نستلهمُ في هذا المقال أُغنيةً للفنَّانِ الرَّاحل عبد الكريم الكابلي ونجترحُ من مطلعها "زماناً للنَّاسِ" غير الَّذي ينتخبه العلماءُ عند سبر أغوار الكون الغامضة. لقد وجد الجنسُ البشريُّ نفسَه منذُ الأزل - ومازالَ - في حيرةٍ شديدة بشأنِ إدراكِ كُنهِ الزَّمان وتحديدِ كيفيَّةٍ ملائمة للتَّعامل معه؛ فمن جهةٍ، يعيشُ البشرُ داخل الزَّمان "كما تحيا الأسماكُ داخل الماء"؛ ومن جهةٍ أخرى، لا يكادُ الزَّمانُ يستقرُّ برهةً قليلةً (لا تعدو نانو ثانيةٍ) على حال، حتَّى ينتقل إلى حالٍ آخر. وفي ظنِّنا أنَّ الجنسَ البشريَّ أدرك منذُ طفولته الباكرة وبحَدسِه المُبكِّرِ أنَّه أمام جوهرةٍ نادرة أو كنزٍ نفيس، لكنَّه قابلٌ مثل بلُّوراتِ ثلجٍ أو تمثالٍ من الشَّمع للذَّوبانِ أو الزَّوال؛ فانتخبَ بشكلٍ طبيعيٍّ لاإراديٍّ وسيلةً لإخفائه - ليس بدفنِه تحت الأرض مثل أيِّ معدنٍ ثمين، وإنَّما في مخبأٍ تحت ضوءِ الشَّمسِ السَّاطعة - بوضعِه على مرأًى من الجميع في مكانٍ يستحقُّه، بحيث لا تطاله يدٌ عابثة من غير أن ترتدَّ واجفةً خاسئة. لقد اختارتِ البشريَّةُ على ما يبدو بالانتخابِ الطَّبيعيِّ ومنذُ وقتٍ باكر إخفاء "زمان النَّاس" هذا في أحشاءِ اللُّغةِ الطَّبيعيَّةِ ذاتِها، وتركت لعلماء الطَّبيعة المُقبِلينَ زماناً باهتاً لا يُغني ولا يُسمِنُ من جوع، إلَّا أنَّه يصلُحُ رغم ذلك أرضيَّةً طيِّعةً عند سبرِ أسرار الكون.
فلنُفصِّل ما أجملناه في الفقرة الافتتاحيَّة المكثَّفة أعلاه، ولنضرب لذلك في الفقراتِ المُقبِلَةِ أمثلةً تُعينُ على شرحِ واستيعابِ فحوى ما نفتكِرُ في هذا الشَّأنِ الفلسفيِّ اللِّسانيِّ العويص. بدايةً، يعكفُ غالبيَّة علماء اللُّغة التَّقليديِّين على معالجة الظَّاهرة اللِّسانيَّة وفقَ أنساقٍ متتابعةٍ للزَّمان، وقد لحق بهم في ذلك القائلون بالتَّدورن (نسبةً إلى نظريَّة النِّشوء والارتقاء الدَّاروينيَّة)؛ والماركسيُّون الَّذين يُغلِّبون الحدث (المقيَّد منهجيَّاً بتاريخ وقوعِه) على البنية المتملِّصة من تسلسلِ الأحداث (لِتنجُوَ بجِلدِها من تقييداتِها المنهجيَّة)؛ والظَّاهراتيُّون (أتباعُ هايدغر) الَّذين يتَّخذونَ الزَّمان مناطاً للصَّيرورةِ وأُفقاً مفتوحاً للكينونة؛ غير أنَّه بدءاً منذ أوائل القرنِ الماضي، بدأ العلماء المُشتغِلونَ باللُّغة يُقاربونها وفقاً لأنساقٍ متزامنة؛ وهذانِ النَّهجانِ المتميِّزانِ هما ما باتا يُعرَفُانِ لديهم على التَّوالي بالنَّهجَيْنِ التَّاريخيِّ (الدِّياكرونيِّ) والوصفيِّ (السِّينكروني). إلَّا أنَّ هذا التَّمييزَ - على أهميَّتِه الأكاديميَّةِ البالغة - ليس هو ما نقصد بإخفاءِ الزَّمانِ في اللُّغة، ليُصبِحَ "زماناً للنَّاسِ" بصيرورتِه منظوراً لتحيُّزاتِهمُ الضِّمنيَّة الَّتي ظلُّوا حتَّى الآن يُمارسون حياتهم على هديها، رغم اهتداءِ العلماء منذ بداية القرن الماضي لمفهومٍ مخالفٍ للنَّظرة المألوفة للزَّمان، وهي انسيابه وتتابعه الَّذي لا ينقطع.
