أقبَلَ عامٌ جديد:
فلنتحَلَّق إذاً زُمَرَاً وجماعاتٍ مختلِفةَ المشارِب حول الرَّجُلِ الطَّيِّب
سنهتمُّ في هذه المشاركة، والمشاركاتِ التي تليها، ضمن تجوُّلِنا عبر متنِ الرَّجُلِ الطَّيِّب، بأمرين: الأوَّل، استئنافُ ما بدأناه في الحلقةِ السَّابقة، وهو التَّنقيبُ الجماعيُّ المستمر -من خلال الكنوزِ الأدبيَّة التي خلَّفها لنا الرَّاحلُ العظيم- عن الدَّلالاتِ الجديدةِ والمتجدِّدة عند كلِّ قراءةٍ متأنيَّة لأيٍّ من النُّصوص، التي يحفَلُ بها متنُه العامر؛ أمَّا الثَّاني، ولعلَّهُ الأمرُ الأهمُّ في هذه الآونةِ بالذَّات، فهو النَّظرُ إلى الأديبِ السُّودانيِّ الكبير باعتبارِه مِحوراً مُجَمِّعاً للشَّتاتِ السُّودانيِّ بالدَّاخلِ والخارج.
فكثيرٌ من الأنظمةِ السِّياسيَّةِ في شتَّى البلدان تُنشئُ لها تكويناتٍ عليا، يتجمَّعُ في إهابِها الخبرة، ويشِعُّ في أعطافِها الحكمة، فتمنحُها استقلاليَّةً تعلو بها على الحِراكِ اليومي، وتنأى بها عن التَّحيُّزِ السِّياسيِّ الأعمى للانتماءاتِ الحزبيَّةِ الضَّيِّقة؛ فتكونُ هناك مجالسُ للشيوخِ واللُّوردات، أو بوندسراتٌ للوجهاء والأعيان، أو هيئاتٌ عليا لكبارِ العلماءِ والمستشارين؛ وكان عندنا من قبلُ مجلسٌ للسِّيادة قليلُ العدد، كافٍ رغم صِغَرِه لحلِّ مشكلة الرِّئاسة عن طريقِ تداولِها؛ وكان يمكن أن يتوسَّعَ ويتطوَّر، في إطارٍ ديمقراطي، للإشرافِ السِّياديِّ على حُكمٍ اتِّحاديٍّ فدراليٍّ أو كونفدراليٍّ أو ما شئت، إضافةً إلى اضطلاعِه بقضايا التَّشريع.
إلَّا أنَّ الشُّعوبَ تتخيَّرُ لأنفسِها بشكلٍ مستقِل، وعبر مسيرةٍ تاريخيَّةٍ طويلة وتدورُنٍ لا ينقطع، رموزَها الثَّقافيَّة ونجومَها الدَّائمةَ اللَّمعان. ففي مجالِ الأدب، على سبيلِ المثال، تلاقتِ الشُّعوبُ البريطانيَّة حول شكسبير؛ والتفَّت فرنسا حول بودلير؛ وتجمَّعت ألمانيا حول غوته؛ وتشابكت مصائرُ الشُّعوبِ الرُّوسيَّة حول بوشكين. فلماذا لا نتحلَّقُ، على طريقتِنا، زُمَرَاً وجماعاتٍ مختلِفةَ المشارب حول ذلك الرَّجلِ الطَّيِّب ذي الخصالِ الحميدة، صاحبِ الإنجازاتِ الأدبيَّة غير
المسبوقة، الذي عطَّرت كلماتُه المحافل، وطبَّقت شهرتُه الآفاق: أُستاذِنا الكبير (الطَّيِّب صالح)؟
على سيرةِ شكسبير، أثار الكاتبُ المسرحيُّ ذائعُ الصِّيتِ أو "شاعرُ الملاحم" ("ذي بارد"، كما يُلقِّبُه أهلُه) على لسانِ "جولييتَ" مسألةَ اعتباطيَّةِ الأسماء (قبل أن يُثيرَها في بدايةِ القرنِ الماضي، عالمُ اللِّسانياتِ السِّويسري، فيرديناند دا سوسور، ضمن فهمِه العام لاعتباطيَّةِ العلامةِ اللُّغويَّة)، فقد طلبت من عشيقِها "روميو" أن يتبرأَ من اسمِ عائلتِه "مونتيغيو"، ليلتقيا على عشقٍ مستقلٍّ عن سيطرةِ وتحكُّمِ أسرتَيْهما المتحاربتَيْن؛ موضِّحةً له رأيها بالقولِ إنَّ "الوردةَ تفوحُ بعَبَقٍ طيِّب بأيِّ اسمٍ تسمَّت". إلَّا أنَّ الرَّجلَ الطَّيِّب يكسِرُ هذه القاعدة، التي يكسِرُها أيضاً عادل القصَّاص، وفقاً لما يُسمَّى بظاهرةِ "الحتميَّةِ الاسميَّة" (نومينال ديتيرمينيزم)؛ فالطَّيِّب صالح رجلٌ طيِّبٌ وصالحٌ بالفعل، مثلما أنَّ القصَّاصَ قصَّاصٌ، علاوةً على أنَّ أصغرَ أبنائِه اسمُه "الطَّيِّب"، حَفِظُه الله.
في "مَوسِمِ الهجرةِ إلى الشَّمال"، تطلبُ مسز روبنسون من مصطفى سعيد أن يُناديها باسمِها الأوَّل "إليزابيث"، إلَّا أنَّه يُصِرُّ على مُناداتِها باسمِ زوجِها؛ وفي التَّقليدِ الأدبيِّ والصَّحفيِّ المعروف، يتمُّ ذِكرُ الاسمِ كاملاً في المرَّةِ الأولى، ثمَّ يُستعاضُ عنه بالاسمِ الأوَّل أو اسمِ العائلة، حسب المُتعارف عليه داخل كلِّ لغةٍ على حِدَة، ولكن الطيِّب صالح يُصِرُّ، في المرَّتينِ اللَّتينِ جاء فيهما ذِكرُ بروفيسور ماكسويل فوستر كين على لسانِ تلميذِه مصطفى سعيد، على الإدلاءِ بالاسمِ الثُّلاثيِّ كاملاً، بالرَّغم من أنَّ الفاصِلَ بين وُرُودِهما في النَّصِّ ثلاثةُ أسطُرٍ فقط؛ وكان من الممكن أن يقولَ في المرَّةِ الثَّانية لذِكرِ الاسم: البروفيسور أو ماكسويل أو مستر كين؛ فما هي دَلالةُ هذا الإصرار؟
لعلَّ في إبدالِ الاسمِ الأوَّل من تشارلز (كما في فيلم "المواطن كين"؛ علماً بأنَّ الاسمَ الثُّلاثيَّ الكامل للشَّخصيَّةِ الرَّئيسيَّةِ في الفيلم هو تشارلز فوستر كين) إلى ماكسويل نوعاً من الإخفاء، تتويهاً للقارئ، وإقصاءً له بعيداً عن مصدرِ الدَّلالة؛ بينما نجِدُ في الإصرارِ على بنيةِ الاسمِ الثُّلاثيَّةِ ذاتِها نوعاً من الإظهارِ الذي يُعينُ القارئ على معرفةِ ارتباطاتِ روايةِ "المَوسِمِ" بالفيلم
(ومنها تقنيَّةُ "الفلاش باك"، وتركيبُ شخصية البطل من عِدَّةِ شخصيَّاتٍ واقعيَّة ذاتِ علاقةٍ بِسِيرةِ المُنتِج، المُخرِجِ أو الكاتب؛ وبقيَّةُ الارتباطاتِ التي عَهَدنا في الحلقةِ السَّابقة إلى النُّقَّادِ والمُخرِجين السُّودانيِّين بتوضيحِها لنا)؛ ولعلَّ في هذا أيضاً نوعاً من النَّسجِ على مِنوالِ الإظهارِ والتَّجلِّي، الذي أشرنا إليهِ في المرَّةِ السَّابقة.
في "عُرسِ الزَّين" (وهي روايةٌ يُحيلُ اسمُ بطلِها أيضاً إلى تلك "الحتميَّةِ الاسميَّة" التي سبق الإشارةُ إليها)، يجتمعُ المدعوُّون، بتنوِّعِ مشاربِهم واختلافِ أمزجتِهم، للاحتفالِ بشخصٍ وَطَّدَ صِلاتِه بالتَّعارُكِ تارَةً، وبالمحبَّةِ تارَةً أخرى، ليس مع "نِعمةَ" وحدِها، وإنَّما مع كلِّ فردٍ من أفرادِ المجتمع؛ فأتى النَّاسُ من كلِّ حَدَبٍ وصَوب، من قِبلِي ومن بَحرِي؛ أتى فريقُ الطَّلحَةِ بأكملِه، وأتى عربُ القوز، "جاءوا عبرَ النِّيلِ بالمراكب، وجاءوا من أطرافِ البلد، بالخيولِ والحميرِ والسَّيَّارات" ليحتفلوا بزفافِ "الزَّينِ" على "نِعمة". ومع إقبالِ عامٍ آخرَ في أعقابِ وفاةِ الرَّجلِ الطَّيِّب (18 فبراير 2009)، يجدُرُ بِنا أن نتحلَّقَ، زُمَرَاً وجماعاتٍ مختلِفةَ المشارِب، للاحتفاءِ الدَّائمِ بالطَّيِّب صالح، رمزاً للتَّوحُّدِ، وإعلاءً لقيمةِ التَّسامحِ فوق منطقِ الشَّتات، حتَّى ننالَ بحُسبانِ الدُّنيا، التي خبِرَ دروبَها، "نِعمةَ" القَبُول (فهذا لا يمنعُ، بل يقتضي، أن ننالَ أيضاً بحُسبانِ الآخرةِ أجزلَ الثَّواب).
هذا، بالطَّبع، لا يعني التَّطبيلَ للرَّاحل، رغم انقضاءِ فترةِ السَّماح التي يُجلِّلُها رحيلُ الموتى (فهو يُصبِحُ بانقضائها في ذمَّةِ التَّاريخ)، أو الاستنكافَ عن نقدِ المقروءِ أو المسموعِ أو المُشاهَد (بل يستدعيه، إذا كان نقداً موضوعيَّاً أو علميَّاً)؛ كما لا يعني هذا بالطَّبع أن الرِّوائيَّ الكبير مُبرأٌ تماماً من الأخطاء (وربما بعضٌ منها لا يُغتفر، في نظرِ قلَّةٍ مُعتبرة)، فنحنُ في نهايةِ المطافِ لا ندعو للالتفافِ حول وليٍّ تقيٍّ أو شيخٍ كثيرِ الرَّماد؛ غير أنَّ موتَه بعد عُمُرٍ مديد، وإنجازاتٍ عظيمة، يؤهِّله تماماً ليكونَ مناطاً للاقتداء، وبوتقةً دائمة لِلَمِّ الشَّتات.
في حلقةٍ قادمة، سنصحبُ القارئ في جولةٍ داخل محطَّة تشارينغ كروس بوسط لندن، لنُضيءَ جانباً مُعتِماً من رواية "موسم الهجرة"، تمهيداً للدُّخول، خطوةً على إثرِ أخرى، في المحاورِ الرَّئيسيَّةِ التي استدعت في الأساسِ ابتدارَ هذه المشاركات.
محمَّد خلف
السَّبت 31 ديسمبر 2016
شارك هذا الموضوع: