في طريقي إلى العملِ راجِلاً من "نورث كِنزينغتون"، أعبرُ كلَّ يومٍ "حديقة كِنزنغتون" الواقعة إلى الغربِ من هايدبارك، وهما حديقتانِ ملكيَّتانِ شهيرتانِ بغربِ لندن، وعندما أكونُ بمحاذاةِ القصرِ الملكيِّ، أسرَحُ في خيالٍ جامِحٍ، فأشرَعُ في تسكينِ فُضلياتِ نساءِ "بيتِ المالِ" في أجنحةِ القصر وغُرَفِه الفسيحة؛ وأبدأُ بالوالدة "مُنى بِتَّ المكِّي" ووالدتها "بخيتة بِت سليمان" وعمَّتي "التَّومة بِت عبد الله" وابنتها "صفيَّة بِتَّ البدوي" وعمَّتي الأخرى "زهرة بِت عبد الله" و"حليمة بِتَّ الطَّيِّب" و"أسماء بِتُّ أم سَماحَة" وابنتيها "بِت وهب" و"كلتوم" وأختها "عشَّة بِتُّ أم سَماحة" وبنات ساتِّي الثَّلاث: "فاطمة ومكِّيَّة والتَّومة" و"زينب بِت عدلان" و"فاطمة بِت جودة" وأُختها "نفيسة بِت رُقيَّة" و"زينب بِت كرم الله" و"بِت وهب مرت أحمد" و"أم سلمة مرت صالح" و"عشَّة مرت حبيب الله" و"الطَّاهرة مرت عبد الرَّحمن" و"نِنِّين بِت حاج صالح" و"نِنِّين" الأخرى "مرت محيِّ الدِّين الفكي" والأُختين "بتولاية" و"زينباية" و"السَّارَّة بِتَّ السَّرورة" و"عشَّة بِت نُقُد" و"هدى مرت ودَّ البر" و"حنَّانة بِت سالم" و"عِيشة بِت زيادة" و"نفيسة بِت مكَّ الدَّار" والقريباتِ إلى القلبِ "مَهَلَة" و"مستورة" و"صافي النِّيَّة". وما كان يخطرُ ببالي على الإطلاق أنَّ "بيتَ المالِ" ستحِلُّ يوماً ضيفةً مُكرَّمةً على "الحديقة"، ولكنَّ هذا ما حدث بالفعل، ولمدَّةٍ تُقارِبُ الأربعةَ أشهر، حيثُ تستضيفُ صالةُ عرضِ "سيربنتاين" الجنوبيَّةِ بالحديقةِ الملكيَّةِ في الوقتِ الرَّاهنِ معرضاً للفنَّانة التَّشكيليَّة كمالا إبراهيم إسحق في الفترة من ٧ أكتوبر ٢٠٢٢ إلى ٢٩ يناير ٢٠٢٣، تَتَتَبَّعُ فيه الأعمالَ التَّشكيليَّة الَّتي أنجزتها خلالَ ٦٠ عاماً؛ إلَّا أنَّ ما لفت انتباهَنا بشكلٍ خاص، ودفعنا إلى كتابةِ هذا المقالِ تكريماً لأعمالِها الممتدَّةِ عبر طيلةِ هذه الأعوام هو احتلالُ لوحةِ "بيتِ المالِ" موقعاً بارزاً بهذا المعرضِ المُلفِتِ حقَّاً للانتباه.