ففي عام ١٩١٥، أدرك ألبرت آينشتاين أنَّ الزَّمانَ لا يمضي على وتيرةٍ واحدة، وإنَّما على وتائرَ عِدَّة يتحكَّمُ فيها قُربُ المرءِ أو بُعدُه عن مركز الأجسام الفيزيائيَّة الضَّخمة الَّتي تُحدِثُ تغييراً في بنية الزَّمان حولها، فتُبطِّئُ السَّاعاتِ وتُقلِّلُ المدَّةَ لِمَن هو أقربُ إقامةً إلى المركز. على سبيلِ المثال، يحظى المقيمُ على قممِ الجبالِ بوقتٍ أكثر من ذلك الَّذي يقطنُ على سفحها أو عند مستوى سطح البحر. كما أدرك آينشتاين قبل ذلك في عام ١٩٠٥ أيضاً أنَّ الزَّمانَ لا يمضي بطريقةٍ واحدةٍ مطَّردة، وإنَّما بطرائقَ عِدَّة يتحكَّمُ فيها تحرُّكُ المرءُ بسرعاتٍ مختلفة أو بقاؤه في مكانٍ واحد، فيتعرَّضُ المُسرِعُ للإبطاءِ في السَّاعاتِ، بينما تسرِعُ السَّاعاتُ وتطولُ المدَّةُ لِمَن لزِمَ مكاناً واحداً لا يبرحه. إضافة إلى ذلك، أكَّد آينشتاين ما ذهب إليه إسحق نيوتن بوجودِ زمانٍ فيما وراء المادَّة الملموسة، لكنَّه بحسب نظريَّته ليس زماناً مطلقاً أو مستقلَّاً بذاته عمَّا يحدث في العالم، بل هو جزءٌ من أشيائه، فهو مجالٌ يتمدَّد ويتقلَّص، فيؤثِّر في كتلِ الأشياء حوله ويُفسِّر انجذابَ بعضِها لبعض. إلَّا أنَّ ميكانيكا الكم قد أثبتت عدم استمراريَّة الزَّمان بتأكيدها على لاتحدُّدِه ونسبيَّتِه، لاشتمالِه على مقاديرَ صغيرةِ الحجم غير قابلةٍ للانقسام وجزيئاتٍ متناهيةِ الصِّغر لا تقبلُ القياس، إلَّا بتفاعلِها مع أشياءَ أخرى.
في مقابل هذه التَّصوُّراتِ المربِكة للزَّمان، أودَعَتِ اللُّغاتُ البشريَّة ضمن بنياتها الدَّاخليَّة المستقرَّة "زماناً للنَّاسِ" يُقسِّمُ الأحداثَ والأفعالَ إلى ماضٍ (تترتَّبُ أسبقيَّاتُه حسب مرورِ الوقت) وحاضرٍ (ماثلٍ أبداً إلى العيان) ومستقبلٍ (مقبِلٍ مع توقُّعِ انبثاقِ كلِّ لحظةٍ جديدة)؛ وهذا التَّقسيمُ الثُّلاثيُّ قائمٌ، رغم بساطته، على ثنائيَّةٍ صميميَّة نجِدُها متكرِّرةً في عددٍ من التَّصنيفاتِ النَّحويَّة والبلاغيَّة. على سبيلِ المثال، فإنَّ ثلاثيَّة الماضي-الحاضر-الاستقبال تقومُ على ثنائيَّة الحضور (الفعل المضارِع للاسم في تمكُّنه وقوَّته) والغيبة (بانتقال الحدث إلى الماضي أو التَّنبُّؤ به وتوقُّعه قبل حدوثه). وعلى نفسِ المنوال، تنقسمُ الضَّمائرُ بأنواعها المختلفة إلى ثلاثةِ أقسامٍ قائمةٍ على ثنائيَّة الحضور (التَّكلُّم والخطاب) والغيبة. وكذلك ثلاثيَّة الخبر- الاستفهام-الأمر الَّتي اعتمد عليها جون سيرل في نظريَّة الأفعال الكلاميَّة بولوجِه من نفسِ الباب الَّذي فتحه جي إل أوستن، فهي أيضاً تقومُ على ثنائيَّة الحضور (الَّذي تتَّسمُ به الوقائع الَّتي تقبلُ الصِّدقَ أو الكذب) والغيبة (وهي مطلوبُ الأسئلة الَّتي تنتظرُ إجاباتٍ والأوامر الَّتي تحتاجُ إلى تنفيذ، وكلتاهما لا تقبلُ الصِّدقَ أو الكذب)؛ وهي نفسُ الثُّنائيَّة الَّتي قسَّمها البلاغيُّون العرب منذُ رَدَحٍ إلى خبرٍ وإنشاء.
وهناك أيضاً ثلاثيَّة زمن الفعل ("تينس") وكيفيَّته ("مود") وهيئته ("آسبيكت")، لكنَّها ثلاثيَّةٌ تستعصي على محاولة إقامتِها بالاستنادِ إلى ثنائيَّةٍ جامِعة، غير أنَّ كلَّ طرفٍ من هذه الثُّلاثيَّةِ قائمٌ على ثنائيَّةٍ منفرِدة؛ فزمنُ الفعلِ قائمٌ على ثنائيَّة أمام-خلف أو قبل-بعد، ومنها نشأ الفعلُ الماضي تدريجيَّاً في معظم اللُّغات البشريَّة؛ وكيفيَّةُ الفعلِ قائمةٌ على ثنائيَّة الفعلي (الواقعي) وغير الفعلي (المحتمل أو المتخيَّل)، ومنها نشأت أفعالُ الاستقبالِ في اللُّغاتِ الحيَّة؛ وكيفيَّةُ الفعلِ قائمةٌ على ثنائيَّة المتكرِّر والفجائي، ومنها نشأت الأفعال الدَّالَّة على الاستمراريَّة. ولأنَّ مجالَ الحقيقة قائمٌ على مجموعةٍ من الثُّنائيَّاتِ الخالصة، فإنَّه يُمكِنُ استنباطُها من الثُّلاثيَّتَيْن الزَّمانيَّة والمكانيَّة معاً؛ فثلاثيَّةُ الماضي-الحاضر-المستقبل يُمكِنُ تحويلها إلى ثنائيَّة الحضور والغيبة (كما سبقتِ الإشارةُ إلى ذلك)؛ وكذلك، فإنَّ ثلاثيَّة الطُّول-العرض-الارتفاع يُمكِنُ تحويلها إلى ثنائيَّة الأفقيِّ والرَّأسي (أو العمودي). وعلى نفسِ المنوال، يُمكِنُ تحويل الأرقام من واحد إلى ثلاثة إلى طقمٍ ثنائيٍّ يشتمل على الأرقام الزَّوجيَّة والفرديَّة (وهو نموذجٌ لِما يُمكِنُ أن يُقالَ عن جميع الأرقام المتبقِّية من الأعداد الأصليَّة)؛ وكذلك، تحويل أضلاع المثلَّث إلى قمَّةٍ وقاعدة أو قاعدةٍ وارتفاع.
على أنَّ الحاسم في موضوع اللُّغة هو ما طرأ على مفهوم الحاضر في أعقاب صياغة النَّظريَّة النِّسبيَّة الخاصَّة في عام ١٩٠٥، فقد استُنبط منها مفهومٌ غيرُ بدهيٍّ للحاضر، قد يُصيبُ المرءَ عند تأمُّلِه بالدُّوار، فهو يرى أنَّه لا يوجدُ حاضرٌ ينتظمُ الكونَ من أقصاه إلى أقصاه، بل يوجدُ حاضرٌ ممتدٌّ تُحسَبُ مدَّتُه وتزدادُ وفقاً لموقعِ الهدفِ المرئيِّ أو المسموع من مركز الرَّصد؛ وهي مدَّةٌ لا تعدو بضعَ مِيلِّي ثوانٍ عن أقصى موقعٍ داخل الكرة الأرضيَّة، ولكنَّها تصِلُ إلى ملايين السِّنين عند أقربِ المجرَّاتِ إلى هذا الكوكب. بمعنًى آخر، إنَّه توجدُ مُددٌ بهذا الطُّولِ لا يمكن اعتبارُها ماضياً أو مستقبلاً، كما أنَّها متغيِّرةٌ بحسب موقع الرَّاصد؛ وبما أنَّ الحاضر مرتبطٌ في الأذهانِ بما هو واقعيٌّ وموضوعيٌّ وموجودٌ الآن، فإنَّ الحاضر الممتدَّ وفقاً للنَّظريَّة النِّسبيَّة لا يمكن تحديده موضوعيَّاً، إلَّا بالتَّقريب إذا كان الهدفُ قريباً من موقع الرَّصد؛ أمَّا الأهداف البعيدة، فلا يمكن الوصول إليها، بسبب محدوديَّة سرعة الضَّوء ( ١٨٦ ألفَ ميلٍ في الثَّانية)، بالقياس إلى حجم الكون. لا غرابةَ إذاً أنَّ مذهب الحاضريَّة ("بريزنتيزم") تلقَّى ضربةً موجِعة من جرَّاء تأثير النَّظريَّة النِّسبيَّة الخاصَّة، ممَّا جعل معظمَ العلماءِ والفلاسفة يميلون إلى تبنِّي مذهب الأبديَّة ("إتيرناليزم")، الَّذي ينفي وهم التَّغيُّر ويقول بأنَّ كلَّاً من الماضي والحاضر والمستقبل باقٍ باستمرارٍ وبنفسِ القدرِ من الوجودِ الموضوعي.
إزاء هذه الرَّبكة المعرفيَّة، تنبري اللُّغاتُ البشريَّة الطَّبيعيَّة للكشف عن سرِّها المفضوح، الَّذي خبَّأته رَدَحَاً تحت ضوء الشَّمسِ السَّاطعة وعلى مرأًى من أعينِ الجميع، فتُبرِزُ للمتشكِّكينَ "زماناً للنَّاس" مزداناً بثلاثيَّةٍ ذهبيَّة هي ثلاثيَّة "الماضي-الحاضر-الاستقبال"، الَّتي بنت عليها اللُّغاتُ أيضاً عقلانيَّةً راسخة، يتقدَّم فيها السَّببُ على النَّتيجة؛ كما أقامت عبرَ زمنِها الحاضر ذاكرةً لا تحفظ الوقائع الماضية فقط، وإنَّما تُخطِّطُ للمستقبلِ كذلك. وأعدَّتِ اللُّغاتُ البشريَّة أدواتٍ للإشارةِ الجليَّة الَّتي لا لبسَ فيها بأنَّ الزَّمان يمضي وفقاً لهذا التَّرتيب الثُّلاثي الصَّارم ولا يعودُ القهقرى أبداً، مهما اشتطَّ تصوُّرُ العلماء والفلاسفة. وفي اللُّغةِ العربيَّة على وجه التَّحديد، تمَّ الإرهاصُ عبر تلك الأدوات الَّتي تُسمَّى ظروفاً بوجودِ ترافقٍ أصليٍّ بين الزَّمانِ والمكان. فظروفُ الزَّمان الثَّلاثة، وهي "قبل وبعد وعند"، الَّتي تُشيرُ إلى الماضي والمستقبل والحاضر، هي أيضاً بالتَّبادلِ الاستعاريِّ ظروفٌ للمكان، فنَصِفُ البيتَ بأنَّه واقعٌ على اليمينِ "بعد الجامع" أو "قبل محطَّة البص" أو "عند التَّقاطع"؛ تماماً مثلما نقول: صحوتُ "قبل صلاةِ الصُّبحِ" أو نمتُ "بعد الظُّهرِ" أو "عند انتهاءِ كتابةِ هذا المقال"، الَّذي نحمدُ اللهَ على إنجازِه، آملينَ أن ينتفعَ به كثيرٌ من القرَّاء.
شارك هذا الموضوع: