج البديلة لرفع الدعم كالدعم النقدي المباشر هناك غموض في في تحديد تكلفة الدعم السلعي وكذلك تكلفة الدعم النقدي المباشر وتحديد الفئات المستهدفة٠
رابعا/ حسب تقارير صندوق النقد الدولي تطبيق برنامج رفع الدعم بصورة سريعة قد يسبب الإضطرابات السياسية وعدم الاستقرار وظروف السودان الحالية والتي تشهد حالة من السيولة السياسية والاستقطاب الحاد اضافة لتردي الوضع الاقتصادي والكساد التضخمي وتزايد السخط الجماهيري وعدم الرضا من الحكومة بشكل واضح
رفع الدعم في هذه الظروف العصيبة نوع من الانتحار السياسي والذي يقود حتما لسقوط الحكومة فورا٠
خامسا/ لكل الأسباب سالفة الذكر ظروف السودان الحالية علي الاقل ماتبقي من عمر الفترة الانتقالية لاتسمح برفع الدعم إطلاقا من الأفضل سياسيا واقتصاديا واجتماعية ترك نظام الدعم كما هو والبحث عن بدائل للتعامل مع عجز الميزانية وإيجاد مصادر حقيقية لتمويل برنامج الدعم ويمكن توفير ذلك من من خلال تحسين اداء الصادرات وخاصة الذهب ومن الأموال المستردة من ازالة التمكين ومن أموال الشركات الرمادية ومن تحسين الأداء الضريبي والكثير من البدائل الآخري والتي يمكن توفيرها ادا تواجدت الإرادة السياسية٠
كما سبق وان ذكرنا في مقال سابق ان الأسباب الحقيقية لرفع الدعم تتلخص في التالي:

أولاً/ أسباب عقائدية وأيديولوجية تتلخص في تبني سياسات صندوق النقد الدولي في التحرير الاقتصادي الشامل وسيادة قانون السوق والتحرير الكامل لكل الأسعار، والخروج الكامل للقطاع العام من القرار الاقتصادي لصالح القطاع الخاص المحلي والأجنبي٠

ثانياً/ أسباب سياسية تتلخص في ضعف حكومة حمدوك لمواجهة دولة التمكين والقضاء على امتيازاتها من أموال وممتلكات وعقارات وشركات وتسهيلات مصرفية وإعفاءات ضريبية وجمركية، القضاء على دولة التمكين سيمكن الدولة من الحصول على موارد ضخمة ملك للشعب السودانية، وتعزز موقف إيرادات الميزانية والميزان التجاري٠

ثالثاً/ أسباب اقتصادية: رفع الدعم سيمكن حكومة حمدوك من توجيه موارد الدعم نحو الوفاء بالتزامات خدمات الديون على أمل التمكن من استعادة علاقة السودان مع صندوق النقد والحصول على قروض جديدة وإعادة جدولة الديون المتراكمة والميزان التجاري.

الورقة الرابعة
السياسة المالية والنقدية في السودان
تجربة الماضي ورؤية المستقبل

د.عبدالمحسن مصطفى صالح
جامعة الخرطوم- كلية الاقتصاد

استهل الكاتب الدراسة بالتعرض للخصائص الاساسية للسياسة المالية والنقدية للنظام المايوي لتوضيح مساهمات تلك السياسات في خلق وتعميق الاختلالات التي عاني منها الاقتصاد٠
كان اهم واخطر اثار تلك السياسات هو ماخلقته من اختلال حاد او فجوة ضخمة ومتعاظمة بين معدلات الإنفاق الحكومي والخاص علي السلع وبين طاقة البلاد الانتاجية والتصديرية ونمو معدلات الإنفاق العام مع ثبات معدلات الانتاج والتصدير او تراجع معدلات نموها٠
ترتب علي هذا الوضع الاتي:

اختلال داخلي تجلي في الاتي:
1/ ارتفاع جنوني لاسعار السلع في السوق الرسمي٠
2/ ظاهرة السوق السوداء٠
3/ الانعدام التام للسلع الاساسية ومدخلات الانتاج وبالذات المستوردة منها لفترات طويلة٠
4/ اختلال خارجي تمثل في العجز المزمن في ميزان المدفوعات ذلك العجز والذي كان يمول بواسطة القروض قاسية الشروط والتي أدت لتراكم المديونية الخارجية لتصل التسعة بليون دولار بنهاية العام 1984
يسال الباحث سؤالان محوريان
السؤال الاول/ كيف يتم تمويل هذا الإنفاق الحكومي؟
السؤال الثاني/ لماذا لم يكن لهذا الإنفاق وخاصة الإنفاق الاستثماري اثر إيجابي علي الانتاج بالقدر الذي يمكن من تدفق السلع والخدمات للسوق المحلي والتصدير وبالتالي يساهم في تخفيف حدة التضخم؟
للإجابة علي السؤال الاول ان هذا الإنفاق الحكومي والخاص اعتمد علي الاستدانة من النظام المصرفي المحلي والعالمي فبالنسبة لأنفاق القطاع العام كان الاعتماد علي الاستدانة من بنك السودان ومن مؤسسات التمويل الدولية اما القطاع الخاص فقد اعتمد تمويل إنفاقه علي قروض البنوك التجارية المحلية والأجنبية٠

العجز في موازنة القطاع العام
أدي لجوء القطاع العام للاستدانة من بنك السودان لتمويل عجز الموازنة أدي ذلك الي الانفجار في معدلات نمو الكتلة النقدية ومرد ذلك هو مافرضته هذه الاستدانة علي بنك السودان من افراط شديد وخطير جدا في اصدار العملة ذلك الإصدار الذي ترتب علي الإفراط فيه تسارع شديد في معدلات ازدياد كتلة النقود٠
أضاف الباحث بعض الإحصائيات لتوضيح ذلك في الاتي:
1/ ان الاقتراض من النظام المصرفي المحلي والأجنبي قد مول حوالي 87% من نفقات القطاع العام خلال الفترة المعنية من 1971-1983
2/ ان الاتفاق علي مايسمي مجازا بالتنمية لم يكن يستند علي فوائض وفورات حقيقية حققها القطاع العام بل اعتمد علي الاستدانة فنجد ان الفوائض قد مولت حوالي 7% فقط من الإنفاق علي التنمية٠
3/ استدانة القطاع العام من بنك السودان كانت استدانة تراكمية تراكمت عبر السنين وأصبحت قروض طويلة الأجل دون ان يحدد طول هذا الأجل٠
4/ عدلت سلطات مايو قانون بنك السودان(المادة ٥٧) وأزالت كل القيود والضوابط والتي تنظم علاقة الحكومة ببنك السودان فيما يتعلق بالاستدانة من بنك السودان٠وأصبح بنك السودان مجرد اداة من أدوات السلطة وفقد الاستقلالية المطلوبة لتنفيذ السياسة النقدية بصورة سليمة تخدم الاقتصاد الوطني٠
ويسال الباحث السؤال التالي:
من أين اتي بنك السودان بتلك الأموال التي اقرضها للقطاع العام؟
والاجابة علي هذا السؤال بسيطة وخطيرة وهي ان بنك السودان كانت وسيلته الوحيدة لمد القطاع العام بهذه الأموال هي اصدار العملة اَي طباعة النقود٠
وتشير الإحصائيات من تقارير بنك السودان ان حجم الزيادة في طباعة النقود قد بلغ نسبة ال 689.7% في الفترة من 1960-1984
ولتوضيح ذلك الإفراط النقدي توضح الإحصائيات ان ما اصدر بنك السودان من عملة خلال عام 1984 وحده كان يساوي تسعة أضعاف مااصدره خلال الثمان سنوات من ديسمبر 1960 الي ديسمبر 1968
يتضح جليا تزامن الإفراط النقدي في اصدار العملة مع تصاعد العجز في موازنة القطاع العام والذي نتح من تزايد وتيرة الإنفاق الحكومي غير المنتج بل الضارفي الكثير من الأحيان ومن التدهورالمريع في مستوي إنتاجية وأداء مؤسسات القطاع العام المختلفة٠

تمويل البنوك التجارية القطاع الخاص
الإصدارغيرالمسؤول للعملة قد تسبب بشكل اساسي في النمو الهائل لودائع الجمهور لدي هذه البنوك التجارية وهذه الودائع (تشكل المكون الثاني لكتلة النقود اضافة للعملة المتداولة لدي الجمهور)
فالعملة المصدرة كانت نسبة كبيرة منها تذهب للبنوك التجارية في شكل ودائع يودعها في البنوك والتي تقوم بتسليفها للجمهور وشركات القطاع الخاص وعند دخولها البنوك التجارية فان هذه السيولة تصير قاعدة لنمو تراكمي في حجم السلفيات التي تمنحها للقطاع الخاص يلازمه نمو تراكمي في حجم ودائع الجمهور لدي هذه البنوك٠والآلية التي يتم بها هذا النمو التراكمي للسلفيات والودائع تكون علي النحو التالي:
تمنح البنوك السلفيات للقطاع الخاص والذي بدوره يستثمرها في شراء السلع والخدمات وتباع هذه السلع والخدمات وتحقق أرباح ودخول تتحول الي ودائع لدي البنوك والتي تقوم بتسليفها مرة اخري في نمط متكرر سلفيات-انفاق- دخول- ودائع -سلفيات وهكذا
نلاحظ ان هذه العملية التراكمية يترتب عليها تعاظم في معدلات انفاق القطاع الخاص ويتسع مداها نتيجة الإفراط النقدي في اصدار العملة اذ أدي ذلك الإفراط الي ازدياد السيولة النقدية للبنوك التجارية وبالتالي ازدياد قدرتها ورغبتها في تسليف القطاع الخاص٠
نلاحظ تزايد الطلب علي سلفيات من البنوك من طبقة التجار ورجال الاعمال خاصة مع ارتفاع معدلات التضخم فهذه الطبقة من التجار تحقق ارباحا هائلة من اقتنائها وتخزينها السلع وبيعها بأسعار عالية لتحقيق الأرباح ويتم ذلك علي حساب المواطن وفِي ظل خلق الندرة والفساد وغياب الدولة٠
في فترة الحكم المايوي تحول الجهاز المصرفي بأكمله بنك السودان والبنوك التجارية الي اداة طيعة في يد السلطة وحلفائها من الطبقة الرأسمالية وخاصة الرأسمالية التجارية
اولا/ بنك السودان يصدر العملة بلاحدود او ضوابط ليمول الإنفاق الحكومي غير المجدي والذي فاق معدل نموه معدلات نمو الإيرادات الحكومية (معظمها من الضرائب غير المباشرة)٠
ثانيا/ البنوك التجارية تقرض الملايين من الجنيهات للفئة الرأسمالية وبالذات التجارية تمدها برأس المال الذي تستخدمه في اقتناء السلع وتكديسها ثم بيعها بأسعار خيالية محققة بذلك أرباح طائلة تلك الأرباح ناتجة من استقطاعات كبيرة ومتزايدة من الدخول الحقيقية للغالبية العظمي من الجماهيروقد لعب النظام المصرفي دور العامل المساعد في عملية "الثراء بالافتقار" هذه٠
اما البنوك الأجنبية فقد كانت ولإزالت في تحالف متين مع الرأسمالية التجارية خصوصا التي تعمل في التجارة الخارجية فالضرر هنا ليس مقتصرا علي الضغوط التضخمية التي تسببها هذه التسهيلات بل يتعدي ذلك الي حرمان البلاد من قدر كبير من العملات الأجنبية التي تتسرب خارج البلاد لمصلحة البنوك والمصدرين٠

اتجاهات الإنفاق الحكومي والخاص
خلال الفترة من 1970-1981 جملة الإنفاق الحكومي علي الخدمات الاجتماعية والاقتصادية مجتمعة من جملة الإنفاق الكلي قد بلغ 10.9% بينما بلغ الصرف علي الدفاع والأمن نسبة ال 17.8% ونصيب بند سداد الديون وفوائدها نسبة ال 14.1% وهذا يعني ان ما أنفق علي هذين البندين الاخيرين قد بلغ في المتوسط اكثر من ضعف ما أنفق علي الخدمات الاقتصادية والاجتماعية٠

الإنفاق الاستثماري للقطاع العام
كان معظم الاستثمار الحكومي استثمارا مركزا في قطاع الخدمات ذات الانتاجية غير المباشرة وكان التمركز في مشاريع قليلة العدد وباهظة التكاليف لم تشكل احسن الخيارات الاستثمارية أيضا كان هناك قدرا لايستهان به من هذه الاستثمارات تتجه الي مشاريع عديمة الانتاجية مثل القصور والمكاتب والمنازل الحكومية٠ اما الاستثمار في قطاعي الزراعة والصناعة فقد كانت مشاريع قليلة العدد باهظة التكاليف وقليلة المردود الاقتصادي والاجتماعي٠

استثمارات القطاع الخاص
كانت الاستثمارات الخاصة في الزراعة والصناعة وكذلك في العقارات وسائل النقل والتجارة والخدمات تتجهة نحو المجالات التي تحقق الربحية العالية والتي كانت تزداد مع ازدحام المدن ومع التضخم ومع تردي او انعدام خدمات الدولة ومع انخفاض الأجورالناجم من وجود جيش احتياطي ضخم من العاطلين ومع الفساد والتلاعب في الاسواق٠

الإجراءات المالية والنقدية المقترحة
نسبة لضخامة الحجم الحالي الكتلة النقدية والتي ستظل لفترة طويلة قوة شرائية ضاغطة بشدة علي السوق وبالتالي وقودا للتضخم والازمات الآخري لذلك يجب اتخاذ بعض الإجراءات المالية والنقدية والتي تهدف الي تقليص هذه الكتلة النقدية والوصول بها الي الحجم المناسب في الوقت المناسب ويتطلب ذلك التحكم في حجم الاقتراض الحكومي من بنك السودان واقتراض القطاع الخاص من النظام المصرفي مضافا الي ذلك التحكم في حجم السيولة لدي الجمهور٠
اما الاقتراض الحكومي فان التحكم فيه يعني بالضرورة التحكم في مصدره وهو العجز في موازنة القطاع العام٠
اما اقتراض القطاع الخاص فان التحكم فيه يعني التحكم في مجمل نشاط البنوك التجارية والتأثيرعلي سيولة الجمهورنعني به اغراء الجمهور بشراء السندات الحكومية المختلفة والاحتفاظ بها وكذلك اغراء الجمهور بالاحتفاظ بقدر اكبر من ثروته النقدية في شكل ودائع ادخار لدي البنوك التجارية ومؤسسات الادخار٠

الإجراءات المالية
لتقليص عجز الميزانية في جانب الإيرادات
يجب زيادة الإيراد الحكومي عن طريق إصلاح جذري في نظام الضرائب يستهدف النظر في هيكل الضرائب المباشرة وغيرالمباشرة وهنا يلاحظ الاتي:
اولا/ الهيكل الحالي للضرائب غير المباشرة مرهق لذوي الدخول المنخفضة وايضاً غير فعال من ناحية العائد المالي يجب تعديله ليتمكن من تحقيق العدالة الاجتماعية والعائد النقدي٠
ثانيا/ ان ضريبة الأرباح لايتناسب عائدها مع حجم قاعدتها من أرباح الشركات الضخمة وهذا يؤشر الي وجود تهرب وتحايل ضريبي٠
اقتراحات في مجال الإصلاح الضريبي
اولا/ اعادة النظرفي هياكل وقوانين الضرائب المباشرة بهدف قفل الثغرات وتحقيق التناسب بين قاعدة كل ضريبة والعائد المتحصل منها اما بالنسبة لضريبة الأرباح فيقترح الكاتب ان يدخل رأس المال المستثمر - قيمة الأصول المستخدمة في العملية الانتاجية- ضمن اسس تقدير هذه الضريبة كان تشكل نسبة مئوية معينة(10%مثلا) من رأس المال المستثمركحد أدني لاتقل عنه الضريبة بأي حال٠
ثانيا/ فرض ضريبة علي الثروة بجميع اشكالها العينية والنقدية هذه الضريبة ستكون بمثابة شبكة لاحتجازالأرباح والدخول الهاربة من الضرائب المباشرة اضافة لما ستدره من عائد لخزينة الدولة فإنها تعد وسيلة لآلزام الفئات الهاربة من الضرائب لدفع التزاماتها٠

تعليق وتحليل
اضافة لما تقدمت به الورقة القيمة من اقتراحات نيرة نقترح الاصلاحات العاجلة التالية في مجال السياسات النقدية:
اولا/ تغيير العملة والتحكم في الكتلة النقدية من جديد٠
ثانيا/ اصلاحات هيكلية في النظام المصرفي تبداء ببنك السودان وازالة التمكين في كل مؤسسات النظام المصرفي٠
ثالثا/ إستقلالية البنك المركزي٠
رابعا/ التنسيق الكامل والانسجام بين السياسة النقدية والسياسة المالية لتحقيق أهداف توازن الاقتصاد الكلي٠
خامسا/ اعادة النظروتقيم تجربة النظام المصرفي الاسلامي وكشف الفساد والتجاوزات فيه٠
سادسا/ توجيه الائتمان ومنح القروض نحو القطاعات المنتجة وتشجيع تمويل مشروعات الشباب المنتج ودعم القطاع التعاوني بالتمويل الميسر٠

د٠محمد محمود الطيب
wesamm56@gmail.com
واشنطن سبتمبر 2020

References
صندوق النقد الدولي والفوضى الاقتصادية في السودان
تجربة السوق السوداء
بروفيسور علي عبدالقادر
بروفيسور محمد نورالدين
جامعة الجزيرة
ورقة قدمت من خلال مؤتمر سياسات الاقتصاد الكلي
الخرطوم -قاعة الصداقة يناير ١٩٨٦
https://www.imf.org/external/pubs/ft/equity/index.htm/
https://medameek.com/?p=15445



الكاتب: محمد محمود الطيب حسن النور

من مواليد مدينة أمدرمان حاصل علي بكالوريوس الاقتصاد جامعة الخرطوم دبلوم عالي العلاقات الدولبة جامعة الخرطوم دبلوم عالي في التخطيط الاقتصادي مركز الدراسات الانمائية والبحوث الاقتصادية جامعة الخرطوم عمل في وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي لمدة عامين ثم اعتقل في بيوت الاشباح بواسطة جهاز أمن نظام البشير هاجر هجرة قسرية الي الولايات المتحدة طالبا اللجوء السياسي واستقر في منطقة واشنطون العاصمة حاصل علي ماجستير الاقتصاد الإقليمي والإدارة العامة من جامعة جورج ميسون فيرجينيا حاصل علي ماجستير علوم الكمبيوتر ونظم المعلومات تخصص اوراكل من جامعة ميريلاند حاصل علي ماجستير إدارة الاعمال MBA Finance من جامعة ستراير حاصل علي الدكتوراه في الاقتصاد تخصص اقتصاد دولي واقتصاديات التنمية من جامعة هوارد بواشنطن دي سي عمل أستاذا للاقتصاد في جامعة ستراير وكلية برنس جورج وكلية هوارد الجامعية له عدة بحوث ومقالات في السياسة والاقتصاد نشرت في العديد من وسائل التواصل الاجتماعي