كنَّا نرغبُ في بدءِ هذا المقال اعتباراً من الفقرةِ الثَّانية، على أن نوفِّر للقارئ فرصةً للاستمتاعِ بنزهةٍ خالية من اعوجاجِ الطَّريق ومطبَّاتِه، اعتماداً على أنَّ ما تمَّ إضمارُه عَرَضَاً لا يحتاجُ إلى تبيين وما تمَّ تضمينُه عَنوةً لا يحتاجُ إلى توضيح؛ وبالطَّبع، يُمكِنُ للقارئ المَلول أن يثِبَ الآنَ مباشرةً إلى الفقرةِ التَّالية. إلَّا أنَّ أيَّ مرجعٍ (بالمعنى المنطقيِّ واللُّغوي، وليس بمعنى المصدرِ الأكاديميِّ الَّذي يُمكِنُ الرُّجوعِ إليه) يتمُّ الإشارةُ إليه يكونُ دائماً موضوعاً قابلاً للتَّغيُّر، إمَّا من تِلقاءِ نفسِه أو بما يُتيحُه لنا الثَّراءُ الصَّرفيُّ والدَّلاليُّ للُّغة. على سبيلِ المثال، تتحوَّلُ ثمَّةَ بيضةٌ تحت أنظارٍ ثاقبة إلى يرقةٍ فشرنقةٍ ثمَّ فراشةٍ زاهيةِ الألوان؛ كما تنثالُ بضعُ كلماتٍ غامضةِ الدَّلالةِ تحت مسامعَ مرهَفةٍ إلى لحنٍ شجي؛ وهذه الأرضُ المنبسطةُ مائلةٌ في واقعِ الأمرِ إلى التَّفلطُح، وهذه الشَّمسُ الغاربةُ تُخفِي دورانَها الدَّائمَ صوبَ الشَّرق؛ "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ"؛ (سورة "النَّمل"، الآية رقم "٨٨"). وإذا كان المرجعُ الَّذي نُريدُ أن نتحدَّث عنه هو السُّودان، فإنَّ مُسَمَّاه ظلَّ يتقلَّبُ على أقلَّ تقديرٍ منذُ عام ١٨٩٨، كما أنَّ مساحته تقلَّصت بالفعل في عام ٢٠١١؛ وإذا أرَدنا تحديداً أكثرَ دِقَّةً للمرجع، فإنَّنا باستثناءِ الأفعالِ نُقيمُ بالحروفِ والأسماءِ وبتغييرِ مواقعِها في بنيةِ التَّعبيرِ علاقاتٍ تشملُ الاحتواء ("الثَّقافة في السُّودان")، والاشتمال ("الثَّقافة السُّودانيَّة")، والانتقال ("ملامحُ ثقافيَّةٌّ من السُّودان" و"انفتاحٌ ثقافيٌّ على السُّودان")، والإضافة ("ثقافة السُّودان")؛ وتتنوَّعُ هذه التَّعبيراتُ المرجعيَّة وتتعدَّدُ بالإنكارِ والتَّعريف ("ثقافة" و"الثَّقافة")، والإفرادِ والتَّثنيةِ والجمع ("هذه الثَّقافة وهاتانِ الثَّقافتانِ وتلك الثَّقافاتُ العديدة")، والتَّكلُّمِ والخطابِ والغَيبة ("ثقافتنا وثقافتكم والثَّقافةُ الوافدةُ مع جنودِ الاحتلال").
عموماً، تُوجَدُ ثلاثةُ مرتكزاتٍ أساسيَّة للثَّقافة في السُّودان؛ إن لم يتمَّ تمييزُها وعدم الخلط بين وجوهِها وجوانبِها، فلا أملَ يُرجَى في فهم التَّاريخ الثَّقافيِّ للبلاد، ناهيكَ عن وضعِ إستراتيجيَّةٍ شاملة للنُّهوض به من رِبقَةِ التَّخلُّف الاقتصادي، واستشرافِ أفقٍ واضحِ الرُّؤية لازدهارِه وتقدُّمه. أوَّلُ هذه المرتكزاتِ هو ما يُمكِنُ تسميتُه بالمفهومِ الأنثروبولوجيِّ للثَّقافة، وهو ما استأثر بتطويرِه، وإنشاءِ علومِه في الأساس، علماءُ الأنثروبولوجيا والآثارِ الغربيُّون، الَّذين أخذ عنهم العلماءُ السُّودانيُّون مبادئ العلمِ والحرفة الَّتي قد يتأسَّس عليهما يوماً ما مدرسةٌ سودانولوجيَّة تضطلعُ بدورٍ رائد في توطينِ العلم بترسيخِ رؤًى عالميَّة تمتحُ من منابعِ معرفةٍ محلِّيَّة لصيقة بموضوعاتها. والرَّكيزةُ الثَّانية هي ما يُسَمِّيه الماركسيُّون التَّقليديُّون بالبناءِ الفوقيِّ للمجتمع أو ما يصطلحُ عليه الماركسيُّون الجدد في أوروبا بالأجهزةِ الأيديولوجيَّةِ للدَّولة، وتشمل اللُّغات والتَّربية والتَّعليم والإعلام (إذاعة وتلفزيون) والكتب والصُّحف والمجلَّات والمسرح والسِّينما والموسيقى والفنون والأنشطة الرِّياضيَّة والمرافق الدِّينيَّة والشُّؤون الأسريَّة؛ وقد لعب الشَّريك الأضعف في الحكم الثُّنائي (ولا زال يلعب) دوراً أساسيَّاً في ترسيخ هذه الرَّكيزة، اعتماداً على اشتراكِه مع غالبيَّةِ الأهالي في اللِّسانِ العربيِّ والمعتقدِ الدِّيني، وهو دورٌ يستوجبُ الامتنانَ قبل الشُّروعِ في التَّنازعِ الضَّروريِّ لإرساءِ نظراتٍ وطنيَّةٍ مستقلَّة. والرَّكيزةُ الأخيرة، وهي - ما سنُركِّزُ عليه في هذا المقال - حصيلةُ المعارف الَّتي تنتجُها المؤسَّساتُ التَّعليميَّةُ الحديثة الَّتي ظلَّت تدخلُ منذُ إنشائها في مساراتٍ تصادميٍّة مع الثَّقافاتِ التَّقليديَّة؛ وهي ركيزةٌ تحتاجُ من الدَّارسينَ وراسمي السِّياساتِ إلى إحداثِ توازنٍ دقيق، حتَّى لا يتمُّ طمسُ المعارف المكتسَبة محلِّيَّاً أو الانكفاءُ النُّكوصيُّ على رِدَّةٍ ظلاميَّة تقطعُ صلةَ البلاد بروحِ العصرِ الحديث وتحظِرُ على مواطنيه (إنِ استطاعت) حرِّيَّةَ الاستمتاعِ بأفضلِ مكتسباتِه.
لعب الشَّريكُ البريطانيُّ الأقوى في فترةِ الحكمِ الثُّنائيِّ دوراً أساسيَّاً في إرساءِ الرَّكيزةِ الأولى للثَّقافةِ في السُّودان، حيث أتاحتِ الإدارةُ الاستعماريَّة للمختصِّين والرَّحَّالة ومفتِّشي المناطق ومساعديهم مجالاً واسعاً لدراسةِ ثقافةِ المجتمعاتِ الحيَّة الَّتي تسعى على سطحِ الأرض وحضارةِ المجتمعاتِ المندثرة الَّتي ترقد آثارُها تحتها. وقد ازدهر في تلك الفترة عِلمُ الأنثروبولوجيا، حيثُ قام إيفانز بريتشارد بدراسةِ مجتمعَيْ الزَّاندي في غرب الاستوائيَّة وغرب بحر الغزال والنُّوير في منطقة أعالي النِّيل، كما قام جيمس فريزر بدراسةِ مجتمع الشُّلك على ضفَّتَيْ النِّيل الأبيض بالقربِ من ملكال. وفي مجال الآثار، اشتُهِر إيه جي آركِل الَّذي ألَّفَ كتاب "تاريخ السُّودان"، كما اهتمَّ الإداريُّ الشَّهير السِّير دوغلاس نيوبولد بجمعِ بعضِ الآثارِ وتسجيلِ أبحاثِه الميدانيَّة في مجلَّة "السُّودان في رسائل ومدوَّنات" الذَّائعةِ الصِّيت؛ وهو الشَّخصُ الَّذي سنهتمُّ به بشكلٍ أكبر، عندما ننتقلُ إلى تناولِ الرَّكيزةِ الثَّالثة للثَّقافةِ في السُّودان ومناقشةِ محاضرتِه الافتتاحيَّةِ الشَّهيرة الَّتي ألقاها في دار الثَّقافة تحت عنوان: "الوجهُ الإنسانيُّ للثَّقافة"، إضافةً إلى البلبلة الَّتي أحدثها في فعاليَّةِ الحركةِ الوطنيَّةِ النَّاشئة وانقسامِها في أوائلِ أربعينيَّاتِ القرنِ الماضي بعدم تمييزه بين الرَّكيزتين الأولى والثَّالثة. إلَّا أنَّ كلَّ ما يُمكِنُ أن يُقالَ في هذه الفقرة ضمن هذه الرَّكيزةِ الأولى هو أنَّه من غيرِ الممكنِ للباحثين في مجالَيْ الأنثروبولوجيا وعلمِ الآثار ممارسةُ أبحاثِهم من غيرِ إنشاءِ صلةٍ حميمة بالأهالي؛ وتتكثَّفُ هذه الصِّلةُ بمعرفةِ لغاتِهم ولهجاتِهم، وإقامةِ صداقاتٍ بينهم تُساعِدُ على تفهُّم المجتمعاتِ الحيَّة وتُسهِّلُ مهمَّةِ البحثِ عن حضاراتِ أسلافِهم المندثرة. كما تنتشرُ، خصوصاً بين علماء الأنثروبولوجيا، ظاهرةُ تمثُّلِ الثَّقافات ومحاكاةِ أنماطِ سلوكِها وعاداتِها؛ وهي ظاهرةٌ تنشأُ أوَّلاً بسببِ الانغماسِ في موضوعاتِ البحث، ولكنَّها تماماً مثل تقنيةِ التَّقمُّصِ لدى الممثِّلين المسرحيِّين والسِّينمائيِّين يتعثَّرُ أحياناً طرقُ الفكاكِ من إسارِها.
إذا كان الشَّريكُ الأقوى في الحكم الثُّنائيِّ قد عمِلَ بمفرده على إرساءِ الرَّكيزةِ الأولى للثَّقافةِ في السُّودان، فإنَّ الشَّريكَ الأضعف قد استأثرَ بنصيبِ الأسد في إقامةِ الرَّكيزةِ الثَّانية؛ فمنذُ الأيَّام الأولى للاحتلال، ظلَّ يضطَّلعُ بأعباءِ التَّرجمة الشَّفهيَّة بكلِّ ما تنطوي عليه من مخاطرِ التَّأويل، كما ظلَّ يقومُ بتفسيرِ الممارساتِ المحلِّيَّة الَّتي تستعصي على فهمِ الشَّريكِ الأقوى بكلِّ ما يترتَّبُ على ذلك من تحيُّزٍ ثقافيٍّ ضمني؛ واشترك إداريُّوهُ ومعلِّمُوهُ في التَّدريسِ في المدارسِ النَّاشئة، كما استقبلت بلادُه وفوداً من طالبي العلم في معاهدِها وأزهرِها الشَّريف؛ وكانت للصُّحفِ والمجلَّاتِ والكتبِ القادمة من القاهرة أثرُها في تثقيفِ الأذهان وتنميةِ العقول؛ وقد درس أوائلُ الموسيقيِّين السُّودانيِّين في كونسرفوتواراتِ مصرَ وجلبوا معهم آلةَ العود، كما زار حاضرتَها مُغنُّون لتسجيلِ بواكيرِ أسطواناتِهم الغنائيَّة؛ وساهم الفقهاءُ المصريُّون في التَّدريسِ في المساجدِ والزَّوايا والإفتاءِ في المحاكمِ الشَّرعيَّة والأحوالِ الشَّخصيَّة للأسرِ المسلمةِ في السُّودان، وشارك عددٌ منهم في إعمارِ المناسباتِ الدِّينيَّة والمولدِ النَّبويِّ الشَّريف، وكان أحدُ خطَّاطيهم البارعين يقومُ بكتابةِ الآياتِ والأدعية على سُرادقِ كافَّةِ الطَّوائفِ الدِّينيَّة المشارِكَةِ في المولد؛ وقام شبابٌ من مصرَ بإنشاءِ فرقٍ رياضيَّة تسمَّت بعضُها باسمِ مليكِهم "فاروق"، ولاحقاً باسمِ زعيمِهم "ناصر"؛ وانتشرتِ الأفلامُ المصريَّة الَّتي كانت تصِلُ عبر السِّينما المتجوِّلة إلى بيوتِ الأفراح والسَّاحاتِ العامَّة، كما توالى لاحقاً انتشارُ المسلسلاتِ التِّلفزيونيَّة؛ وكان لهم دورٌ في الإذاعة الَّتي تبثُّ أخبارَ الحربِ باللُّغةِ العربيَّة، وهو اهتمامٌ قاد دولتُهم فيما بعد إلى إنشاءِ وبثِّ إذاعة ركن السُّودان من القاهرة، مثلما قاد اهتمامُهم بالمؤسَّساتِ التَّعليميَّة إلى إنشاءِ مدارسَ ثانويَّة وفرعاً لجامعة القاهرة بالخرطوم؛ علاوةً على كلِّ ذلك، تسرَّبت نفحةٌ من اللُّغةِ الفرنسيَّة الَّتي اكتسبوها منذ حملة نابليون على مصرَ إلى إحدى أشهرِ عامِّيَّاتِ اللُّغةِ العربيَّة في المدنِ السُّودانيَّةِ الثَّلاث، وفقَ ما جاءتِ الإشارةُ إلى ذلك في مقالٍ سابق.
تتمحورُ الرَّكيزةُ الثَّالثة حول أمرَيْنِ رئيسيَّيْن، هما: أوَّلاً، التَّبشيرُ المسيحيُّ المصاحبُ للحملةِ الاستعماريَّة، في مقابل الوعظِ الإسلاميِّ الَّذي يتمُّ بثُّه عبر منابرِ المساجد الَّتي قامت في أعقابِ انهيارِ الممالكِ المسيحيَّة وظلَّت قائمةً منذُ تزايدِ هجراتِ المسلمين إلى السُّودان وتأسيسِ أوَّلِ مملكةٍ إسلاميَّة في سنَّار؛ وثانياً، المؤسَّساتُ التَّعليميَّة الَّتي جاءت مع جيوشِ الاحتلال، في مقابل الخلاوي والزَّوايا الَّتي يتمُّ فيها تعليمُ مبادئ القراءةِ والكتابة وتحفيظِ القرءان وتلقِّي دروسٍ في الفقهِ الإسلامي. وقدِ اهتمَّ الشَّريكُ الأقوى بدعمِ التَّبشيرِ المسيحي، خصوصاً في جنوبِ البلاد، ونشرِ عددٍ من المدارسِ القائمة على قدرٍ من نهجِ التَّعليمِ الغربي؛ فيما ساعد الشَّريكُ الأضعف على المحافظةِ على تعاليمِ الدِّينِ الإسلامي والتَّعاونِ مع الأهالي في الإبقاءِ على الخلاوي والزَّوايا الَّتي عمِلَ مؤتمرُ الخرِّيجين لاحقاً على دعمِها وتنميتِها. من جانبِه، كان السِّير دوغلاس نيوبولد يرى أنَّه لا يكفي فقط إنشاءُ مؤسَّساتٍ إداريَّة حديثة في السُّودان، بل لا بُدَّ من توسيعِ مؤسَّساتِ التَّعليمِ الحديث ونشرِ القيمِ الغربيَّةِ "الإنسانيَّة"؛ وكان يعتقدُ حتَّى قبل تعيينِه سكرتيراً إداريَّاً بأنَّه لا بُدَّ أن تكونَ لحكومةِ الخرطوم إستراتيجيَّةٌ ثقافيِّة وآليَّةٌ واضحة لتنفيذِ تلك الإستراتيجيَّةِ على أرضِ الواقع. إلَّا أنَّه غير العقباتِ الإداريَّة المتمثِّلةِ في البيروقراطيَّةِ الحكوميَّة، كان ينقصُه تفهُّمٌ واضحٌ لدورِه الجديد الَّذي عزَّزه انتقالُه من منطقةِ الكبابيش إلى حاضرةِ البلاد، كما كان ينقصُه فهمٌ عميقٌ للدَّورِ الَّذي كان يلعبه الشَّريكُ الأضعف في دعمِ وتطويرِ الثَّقافةِ المحلِّيَّة، إضافةً إلى العقباتِ الَّتي يضعُها الحضورُ الثَّقافيُّ لذلك الشَّريكِ أمام الإستراتيجيَّةِ الَّتي يسعى نيوبولد إلى تحقيقِ أهدافِها. وهذا ما سنُناقشُة في الفقرةِ التَّالية، الَّتي تتناولُ محاضرتَه الافتتاحيَّة في دارِ الثَّقافةِ بالخرطوم (أو ما يُسمِّيه الإنجليز "المركز الثَّقافي السُّوداني").
قبل إلقاءِ محاضرتِه الافتتاحية، كتب دوغلاس نيوبولد رسالةً خاصَّة إلى الآنسة مارجري بيرام الَّتي تبنَّى حزبُ العمَّالِ البريطانيِّ لاحقاً آراءها الرَّئيسيَّة بشأنِ تصفية الاستعمار، أشار فيها إلى أنَّ محاضرتَه الَّتي سيُلقيها في الدَّارِ الجديدة بعد أسبوعين من المرجَّحِ أن تكونَ بمثابةِ "خُطبةٍ جنائزيَّة" ("فيونرال أوريشن"). وقد يصَحُّ أن يُقالَ إنَّ نيوبولدَ كان ساخراً من نفسِه في رسالةٍ غيرِ رسميَّة لزميلةٍ إداريَّةٍ وأكاديميَّةٍ مرموقة، ولكنَّه شدَّدَ لاحقاً على أمرٍ شبيهٍ لذلك في صُلبِ محاضرتِه، حيثُ قال في الجزءِ الأخيرِ من المحاضرة، وكان يتعلَّق بخاصِّيَّةِ "التَّسامح"، إنَّه لن يُطيلَ الحديثَ عن هذا الجانب، إذ إنَّه سينطوي على نوعٍ من الوعظِ مكانُه منابرُ المعابدِ وليس منصَّاتِ المحاضرات. إلَّا أنَّ محاضرتَه قد لَقِيَت رغم ذلك رواجاً واسعاً وسط المتعلِّمين السُّودانيِّين، واعتبرها بعضُ رموزِ الرَّعيلِ الأوَّل بأنَّها أفضلُ ما قُدِّم بشأنِ الثَّقافة منذ أربعينيَّاتِ القرنِ الماضى، بل رأى بعضُهم أنَّ ميزاتِ الثَّقافةِ الأساسيَّة الَّتي تناولَها نيوبولد تنطبقُ بالكاملِ على الطَّيِّب صالح، أفضلِ الرِّوائيَّين الَّذين أنتجهم الحقلُ الثَّقافيُّ في السُّودان. ومن أجل هذه الانطباعاتِ الباقية أو هذه "النُّدوبِ الغائرة"، خصَّصنا هذا المقالَ لتحليلِ المحاضرةِ "التَّاريخيَّة" الَّتي جاءت تحت عنوان: "الوجهُ الإنسانيُّ للثَّقافة". اعتمد نيوبولد في تنفيذِ إستراتيجيَّتِه على إنشاءِ مركزٍ ثقافيٍّ يشتملُ على نادٍ اجتماعيِّ ومكتبةٍ وقاعةِ محاضراتٍ ووسائلَ كافيةٍ لترفيهِ الرُّوادِ وجذبِهم إلى الدَّار، بغرضِ إحداثِ تواصلٍ بين الموظَّفين البريطانيِّين والجالياتِ الأجنبيَّة المنعزِلة والمتعلِّمين السُّودانيِّين الَّذين كان معظمُهم يسكنون في أمدرمان، وكان هذا واحداً من الأسباب الَّتي أدَّت لاحقاً إلى فشلِ الدَّارِ في تحقيقِ أهدافِ الإستراتيجيَّة، ومن ضمنها خلقُ بيئةٍ متجانسة لخدمةِ الإدارةِ الاستعماريَّةِ في السُّودان؛ وما لم تفشلِ الدَّارُ فيه واستدعى كتابة هذا المقال هو رواجُ هذه المحاضرة الَّتي رأت أنَّ الإنسان المثقَّف، غير اكتسابِه لخاصِّيَّةِ التَّعلُّم، يجب أن يتمتَّعَ بخاصِّيَّةِ الإنسانيَّة، وأنَّ ميزاتِها الأساسيَّة هي الدُّعابةُ والبساطةُ والخيالُ والتَّسامح.
يُمكِنُ النَّظرُ إلى هذه الميزاتِ الأربعِ مجتمعةً وفقاً لأربعةِ مستويات: الأوَّل، يتعلَّقُ بالدَّفقِ الإيجابي الَّذي يصدُرُ من هذه الميزاتِ الَّتي لا خلافَ عليها في دَلالاتِها العامَّة؛ والثَّاني، يرتبطُ بتمثُّلِ نيوبولدَ نفسِه لهذه القيمِ الإنسانيَّةِ في حياتِه اليوميَّة؛ والثَّالث، يتساءلُ عن مدى انطباقِ هذه القيمِ على سلوكيَّاتِ الرِّوائيِّ السُّودانيِّ الكبير الطَّيِّب صالح؛ والرَّابع، يهتمُّ بقراءةِ هذه القيم في إطارِ السِّياقِ الَّذي أنتجها، وهو سياقُ الاستعمارِ الَّذي يُوجِّهُ علاقةَ حكومةِ الخرطوم - المتمثِّلة في سكرتيرِها الإداريِّ الَّذي كان بمثابةِ رئيسٍ للوزراء - بفئةِ المتعلِّمين الصَّاعدة الَّتي كانت تهفو إلى تحقيقِ استقلالٍ نوعي، يختلفُ عن "استقلالِ" حكومةِ الخرطوم عن تبعيَّتِها للمركزِ الاستعماريِّ الآخَرِ في القاهرة، الَّذي كان يُشرِفُ عليه آنذاك، أي في أربعينيَّاتِ القرنِ الماضي، المندوبُ السَّامي البريطاني. وكما أشرنا سابقاً، فإنَّ هذه الميزاتِ الأربع هي قيمٌ إنسانيَّة متَّفقٌ على قبولِها إلى درجةٍ يُصبِحُ معها تَردادُها على مسامعِ النَّاسِ نوعاً آخرَ من الوعظ تتفاداهُ المنصَّاتُ الأكاديميَّة، ولكنَّ طبيعةَ المعلِّم لدى دوغلاس نيوبولد وافتقادَه لروحِ النِّدِّيَّة الَّتي كان يجِدُها بين أقرانِه في بلدِه الأُمِّ وبين أصدقائه من السُّودانيِّين في منطقتَيْ الكبابيشِ وجبالِ البحرِ الأحمر، إضافةً إلى صِغَرِ سِنِّ المتعلِّمين النَّاشئين في المدنِ الثَّلاث، كانت تُحتِّمُ عليه تمثيلَ دورِ الواعظ، الذَّي يتهكَّمُ هو نفسُه من احتمالِ تقليدِه، كما رأينا ذلك في خطابِه إلى الآنسة بيرام قبل أسبوعين من إلقائه لتلك المحاضرة؛ وهذا الدَّورُ الَّذي اضطرَّ إلى تمثيلِه هو الَّذي جعله يتعالى على حركةِ المتعلِّمينَ النَّاشئة في اجتماعاتِه معهم، إضافةً إلى رفضِ مذكِّرتهم الشَّهيرة في عام ١٩٤٢، ووصفِ معظمِهم بأنَّهم "غيرُ ناضجين" ("هاف بيكد")، بينما كانت مرحلةُ تفكيكِ الاستعمارِ القديم تتطلَّبُ منه مزيداً من الصَّبرِ والاستماعِ إلى وجهةِ نظرِ الآخرين، بل و"التَّسامحَ" معهم كذلك بتحمُّلِ ما يراه شططاً أو استعجالاً من قِبَلِهم للَعِبِ أدوارٍ صعبة قبل استكمالِ التَّدرُّبِ على تأديتِها على أفضلِ وجه.
وإذا افتقر دوغلاس نيوبولد إلى فضيلةِ "التَّسامح" في التَّعاملِ مع حركةِ الخرِّيجين، فإنَّه أيضاً لم يكشف عن أيِّ "روحٍ للدُّعابةِ" معهم، بل ساهم بتعنُّتِه واستعلائه على بعضِهم واستمالةِ غيرِهم إلى شَقِّ حركتِهمِ النَّاشئة؛ وإذا عُرِفَ عن نيوبولد حفاوتُه بأصدقائه من قبيلةِ الكبابيش وقبائلِ البجة والتَّبسُّطُ معهم واستقبالُهم في باحةِ القصر بنَصبِ خَيمةٍ لهم فيها، فإنَّه لم يُظهِر أيَّ نوعٍ من "البساطة" عند استقبالِه لمندوبي الخرِّيجينَ المطالبينَ بتنفيذِ مذكِّرتِهم في عام ١٩٤٢. إلَّا أنَّ لا أحدَ يستطيعُ أن يُنكِرَ خاصِّيَّةَ سَعَةِ "الخيالِ" لدي نيوبولد، والَّتي عبَّر عنها في المحاضرة بشكلٍ مدهش من خلال حُبِّه للبلادِ الَّتي وَجَدَ نفسَه فيها، وذلك بوصفِه لتضاريسِها الماثلةِ للعيان وتاريخِها التَّليدِ عبر معرفتِه بعِلمَيْ الإنسانِ التَّأومَيْن: الأنثروبولوجيا (علم الإنسان) والآركيولوجيا (علم الآثار)؛ وعَبرَ تَرحالِه وَسَطَ مساحاتٍ شاسعة ورحلاتِه الاستكشافيَّةِ للتَّنقيبِ عن الآثارِ في السُّودان إلى الحدودِ اللِّيبيَّة ومعرفتِه الَّتي تعمَّقت بإنشاءِ صلاتٍ وطيدةٍ مع الأهالي ورُفَقَاءِ السَّفر، اتَّسعت رؤيتُه فأورثته تقديراً عالياً للبلاد، فكان يكفي لديه النَّظرُ إلى خريطةٍ صغيرة أو إسدالِ جَفنٍ قُبَيلَ قيلولةٍ أو سِنَةٍ من نوم حتَّى "يرى" و"يسمعَ" ضجيجَ الباعةِ في الأسواق، وانقضاضَ نَسرٍ فوق هضبةٍ عاليةِ الارتفاع، وهمهمةً لأطفالٍ وَهُم يُرددُّونَ في خلاويهم وزواياهمُ آياتٍ من الذِّكرِ الحكيم، وأنينَ ساقيةٍ لا ينقطع، ولحناً خافتاً لصبيٍّ يعزِفُ على ربَّابةٍ تحت سفحِ تلٍّ من تلالِ البحرِ الأحمر؛ علاوةً على ذلك، تمتلئُ أنفُه برائحةِ الدُّعاشِ وأوائلِ أمطارِ الخريف الَّتي تسقُطُ على تُربَةٍ ظمأى، وروائحِ الأعشابِ المبتلَّة وحرائقِ الغابات الَّتي لا تُنسَى. فكلُّ هذه الصُّورِ قد لا يحتاجُ مشاهدتُها أحياناً إلى السَّفرِ إلى أماكنَ بعيدة، بل يكفي استخدامُ قدرٍ من "الخيالِ" لاستحضارِها، لتكونَ معيناً للإنسانِ المثقَّف في حِلِّه وتَرحالِه على حدِّ السَّواء.