لم تأتِ "بيتُ المالِ" إلى الحديقةِ وحدُها، بل جاءت إليها بنسائها وأشجارِها و"دلاليكِها"، مصحوبةً على طولِ الطَّريقِ بإيقاعاتِ زارٍ صاخبة وبضعِ كُراتٍ زرقاءَ ومكعَّباتٍ بلُّوريَّة، لا تتوزَّعُ خطوطُها وألوانُها على الأوراقِ ولوحاتِ القماشِ المألوفةِ فحسب، وإنَّما تتناوبُ أيضاً بين الطُّبولِ الجلديَّة والحواجزِ الخشبيَّة والمسطَّحاتِ القرعيَّة ("غورد كالاباشيز")؛ فهذه كلُّها مساحاتٌ تنثرُ عليها كمالا نثيثاً من عطرِ إبداعِها الفنِّيِّ المتميِّز، فتتداخلُ الأشجارُ بأفرِعها الملتوية، وتتمايلُ الغصونُ في حركةٍ شبه دائريَّة، لتخرُجَ من بين ثناياها أجسامٌ نسائيَّةٌ مسكونةٌ بأشباحٍ وأرواحٍ لا يُجدي معها التَّناسي أو التَّشاغل الظَّاهري بتفاصيلِ الحياةِ اليوميَّة، فينتظمُ جمعهُنَّ على فتراتٍ في حلقاتِ الزَّارِ، فترصدُ كمالا كلَّ نأمةٍ منهُنَّ خفيضةِ الصَّوتِ وكلَّ نغمةٍ عاليةِ النَّبرة؛ وعندما يدخُلنَ فجأةً في تشنُّجٍ عصبي، تنتبهُ كمالا لكلِّ نبضةِ قلبٍ مضطَّربةٍ ولكلٍّ اهتزازِ عضلةٍ ناشِزة؛ وتستخدِمُ في رسمِهِنَّ درجاتٍ متنوِّعة من اللَّونين الأخضر والأسمر (البُنِّي)، لترسمَ بحِرفةٍ عاليةٍ تداخلَ الأشجارِ بأغصانِها وسيقانِها مع سُمرةِ البِشرةِ ونضارتِها المُشرِقة. وفي لوحةِ "بيتِ المال" الَّتي أُخِذت لكمالا صورةٌ أمامها تمَّ تضمينُها في الكُتيِّبِ التَّعريفيِّ للمعرض، اتَّشحتِ الفنَّانةُ التَّشكيليَّةُ البارِعة بثوبٍ سودانيٍّ تقليديٍّ مزركشٍ باللَّونَيْنِ الأخضرِ والأسمر، فأصبحت صورتُها وكأنَّها لوحةٌ أخرى رُسِمَت عن عمدٍ بتقنيةِ "الكولاج" الَّتي تمزِجُ أشكالاً مختلفةً لِتُنشِئَ منها عملاً فنِّيَّاً جديداً.
تصدَّرَ المعرضَ لوحةُ "الزَّار"، وهي لوحةٌ زيتيَّة على قماش (١٧٥×١٧٥ سنتمتراً)؛ وقد جاء ذلك التَّصدُّرُ المستحقُّ على خلفيَّةٍ واسعة من أبحاث الفنَّانة التَّشكيليَّة منذُ عهدِ الطَّلبِ بالكلِّيَّة الملكيَّة للفنون بلندن، إضافةً إلى تجربةٍ لصيقة بحيِّ "بيتِ المال"، الَّذي كانت تنتشرُ في بعضِ بيوتِه المعروفةِ ممارساتٌ لظاهرةِ الزَّار، الَّتي كانت تلقَى تحمُّساً في أوساطِ عددٍ كبيرٍ من نساءِ الحي. وأذكُرُ أنَّ بناتَ جابرٍ (التَّومة وبلوم والرَّخا) كنَّ يعقِدنَ حلقاتٍ منها في أوقاتٍ متفاوتةٍ خلال العام؛ وكنَّا منذُ الصِّغرِ لا نجِدُ صعوبةً تُذكرُ في التَّسلُّل إلى مداخلِ تلك الحلقات، فلا أحدَ يمنعُنا من الدُّخولِ بصُحبة "ودَّ البيت": "عبد الرَّحيم الله جابو"؛ وعندما تشتدُّ و"تُسَخِّنُ" الحلقة بخيوطِ "الخواجة" و"الحبشي" و"أحمد البشير الهدندوي" ويتمُّ فرضُ حظرٍ صارمٍ على الأطفال، نُشاهِدُ الرَّقصَ الصَّاخبَ من الشُّبَّاكِ الكبير بمنزل عثمان كركساوي المجاور (عِلماً بأنَّ هذه الحيلةَ لم تنقطع، حتَّى عندما آلت ملكيَّةُ المنزل إلى السَّيِّد حبيب الله محمَّد)، فنشهدُ بعضَ النِّسوةِ في أزياءٍ رجاليَّة، وفي أيديهِنَّ كؤوسٌ زجاجيَّة، وتتصاعدُ من أفواهِهِنَّ أدخِنةٌ تختلطُ بأبخرةِ الزَّارِ النَّفَّاذة، بينما تتهاوى من رؤوسهِنَّ طرابيشُ حُمرٌ، فينسدلُ الشَّعرُ الأسودُ الفاحِمُ على ظهر البدلِ البيضاءِ وذواتِ اللَّونِ الأصفرِ الشَّاحب. وكنَّا لا نفهمُ فحوى تلك الطُّقوسِ الغريبة، ولا ندركُ سرَّ التَّحوُّلاتِ الجسديَّةِ المذهِلة، ولكنَّ الإيقاعاتِ السَّاخنةَ تسلبُ منَّا كلَّ إرادةٍ، عدا غريزةَ الفضول وباعِثَ التَّعلُّق بقضبانِ النَّوافذِ الخلفيَّة للتَّمتُّع بمشاهَدَةِ لحظاتٍ من النَّشوةِ العابرة.
عموماً، يُمكِنُ تناولُ طقسِ الزَّارِ من خلال ثلاثةِ مداخلَ رئيسيَّة، أوضحُها المدخلُ النَّفسيُّ والنَّظرُ إلى الظَّاهرة باعتبارِها بديلاً للعلاجِ بالمصحَّاتِ النَّفسيَّةِ القليلةِ العدد، وتعويضاً مُجزِياً عن حالاتِ القهرِ والإجهادِ المُضنِي من غيرِ مقابلٍ مادِّي؛ فالزَّارُ يُتيحُ وسيلةً سهلةً لتنفيذِ "الطَّلبات" ورخصةً مقبولةً خلال فترةٍ محدودةٍ لانتهاكِ بعضِ المحرَّمات. كما يُمكِنُ تناولُ الطَّقسِ عبر مدخلٍ آخرَ يلمَسُ الجانبَ الاجتماعي، خصوصاً ما يقودُ منه إلى اختراقاتٍ في مجالِ تحرُّرِ المرأة وانتزاعِ حقوقِها، وهو ما كان يُركِّزُ عليه الاتِّحادُ النِّسائيُّ السُّوداني. وأذكُرُ في مرَّة بعد الانتفاضة، كانتِ الأستاذة سامية حجازي (ويُطلَقُ عليها أيضاً اسم "حنان") تُريدُ أن تُعِدَّ موضوعاً عنِ الزَّارِ لمجلَّةِ "صوتِ المرأة"، فرحَّبت بها إحدى "الشِّيخاتِ" بمدينة بحري، وطلبت منها أن تحضُرَ في يومٍ له أهمِّيَّته، وهو تعيينُ شيخةٍ جديدة للمنطقة، لِتُشاهِدَ بنفسِها فعاليَّة تلك الطُّقوس، ولِتَتَبدَّدَ أيُّ شكوكٍ تعتريها بصددِ "جدوى" تلك الممارسات. وكانت لساميةَ مراميها الأخرى، لكنَّها خشيت من الذَّهابِ وحدَها، فرافقناها في يومٍ مشهودٍ بِصُحبةِ المهندسةِ المعماريَّة سلوى سعيد والفنَّانِ التَّشكيلي عبد الله محمَّد الطَّيِّب. وأبرز ما ميَّز ذلك اليومَ هو رائحةُ الأبخِرة النَّفَّاذة والإيقاعاتُ الصَّاخبةُ المتلاحِقة الَّتي تجعلُ جِماعَ الأنسجةِ العصبيَّةِ على حافَّة الانفلات، لولا بذلُ جهدٍ خارقٍ للتَّماسُك؛ ويبدو أنَّ هذا التَّوتُّر على شفا الحافَّةِ هو تمهيدٌ ضروريٌّ للحظةِ "النُّزول" أو ما يُعتقدُ بأنَّه "خروجٌ للأرواحِ غيرِ المرغوبة".
إلَّا أنَّ لكمالا نظرةً خاصَّة تكشِفُ عن جانبٍ ثالثٍ بصددِ ظاهرةِ الزَّار، وهو الجانبُ الإبداعي، الَّذي يُمكِنُ تلخيصُه في إحداثِ نقضٍ للصُّورِ المألوفة، الَّتي لا تمَسُّ الزَّيَّ الخارجيَّ أو السُّلوكَ الاجتماعيَّ فقط، وإنَّما يشملُ تلك التَّحوُّلاتِ الجسديَّة الَّتي تتَّخذُ شكلَ اضطِّراباتٍ وتشنُّجاتٍ عصبيَّة، تجعلُ الأشكالَ شبيهةً بانعكاسِ صورِ الأشياءِ والأشخاصِ على المرايا المحدَّبة أو المقعَّرة على نوافذِ وأبوابِ قطاراتِ الأنفاقِ في لندن، الَّتي تُحَوِّلُ أجواءَ المركِباتِ المسرِعة إلى طقسٍ سيرياليٍّ متحرِّك. ففي لوحة "الزَّار" (٢٠١٥)، تصطفُّ أشكالٌ نسائيَّةٌ داكنةُ اللَّون، تتَّخذُ مع التوائها شكلَ دائرةٍ مفلطحة تُغطِّي مساحةً كبيرة من اللَّوحة، تتوسَّطها وتنتشرُ فيها كخلفيَّةٍ للَّوحةِ أوراقُ نباتاتٍ خضراءُ شاحبة؛ وتستلقي خلف الدَّائرةِ الكبيرة أجسامٌ نسائيَّة أشدُّ التواءً، يُمثِّلُ ارتماؤهنَّ على الأرضِ فترةَ انتعاشٍ بعد اكتمالِ تلقِّيهنَّ العلاجَ بخروجِ ما يُعتقدُ أنَّه أرواحٌ تطفَّلت على حياتِهِنَّ، فكستها لفترةٍ طويلة بألوانٍ من الشَّقاء، ممَّا استدعى مجيئهُنَّ لهذه الحلقاتِ كحلٍّ أخيرٍ للتَّنفيسِ والتَّطهُّر؛ فيما يُمثِّلُ التَّداخلُ بين الأجسامِ النِّسائيَّة والغطاءِ النَّباتي، الَّذي يُشكِّلُ السِّمةَ الغالبة للوحاتِ المعرض، ما تعتقدُ كمالا أنَّه رمزٌ لاكتمالِ دورةِ الحياة؛ فنحنُ نستخدِمُ هذه النَّباتات لتغذيةِ الجسمِ ونموِّه، ولكنَّها تستخدِمُنا بعد أُمَّةٍ (أي بعد موتِنا وتحوُّلنا بعد حقبةٍ طويلة إلى أسمِدةٍ طبيعيَّة) في تغذيةِ سيقانِها وفروعِها النَّضِرة. ونجِدُ هذا التَّداخلَ، على سبيلِ المثالِ، بشكلٍ واضحٍ في لوحَتَيْ: "شخصانِ في كُرَتَيْن" (٢٠١٦) و"سيِّدةٌ نمَت في شجرة" (٢٠١٧)، كما نجِده في لوحة: "بيتُ المال" (٢٠١٩).
إلى جانب لوحتَيْ "الزَّارِ" و"بيتِ المال" بحجمَيْهما الكبيرَيْن، يحتوي المعرضُ أيضاً على لوحة: "نساءُ في مكعَّباتٍ بلُّوريَّة" (١٩٢×١٨٥ سنتمتراً)، الَّتي تُمثِّلُ مرحلةً من تبنِّي كمالا للفكرةِ الكريستاليَّة، الَّتي تنظرُ لأشياءِ العالمِ باعتبارِها بلُّوراتٍ شفَّافةً ومتغيِّرةً كلَّ لحظةٍ بحسب تنوُّعِ زوايا النَّظرِ إليها وتعدُّدِها بتعدُّدِ المشاهدين لها. ومن عجائبِ الصُّدفِ أنَّ صاحبة "المكعَّباتِ الكريستاليَّة" (١٩٨٤)، الموقِّعة على البيانِ الكريستالي (١٩٧٦)، يتِمُّ إقامةُ معرضٍ للوحاتِها في صالةِ "سيربنتاين" الجنوبيَّة المُقامةِ في نفسِ المكانِ الَّذي انتصبَ فيهِ من قبلُ القصرُ الكريستالي، "كريستال بالاس" (١٨٥١)، الَّذي أُقيمَ بداخلِه أوَّلُ معرضٍ تجاريٍّ للصِّناعاتِ البريطانيَّة. ومن حُسنِ الصُّدفِ أيضاً أنَّ هذا المعرض قد وَثَّقَ للحظاتِ صاحبةِ المكعَّباتِ عبرَ عدَّةِ وسائط (منها اللَّوحةُ القماشيَّة والصُّورُ الفوتوغرافيَّة، ومقطعُ الفيديو)، بينما لم يتبقَّ للقصرِ الكريستالي بعد احتراقِه سوى بضعةِ رسوماتٍ وحيٍّ في جنوبِ لندنَ يحمِلُ اسمَه، ويشتهرُ باسمِ فريقِه اللَّندنيِّ لكرةِ القدم: " كريستال بالاس". ورغمَ ثباتِ البلُّوراتِ الظَّاهري، فإنَّ من ميزاتِ الكريستالاتِ الصَّغيرةِ الحجمِ سرعةَ تحوُّلِها وضياعَ لحظةِ تشكُّلِها، إنْ لم يتمَّ التقاطُها في الحال؛ فلولا تسجيلاتُ روزاليند فرانكلين لبلُّوراتٍ متناهيةِ الصِّغرِ عن طريقِ كريستلوغرافيَّة (علمِ بلُّوراتِ) انحرافِ الأشعَّةِ السِّينيَّة، لما تمكَّن كلٌّ من فرانسيس كريك وجيمس واتسون من اكتشافِ بنيةِ الحامضِ النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوصِ الأوكسجين ("دي إن إيه)، ولضاعت إلى حينٍ ملامحُ شفراتِنا الوراثيَّة.
إلَّا أنَّ هناك لحظةً لم يتمَّ تسجيلُها (فيما نعتقدُ) من تاريخِ ما يُعتقدُ أنَّه "حركةٌ" تشكليليَّة نهضت في منتصف السَّبعينيَّاتِ من القرن الماضي في السُّودان، لتكونَ بديلاً لِما يُظَنُّ أنَّه ترويجٌ لفكرةِ "ثباتِ" الهويَّة لدى "مدرسةِ الخرطوم" التَّشكيليَّة. ففي يومِ صدورِ "البيان الكريستالي"، تمَّ تثبيتُ نسخةٍ منه بورقِ "البوستر" الأزرق على "مقهى النَّشاط" بالحرمِ الرَّئيسيِّ لجامعةِ الخرطوم، بالقربِ من موقع صحيفتَيْ "مساء الخير" و"آخر لحظة" المتجاورتَيْن؛ وبما أنَّ الحرمَ كان مفتوحاً، فقد كان يعمُرُه المهتمُّون بالشَّأنِ السِّياسيِّ ومتابعةِ أخبارِ الحركةِ الطُّلابيَّة، خصوصاً في العهودِ الدِّكتاتوريَّة، وذلك لغيابِ الصُّحُفِ اليوميَّة المستقلَّة، وما تُشكِّلُه الحركةُ الطُّلابيَّة من بصيصِ أملٍ في التَّغيير، خصوصاً بعد نجاح ثورة أكتوبر في إسقاطِ الحُكمِ الدِّيكتاتوريِّ الأوَّل في عام ١٩٦٤. وكان من ضمنِ هؤلاء المهتمِّين: "ودَّ الرَّيَّح"، الَّذي كان مهتمَّاً أيضاً بتكوينِ خلايا عمَّاليَّةٍ بالمنطقةِ الصِّناعيَّة ببحري؛ فبعدَ قراءتِه للبيان، وكنتُ أقِفُ بالقربِ منه، طلب منِّي أن أصحَبَه إلى كلِّيةِ العلوم؛ وعندما وصلنا في محاذاةِ مكتبةٍ صغيرةٍ شمالَ قاعةِ الامتحانات، طلب منِّي "ودَّ الرَّيَّح" أن أنتظرَه لدقائقَ، خرج بعدها حامِلاً أوراقَ "بوستر" وأقلامَ "ماركر". وعلى ظهرِ إحدى العرباتِ الواقفةِ أمام المكتبة، بدأ في كتابة: "البيانُ المضادُّ للكريستاليَّة"؛ فرجعتُ معه إلى مقهى النَّشاط، حيثُ قام بتثبيتِ بيانِه المرتجَلِ وليدِ اللَّحظةِ بجوارِ "البيانِ الكريستالي"، بالقرب من "مساء الخير" و"آخر لحظة".
غير أنَّه من حُسنِ طالعِ السُّودان، أنَّ كمالا إبراهيم إسحق تختزِنُ في ذاكرتِها الحيَّة ثلاثَ ثورات: أكتوبر ١٩٦٤، وانتفاضة ١٩٨٥، وثورة ٢٠١٩ الممتدَّة، الَّتي ألهمت لوحتَها الزَّرقاءَ الأخيرةَ بالمعرض: "أنغامٌ حزينة على الشُّهداء" ("بُلوز فُور مارتَرز")، الَّتي رسمتها في عام (٢٠٢٢). وكما أنَّ تحوُّلاتِ الكريستالِ هي تحوُّلاتٌ بطيئة تعتمدُ مشاهدتَها على عينِ الرَّاصِدِ لحظةَ تسجيلِها، فكذلك هي الثَّورةُ السَّودانيَّة الَّتي ظلَّت تعتملُ في النُّفوسِ والذَّاكرةِ الجماعيَّة، ويعتمدُ تفجيرُها على لحظاتٍ تاريخيَّةٍ مؤاتية. وفنِّيَّاً، تحتاجُ إلى عينٍ فاحصةٍ وذاكرةٍ حصيفة، ليتمَّ تحويلُ المشاهداتِ من انعكاساتٍ تسجيليَّةٍ مهمَّة تتَّخذُ شكلَ ملصقاتٍ وجداريَّاتٍ واقعيَّة إلى أعمالٍ فنِّيَّة تتبنَّى رموزاً شاملة تفتحُ للثَّورةِ المحلِّيَّةِ آفاقاً عالميَّة. ففي اللَّوحةِ الأخيرة، تستلهِمُ كمالا موسيقى "البُلوز" الَّتي تختزِنُ الإحساسَ بالحزنِ الدَّفينِ، علاوةً على التَّطلُّعِ إلى التَّمرُّدِ بالتَّخلُّصِ النِّهائيِّ من رِبقَةِ القهرِ والاستغلال؛ وبما أنَّ "البُلوزَ" هي حرفيَّاً ألوانٌ رئيسيَّة، فمن السُّهولةِ دلقُها واستخدامُها بشكلٍ مريح ضمن أشكالٍ مختلفةٍ على عدَّة مسطَّحاتٍ للتَّعبيرِ عن هذا الإحساسِ المزدوج. وبما أنَّ الثَّورة السُّودانيَّة الممتدَّةَ تفتحُ أفقاً مُشرَعاً على الأمل، فإنَّنا نتوقَّعُ مستقبلاً مفتوحاً لاستخداماتِ اللَّونِ الأزرقِ من قبل الفنَّانةِ التَّشكيليَّةِ البارعة نفسِها، أو من قبل تلاميذِها العديدين، داعينَ الله أن يحفظَها ويمِدَّ من عُمُرِها، لِتنعَمَ أجيالٌ مقبِلَةٌ بثمارِ إنتاجِها الفنِّي، لتؤسِّسَ عليه حركةً سودانيَّة رائدة تستلهِمُ الثَّورة، وتأخُذَ العِبرَ والدُّروسَ من روَّادِها الأماجد ورائداتِها المجيدات.
شارك هذا الموضوع: