أعشى قيسٍ أقوى بصيرةً ويَرَى، في حدودِ الحقيقةِ، أبعدَ ممَّا يُرَى

محمد خلف - 02-06-2021

في مسجدٍ بالقضارف على الطَّريقِ الرَّئيسيِّة المؤدِّية إلى مركزِ المدينة، كان أصحابُ مشاريعِ الزِّراعةِ المطريَّة يتزاحمون للجُلُوسِ أمام النَّوافذ حتَّى يتسنَّى لهم، أثناء الخُطبةِ، مراقبةُ غيمةٍ واعِدةٍ وهي تتحرَّكُ بتؤدةٍ تحت رُكامٍ من السُّحُبِ المرتفعة؛ وما إِنْ فَرَغَ الإمامُ من تأدية صلاةِ الجُمُعة حتَّى تَدافعَ عددٌ من أصحابِ المشاريعِ نحو لاندكروزراتهم لمطاردةِ الغيمة التي يُمَنُّونَ النَّفسَ بأن تحِلَّ ضَيفَةً على مشروعِهم أو تترُكَ عليه بعضاً من أثرٍ مائيٍّ يُمهِّدُ لسُقْيةٍ مُقبِلة. وفي فيلم "إعصار" الذي تمَّ إصدارُه قبل ربع قرن، يقومُ فريقٌ من علماء القياس (المِترولوجيا) بمطاردةِ الأعاصير في ولاية أوكلاهوما لوضعِ جهازِ القياسِ "دوروثي" في عينِ الإعصار حتَّى يتمكَّنَ الجهازُ من تسجيلِ قياساتٍ دقيقةٍ لحركتِه. أمَّا أعشى قيسٍ، فإنَّه قد دقَّقَ النَّظرَ رغم ضَعفِه وأمعنَ في اِطِّراده حتَّى يصِلَ إلى مقياسٍ دقيقٍ لِطريقةِ سَيرِ هُريرةَ على قدمَيْها فيما هي تمشي الهُوَيْنى من بيتِ جارتِها، "والزَّنبَقُ الوَرْدُ من أردانِها شَمِلُ"؛ ولإسماعِه وَسْواسَ حَلْيِها، اِستعانَ "بريحٍ عِشرِقٌ زَجِلُ".

ما يَجمعُ بين المراقبين في المواقفِ الثَّلاثةِ أعلاه أنَّهم فشلوا جميعاً في اِلتقاطِ الواقعِ كما هو، وأنَّهم اِستعانوا عِوَضاً عنه بنَمذَجَةٍ تصنعُ لهم معادِلاً له يُعينُ في التَّنبُّؤ بحركته، وإنِ اِختلفَ نوعُ هذا المعادلِ في كلِّ موقفٍ من المواقف الثَّلاثة: في الموقفِ الأوَّلِ، كان المعادِلُ عمليَّاً بحتاً، فهو وإنْ حدَّد المشروعَ الذي سقطت عليه مياهُ الغيمةِ هذه المرَّة، فإنَّه لا يصلُحُ مقياساً للتَّكهُّنِ بسقوطِ الغيثِ في المرَّةِ المقبِلة؛ وفي الموقفِ الثَّاني، كان المعادِلُ رقَميَّاً، فهو وإنْ لم يبلغِ الدِّقَّةَ المتناهية، فإنَّه أُنموذجٌ مفيدٌ يكثُرُ اِستخدامُه في التَّنبُّؤ بحركةِ الأعاصير في موسم اِشتدادِها في بعضِ الولاياتِ الأمريكيَّة؛ أمَّا في الموقفِ الثَّالث، فقد كان المعادِلُ شعريَّاً، اِستخدمَ فيه صَنَّاجَةُ العربِ أداةً بلاغيَّة، هي التَّشبيه، للوصولِ إلى وصفٍ يُقرِّبُ لدى السَّامعِ أو القارئِ صورةَ الواقعِ التي لا يُمكِنُ اِلتقاطُها كما هي لناطحِ صخرةٍ، حتَّى لو أنفقَ العمرَ كلَّه

لِيُوهِنَها؛ إذ كلَّما يستطيعُ تقريبَه، هو أنَّ سرعةَ مِشيةِ هُرَيرةَ تقعُ في منطقةٍ بينَ بينَ: "لا ريثٌ ولا عجلُ".

منذُ أوائلِ القرن الماضي وحتَّى منتصفِ عشرينيَّاتِه، ظلَّ العلماءُ في سعيٍ متَّصِلٍ لتبديدِ الحُجُبِ التي تفصِلُهم عن تتابعِ الأحداثِ في الواقعِ العيني؛ فها هي الإلكتروناتُ المتحرِّرةُ عن إحدى مداراتِها "تقفزُ"، بتعبيرِ عالِمِ الفيزياءِ الدَّنماركي، نيلز بور، من مدارٍ إلى آخرَ من غير أن تمرَّ بمنطقةٍ بينَ بين، فيما يتشابكُ زوجٌ من الجُسَيماتِ المُتناهيةِ الصِّغَرِ، ولو كانا على بُعدِ آلافِ الأميالِ من بعضِهما البعض. حيال هذا الواقعِ المُغطَّى بغِلالةٍ من النَّمذَجَةِ المتنوِّعة، أتي فيرنر هايزنبيرغ بنَمذَجَةٍ أخرى أكثرَ فائدةً ونجاعة، مكَّنتِ العلماءَ من كشفِ أسرارٍ ما كان من الممكنِ الوصولُ إليها؛ وهي (أي هذه النَّمذَجَة) عبارة عن مصفُوفةٍ من الاِحتمالاتِ التي تُحدِّدُ بأكثرِ دقَّةٍ ممكنةٍ إنسانيَّاً موقعَ الإلكتروناتِ أو قوَّةَ دَفعِها (سرعتها مضروبةً في كُتلَتِها)، وليس الاِثنتينِ معاً في ذاتِ الوقت؛ وهو ما باتَ يُعرَفُ لاحقاً بمبدأ الرِّيبة أو عدم اليقين. وقد تبِعَه إيرفين شرودنغر بصياغةِ معادلةٍ لدالَّةٍ مَوجيَّةٍ تصِلُ إلى نفسِ شبكةِ الاِحتمالات، من غيرِ أن تعصِفَ بمبدأ الرِّيبة الذي قرَّره هايزنبيرغ.

يختلفُ هذا الوضعُ بشكلٍ ساطعٍ عمَّا كان رهطٌ من العلماءِ خلالَ القرنِ التَّاسع عشر يأملون في تحقيقِه، فقد بدا لهم أنَّ علم الفيزياء على وَشْكِ الاِكتمال، بعد أن أرسى إسحق نيوتن قوانينَ الحركةِ الأساسيَّة التي تضبط حركة الأجسام الأرضيَّة والأجرام السَّماويَّة بشكلٍ يقتربُ من مَرتبةِ اليقين. وقد عزَّزَ هذا الأملَ ما قام به عالِمُ الرِّياضيَّاتِ والفيزياء الفرنسي، بيير-سايمون دو لابلاس من تأكيدٍ لاِستقرارِ مساراتِ الكواكب التي ظنَّ نيوتن أنَّها مائلةٌ إلى التَّأرجُحِ بحيث تحتاجُ إلى تدخُّلٍ إلهيٍّ مستمرٍّ لوضعِها في مداراتٍ مستقرَّة؛ هذا إضافةً إلى صياغته للفرضيَّة السَّديميَّة للمجموعةِ الشَّمسيَّة؛ حتَّى بلغت به درجةُ الخُيَلاء أنَّه حينما سأله نابليون أين مكانُ اللهِ من هذا النِّظامِ الشَّمسيِّ البديع، أجاب من غيرِ مُداراةٍ للحاكمِ بأنَّه ليسَ في حاجةٍ

إلى هذه الفرضيَّة. كلُّ هذا التَّصوُّر المبسَّط قد تمَّ العصفُ به مع صياغة الميكانيكا الكوانتيَّة في عشرينيَّاتِ القرنِ الماضي؛ فإن تمَّ تمديدٌ لتصوُّرِ لابلاسَ لِيشملَ أصلَ الكونِ، كما عند إستيفن هوكينغ، فإنَّه ما زالَ مُواجَهاً بنفسِ شبكةِ الاِحتمالات، إضافةً إلى وضعِ تكهُّناتٍ عن أصلِه من غيرِ أدلَّةٍ تجريبيَّة أو اِستنادٍ إلى حججٍ برهانيَّة.

تتميَّز العلومُ الطَّبيعيَّة بخاصيَّتين أساسيَّتين، هما التَّعليل والتَّنبُّؤ؛ أي تعليل الظَّواهر الطَّبيعيَّة والتَّنبُّؤ بحدوثها، باِستخدامِ معادلاتٍ رياضيَّة أو نماذجَ نظريَّةٍ على المستوى المفهومي، بحيثُ تُساعِدُ على الوصولِ إلى أرقامٍ محدَّدة. إلَّا أنَّه قد اِتَّضح، بعد الحماس اللَّابلاسيِّ المبرَّرِ في وقتِه، أنَّه على مستوى الكون الكبير، لا يُمكِنُ تفسيرُ كلِّ شيء؛ فهناك ما يُعرَفُ بالثَّابت الكونيِّ، أو الطَّاقةِ المُظلِمة التي تُدرَكُ فقط بأثرِها ولا سبيلَ إلى معرفةِ كُنهِها حتَّى الآن؛ وعلى مستوى الجُسَيماتِ المُتناهيةِ في الصِّغَر، هناك مبدأ الرِّيبة أو عدم اليقين؛ فصحيحٌ أنَّه من الممكن التَّنبُّؤُ بمستوًى يقتربُ من درجة اليقين، إلَّا أنَّه باِستخدام الميكانيكا الكوانتيَّة لا يمكنُ إيجادُ تحديدٍ أكثرَ دِقَّةً من مصفُوفةِ الاِحتمالاتِ التي صاغها هايزنبيرغ، أو الدَّالة المَوجيَّة التي صاغها شرودنغر. فإذا كان من المستحيل تفسيرُ كلِّ شيء، وفقَ ما أقرَّ بذلك عالِمُ الفيزياء الأمريكيِّ الحائز على جائزة نوبل للفيزياء، إستيفن واينبيرغ، وإنَّه من المحال التَّنبُّؤ اليقينيُّ بموقع الإلكتروناتِ وزَخَمِها (أي قوَّةِ دفعِها) في ذاتِ الآن، فإنَّ ما نطمحُ إلى رؤيته هو إعادةُ صياغةٍ لإجابةِ لابلاسَ، وأن تكتَسِيَ الإجابةُ بغِلالةٍ من الاِحتمالات، بحيثُ تُفسِحُ مجالاً لِما لا يُمكِنُ للعلومِ الطَّبيعيَّة سبرُ أغوارِه، على الأقلِّ حتَّى هذا الوقتِ الرَّاهن.

إذا كانتِ العلومُ الطَّبيعيَّةُ مُقيَّدةً بوثاقِ الاِحتمالاتِ، فمِن بابٍ أولَى ألَّا تكونَ العلومُ الاِجتماعيَّةُ بمنأًى عن إكراهاتِ هذا القيد، ممَّا يُهدِّدُ أيَّ دعاوى من جانبِها للوصولِ إلى تنبُّؤاتٍ لها طَابَعُ الحتميَّة أو الاِعتقادُ الدُّوغمائيُّ بصِحَّتِها. وقد سبق أن نَصَحَ الفيلسوفُ النَّمساويُّ، كارل بوبر، بتعريضِ التَّنبُّؤاتِ الاِجتماعيَّة، بما في ذلك مقولات الحتميَّة التَّاريخيَّة، إلى محاولاتِ الدَّحضِ

المستمرَّة، بتقييدِ أزمنةِ حدوثِها، توطئةً لاِستبدالِها بمقولاتٍ أكثرَ دِقَّةً من سابقتِها، ولإعطائها في ذاتِ الوقتِ طابَعَاً علميَّاً معتاداً يُقرِّبُها من مصافِّ العلومِ الطَّبيعيَّة. بالطَّبع، تلك كانت نصيحةً غيرَ عمليَّة، بل كان الأجدى تغيير شروط التَّنظير عند اِصطدامِه بواقعٍ غيرِ مُؤاتٍ أو مخالفٍ للتَّوجُّه النَّظري؛ فإذا كان الواقعُ أخضرَ والنَّظريَّةُ رماديَّةً، فبالأحرى إثراؤها دوماً من معطياتِ الواقع الأكثر طزاجةً. هذا ما قام به أنطونيو غرامشي بصددِ التَّفرِقةِ بين المجتمع السِّياسيِّ والمجتمعِ المدني (الذي نشهدُ الآن في بلادِنا اِزدهاراً لمنظَّماتِه)؛ وهو ما قام به لوي ألتوسير بصددِ التَّمييز بين الدَّولة وأجهزة الدَّولة الآيديولوجيَّة (الذي يُفسِّرُ لنا هيمنةَ الشَّريك الأضعف في فترة الحكم الثُّنائيِّ على آليَّات الإنتاج الثَّقافي)؛ وهناك العديد من المساهمات الأقلَّ شُهرةً، والتي قام بها العديدُ من الفلاسفة والمفكِّرين في مجال العلوم الاِجتماعيَّة، ولكنَّها اِنحصرت في الإطارِ الأكاديميِّ؛ وما خرجَ منها إلى المجالِ العامِّ، لقيَ تجاهلاً وقمعاً وتسفيهاً من المذاهبِ الفكريَّة والتَّنطيماتِ السِّياسيَّة المُؤمِنة بمقولاتِ الحتميَّةِ التَّاريخيَّة.

أشياءُ هذا العالمِ كلُّها مُتَّصِلةٌ ببعضِها البعض؛ فحفيفُ فراشةٍ في جانبٍ منه، قد يتسبَّبُ في حدوثِ إعصارٍ في جانبٍ آخرَ منه؛ وهو ما باتَ يُعرفُ بـ"تأثيرِ الفراشةِ" في نظريَّة الفوضى الفيزيائيَّة. وقد حاول الفيلسوف الألماني، مارتن هايدغر، من قبلُ أن ينفُذَ - في حدودِ التَّقاليدِ التي يُرسيها محيطُه الأكاديميُّ - إلى كينونةٍ فيما وراءِ وجودِ الأشياء، بالتَّحليلِ الأُنطولوجيِّ المُضنِي، عِوَضاً عن التَّحليلِ الوُجُوديِّ (الأُونطيكيِّ) لأشياءِ هذا العالمِ الملموس. ويحاولُ عالِم الفيزياء الإيطالي، كارلو روفيللي، من خلالِ تبنِّيه لتفسيرٍ علائقيٍّ (ريليشنال) للميكانيكا الكوانتيَّة، أن يجِدَ صلةً بين كلِّ أشياء الكون، باِعتبارِ أنَّ أشياءَه جميعَها موجودةٌ في العالم بالمعنى الهايدغري، إذ لا يُوجَدُ شيءٌ بمعزلٍ عن غيرِه، كما لا ينكشفُ شيءٌ إلَّا بِصَلتِه ولِصَلتِه بغيرِه. ونحاولُ من جانبنا أن نُبرِزَ صلةً آنيَّةً وتعاقُبيَّةً في ذاتِ الآن، وفي حدودِ الحقيقة، بين أُقنُوماتٍ ثلاثة، هي الواقع (أو العالَم) والعقل (أو الفكر) واللُّغة (أو التَّعبير)؛ كما نطمحُ إلى الاِستضاءةِ بِصِلةٍ أخرى أكثرَ اِشْتمالاً، هي نورُ الحقِّ، ونُسمِّيها صلاةً؛ وهي لا

تخضعُ، إلَّا في مظهرِها الخارجيِّ، لقوانينِ هذا العالم الذي يَتقيَّدُ بمنطقِ الحقيقة. ولا نُشيرُ هنا إلى وجودِ طبيعتَينِ، بالمعنى الدِّيكارتيِّ، وإنَّما إلى علاقةٍ غيرِ مثماثلةٍ بين الحقِّ والحقيقة؛ فالحقُّ ليس شيئاً بين أشياءِ هذا العالم، فهو ليس كمثلِه شيء، لكنَّنا نتطلَّعُ -رغم ذلك- إلى الاِقترابِ منه عبر الصَّلاة؛ ونُدرِكُ أنَّه قريبٌ، إلَّا أنَّه أمرٌ فرديٌّ؛ فمَنْ شاءَ أن يؤمِنَ به فليؤمن، فلن يخسرَ بإيمانِه إلَّا بعضاً من قلقِه.

ونؤمِنُ أنَّ القرءانَ كلامُ الله، وكلُّه إعجازٌ إلهي - مُحْكَمُه ومتشابِهُه على حدٍّ سواء: المُحْكَمُ لوضوحِ بلاغِه وسَرَيَانِه في كلِّ زمان، والمتشابِهُ لقوَّةِ بلاغتِه ومُرُونتِها التي تسمَحُ بتقديمِ تفسيراتٍ مختلفة لآياتِه عبر الحِقب، إذ إنَّ تفسيرَها يستضيءُ دوماً بعلومِ العصرِ وثقافاتِه السَّائدة. على سبيل المثال، كرويةُ الأرضِ تُعطِي تصوُّراً عامَّاً مختلفاً عن تسطُّحِها، وبالتَّالي تقودُ إلى فهمٍ يُساعِدُ في إلقاءِ ضَوءٍ جديد على كثيرٍ من الآياتِ التي تُشيرُ إلى هذا الكوكب؛ وكذلك مركزيَّةُ الشَّمسِ ودورانُ الكواكبِ حولها، بما فيها كوكبُ الأرض. وعندما ننظرُ إلى المجرَّاتِ وأصلِ الكونِ في ضَوء نظريَّة "الاِنفجار العظيم" أو أصل الإنسان في ضَوء التَّدورُن عن طريق الاِنتقاء الطَّبيعي، فإنَّ أُفقاً جديداً ينفتحُ أمام التَّفاسير. وإذا قبلنا النَّظريَّة النِّسبيَّة العامَّة، فلا فِكاكَ من مراجعةِ كثيرٍ ممَّا ألِفنا من تفسيرات. أمَّا الميكانيكا الكوانتيَّة التي تمَّ بعجُها في عشرينيَّاتِ القرنِ الماضي، فإنَّها تُتيحُ لنا تفسيراً لآيةٍ ما كان من الممكن الوصولِ إليه، على وجاهته، لولا ما كشفت عنه بشأنِ حركةِ الإلكترونات؛ فبناءً عليها (أي الكوانتيَّة)، يُمكِنُ تفسيرُ عبارة "تَحْسَبُهَا" في قوله تعالى: "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ ۚ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ" (سورة "النَّمل، الآية رقم "88") بمعناها الحرفي، أي إجراءُ عملياتٍ حسابيَّة؛ وهي ما يقومُ به الدِّماغُ بشكلٍ لاإراديٍّ عندما ينظرُ المراقبُ إلى جبلٍ فيُصبِحُ جامداً بفعلِ المراقبة، بعد أن اِنهارتِ الدَّالَّةُ المَوجيَّة، واِستقرَّت إلكتروناتُه التي كانت تدورُ حول النَّوى في شكلِ سُحُبٍ متجمِّعة أو أمواجٍ تُحاكي السُّحُبَ قبل "اِنهيارِها".

يُعرَفُ ترافقُ الشَّيءِ وضدِّه في ذاتِ الآن في الميكانيكا الكوانتيَّةُ بمفهوم التَّراكب الكمِّي، فالإليكترونُ ثابتٌ ومتحرِّكٌ في ذاتِ الآن، في شكلِ جُسَيمٍ مُتناهٍ الصِّغر أو في شكلِ مَوجة. وتوضيحاً بيانيَّاً أكثر لهذا التَّراكب، اِبتدع عالِمُ الفيزياء النَّمساوي، إيرفن شرودنغر، تجرِبةً فكريَّة (غيدانكن إكسبيريمنت) باتت تُعرَفُ باِسم "هُريرة شرودينغر"؛ وهي عبارةٌ عن صندوقٍ مُغلق بداخلِه هُريرةٌ وقارورةٌ من السُّمِّ (أو عقَّارٌ مُنوِّم كبديلٍ أكثر إنسانيَّةً اِقترحه روفيللي) ومصدرٌ مُشِعٌّ؛ فإذا رَصَد جهازٌ بداخل الصَّندوق نشاطاً إشعاعيَّاً، فإنَّ القارورة تتحطَّم، فيندلقُ العقَّارُ فتنامُ الهُريرة؛ وبعد ذلك مباشرةً، وبحسب مفهوم التَّراكُب الكمِّي، فإنَّ الهُريرةَ تُصبِحُ مستيقظةً ونائمةً (باِقتراح روفيللي) في ذاتِ الآن؛ ليس إمَّا مُستيقظةٌ أو نائمة، وإنَّما مستيقظةٌ ونائمةٌ في ذاتِ الآن! ومع ذلك، فإذا نظرَ شخصٌ إلى داخل الصَّندوق، فسيجِدُ الهُريرةَ إمَّا مُستيقظةً أو نائمة، وليس الحالتين معاً في ذاتِ الوقت! وكذلك حالُ النَّاظرِ إلى هُريرةِ قيسٍ، فإنَّ مِشيتها من بيتِ جارتِها ستبدو له إمَّا أنَّها متسارعةٌ أو أنَّها مُتريِّثة؛ أمَّا أعشى قيسٍ القادرُ على أن يرى، في حدودِ الحقيقةِ، أبعدَ ممَّا يُرى، فإنَّه يرى تراكُباً للحالتينِ في ذاتِ الآن: "لا ريثٌ ولا عجلُ"؛ ولكنَّه لا يبلُغُ قدرةَ الحقِّ التي ترى نظاماً فيزيائيَّاً أكثرَ صلابةً، فيما هو يمرُّ مرَّ السَّحابِ، بينما لا يرى الإنسانُ العاديُّ، المقيَّدُ بحدودِ الحقيقةِ واِنهيارِ الدَّالةِ المَوجيَّةِ بتدخُّلِه كمشاهدٍ، سوى جُلمُودِ صخرٍ أو جُمودِ جبل.