أمَّا الطَّيِّب صالح، فإنَّ الصِّفاتِ الأربعَ المذكورة في محاضرة دوغلاس نيوبولد، وهي "التَّسامحُ" و "الدُّعابةُ" و"البساطةُ" و"الخيال"، فإنَّها لا تنطبقُ عليه، لكنَّ الانتباهَ إلى ذلك يحتاجُ إلى قدرٍ من التَّدقيق؛ فهو لا يدعو إلى "التَّسامح"، بل يضيقُ ذَرعاً بالنَّاشِزينَ عن روحِ العصر، ويتساءلُ على رؤوسِ الأشهاد: أيُّ ريحٍ أتت بهم إلى هذا البلدِ الطَّيِّب ليقلِبوا نَهَارَه إلى لَيلٍ دامس؛ ما كان يدعو إليه الرِّوائيُّ السُّودانيُّ الطَّيِّب بين أهلِه الطَّيِّبين هو الاعتدال، الَّذي يرمزُ له في إحدى رواياتِه بتحاورِ متطرِّفَيْنِ، يساراً ويميناً، على مقرُبةٍ من خطِّ الاستواء. كما لم يتحلَّ الطَّيِّب صالح بروحِ "الدُّعابة"، بل استخدم السُّخرِيَةَ والتَّهكُّمَ لإضفاءِ طابَعٍ من الكوميديا السَّوداء على رواياتِه؛ من جانبٍ آخر، لا يُمكِنُ وصفُ صاحبِ "المَوسِم" بأيِّ نوعٍ من "البساطة"، بل هو إنسانٌ في غايةِ التَّعقيد وتحتاجُ رواياتُه إلى استكناهٍ عميقٍ لسَبرِ بعضٍ من دَلالاتِها، لكنَّه طيِّبٌ ومتواضع، وهما صِفتانِ تُوهِمانِ بتكلُّفِ "البساطة" الَّتي يبعدُ عنها في واقعِ الأمرِ فراسخَ ولا يَمِتُّ إليها بصِلة. وتماماً مثل دوغلاس نيوبولد، إن لم يكُن أكبرَ بمراحل، لا تخلو صفحةٌ من رواياتِه من استخدامِ "الخيالِ" بشكلٍ مبدِع: في الحَبكةِ وجَزالةِ التَّعبيرِ وإنتاجِ الصُّور، علاوةً على إبداعِ شخصيَّاتٍ تُوهِمُ بأنَّها حيَّةٌ تسعى بيننا مثل "الزَّينِ" و"الرَّاوي" في "مَوسِمِ الهجرةِ إلى الشَّمال" و"مصطفى سعيد" الَّذي عانى من جَرَّائه الكاتبُ الأمَرَّيْن، لعدمِ قدرتِه أوَّلاً على كَبحِ جِماحِه ولخلطِ كثيرٍ من القرَّاء بينه وبين الطَّيِّب صالح، ممَّا قادَ إلى إداناتٍ دَفَعَت سلطةٌ غاشمةٌ إلى مَنعِ كُتُبِه وحَظرِ دُخُولِه إلى البلادِ في فترةٍ حالِكةٍ من تاريخِها. وبخلافِ دوغلاس نيوبولد، لم يستخدم الطَّيِّب صالح "الخيالَ" للهُرُوبِ من ضجيجِ الحياةِ وعَنَتِها أو رتابةِ العملِ المكتبيِّ الرُّوتيني، كما لم يصنع لنفسِه ولقرَّائه فانتازيا روائيَّةً لإدارةِ الظَّهرِ إلى مقتضياتِ الحياةِ العصريَّة.
أخيراً، يُمكِنُ قراءةُ ميزاتِ الثَّقافةِ الأساسيَّةِ الأربعِ للإنسانيَّة الَّتي تناولها السِّير دوغلاس نيوبولد في محاضرتِه الافتتاحيَّة بدارِ الثَّقافة في ٣٠ مايو ١٩٤٠، وهي: "الدُّعابةُ" و"البساطةُ" و"الخيالُ" و"التَّسامح"، من خلال السِّياقِ الَّذي أنتجها، وهو السِّياقُ الاستعماريُّ لدولةِ الحكمِ الثُّنائيِّ في الخرطوم؛ وعندها، ربَّما ينقلبُ الشَّيءُ إلى ضدِّه بإبرازِ المقاصدِ "الحقيقيَّة" من وراءِ ترويجِ هذه الميزاتِ الأربعِ للإنسانيَّة. فليس المطلوبُ من الجيلِ النَّاشئِ على ما يبدو من نَشرِ هذه القيمِ "الإيجابيَّة" أن يُظهِرَ نوعاً من الجدِّيةِ في تذمُّرِه على الأوضاعِ الَّتي تجعلُ منه مواطناً من الدَّرجةِ الثَّانية، بل المطلوبُ منه التَّحلِّي بروحِ "الدُّعابة" حتَّى يتجاوزَ مرارةَ الحِرمانِ ويتناسى الفقدَ ويتعاملَ معه كأمرٍ واقع. كما ليس المطلوبُ من الخرِّيجينَ أن يتخلَّوا عنِ "البساطةِ" بإنشاءِ تنظيماتٍ في غايةِ التَّعقيد، لِتَلتَمِسَ أمراً في غايةِ الاستحالة، هو تحقيقُ الاستقلال الوطني؛ كما يُمكِنُ لِمَن أرادَ منهم استخدامُ قدرٍ من "الخيال" لتَوَهُّمِ أحوالٍ تُنسيهم وضعَهم المُذرِي تحت ظلِّ سلطةِ الاحتلال. أمَّا "التَّسامحُ"، فأمرٌ مطلوبٌ للغاية، إذ إنَّ الاستعمارَ قد أتى لهذه البلاد في نظرِ المحتلِّ لتعميرها، وإنِّ هذه المهمَّة يقومُ بها، حسب تصوُّرِ نيوبولدَ المثاليِّ، أُناسٌ مخلِصون؛ فإن أخطأوا، فيستوجبُ على الإنسانِ المثقَّف الصَّفحُ عنهم حتَّى تستكمِلَ إنسانيَّته. هذه بالطَّبعِ قراءةٌ محتملة لا تفترِضُ حُسنَ النَّوايا، لكنَّ الرَّجلَ بشهادةِ كثيرٍ من السُّودانيَّين قد أحَبَّ البلادَ وأخلصَ لها؛ وأنَّه، رغم تشدُّدِه مع ناشئةِ الخرِّيجين، كانت له صداقاتٌ عديدة مع أفرادٍ عاديِّين في المناطقِ الَّتي عَمِل بها؛ كما يُمكِنُ القولُ إنصافاً له بأنَّ ما يُردِّده النَّاسُ يوميَّاً على وسائلِ التَّواصلِ الاجتماعيِّ بأنَّ السُّودانَ كانت له أفضلُ خدمةٍ مدنيَّةٍ عشيَّةَ الاستقلال يَرجِعُ قدرٌ كبيرٌ منه إلى المجهوداتِ الإداريَّةِ والفكريَّةِ الَّتي بذلها السِّير دوغلاس نيوبولد، وتشهدُ بذلك مراسلاتُه، خصوصاً مع الآنسة مارجري بيرام الأستاذة بكليَّة سانت هيوز في جامعة أكسفورد؛ وقد توفي الرَّاحلُ في عام ١٩٤٥، ودُفِنَ حسب وصيَّتِه في السُّودان، البلدِ الَّذي أحبَّه وأنفقَ رَدَحاً من عُمُرِه في سبيلِ "تطويرِه".
ركَّزنا في هذا المقال على "النُّدوبِ الغائرة" وتركنا البابَ مفتوحاً أمام "الجروحِ النَّازفة"، حيث تناولنا بالتَّحليل، في إطارِ الرَّكيزةِ الثَّالثة، محاضرة دوغلاس نيوبولد ذاتَ الأهمِّيَّةِ البالغة في الكشفِ عن جذورِ المعرفةِ المُنتَجةِ في البلاد. إلَّا أنَّه لا تزالُ هناك تحدِّياتٌ كبيرة أمام توطينِ الثَّقافةِ في السُّودان؛ فمن ضمنِ الرَّكيزةِ الأولى، يتمثَّلُ التَّحدِّيُ الأكبرُ في الابتعادِ عن تنويهِ الذَّاتِ بإنتاجِ علومٍ إنسانيَّة تخضعُ لمعاييرِ البحثِ المتَّفقِ عليها عالميَّاً، ولكن بالنَّظرِ إلى المراجعِ المختارةِ من خلال الزَّوايا الَّتي لا تتوفَّرُ لغيرِ الرَّاصدِ المحلِّي؛ وفي إطارِ الرَّكيزة الثَّانية، يأخذُ التَّحدِّيُ شكلَ تهذيبٍ للنَّفسِ وابتعادٍ عن المهاتراتِ بحفظِ حقوقِ الآخرين، والعملِ في ذاتِ الوقتِ بشكلٍ موضوعيٍّ وتدريجيٍّ على استعادةِ الهيمنةِ الوطنيَّة على كافَّةِ أجهزةِ الدَّولةِ الأيديولوجيَّة؛ أمَّا بخصوصِ الرَّكيزة الثَّالثة، فإنَّ التَّحدِّيَ الحيويَّ يُشيرُ إلى أهمِّيَّةِ إحداثِ توازنٍ دقيقٍ بين الالتزامِ الوجوديِّ بمقتضياتِ الحداثة والتَّمسُّكِ في ذاتِ الوقتِ بأفضلَ ما أنتجه العقلُ المحلِّي، من غيرِ انصياعٍ لاعقلانيٍّ لأيٍّ منهما. وهذا التَّحدِّيُ الأخيرُ هو ما سيُحدِّدُ بأنَّ الدَّولةَ الوطنيَّةَ ذاتَها ستكونُ أو لا تكون، أي أنَّها ستكونُ دولةً شامخةً بين الدُّول، قادرةً على المساهمةِ معها في الإنتاجِ المعرفيِّ بظلالِه المحلِّيَّة أم أنَّها ستُصبِحُ دولةً فاشلة ("فيلد إستيت")، تتركُ للآخرينَ في هذه الأزمنةِ المفصليَّة مهمَّةَ تمثيلِها والتَّخطيطِ لمستقبلِها والتَّحدُّثِ باسمِها وتقمُّصِ شخصيَّتِها، كما كان هو الحالُ إبَّان عهدِ إشرافِ السِّير دوغلاس نيوبولد على صياغةِ إستراتيجيَّةٍ ثقافيَّةٍ شاملة لحكومةِ الخرطوم واقتراحِ آليَّاتٍ ملائمةٍ لتنفيذِها.
شارك هذا الموضوع: