أشرنا في مقالٍ سابق* إلى أقانيمَ ثلاثة، باعتبارِها مناطاً للواقع والعقل واللُّغة؛ وفي هذا المقال، سنُشيرُ إلى أنَّ هذه الأقانيم الثَّلاثة مُحاطةٌ بأربعِ مشكلاتٍ تستعصي على الحلِّ، هي: الوُجُودُ والحياةُ والوعيُ والمعنى؛ فهذه إذاً سبعةٌ مُستفيضةٌ، سنحاولُ إضاءةَ جانبٍ من أقطارها متى ما قاد سياقُ المقالِ ومساحتُه المحدودةُ إلى تلمُّسِ ناحيةٍ من نواحيها. ولتذكيرِ القارئ وفائدته، فإنَّنا قلنا إنَّ الواقعَ هو أُقنومُ الإشفار، وإنَّ العقلَ أقنومُ الإسرار، واللُّغةَ أُقنومُ الإظهارِ أو الإبانة؛ علاوةً على ذلك، فإنَّ اللُّغةَ متغلغِلةٌ في تدورُنها المتلاحق في كلِّ الأقانيم، مُشَكِّلةً بذلك قوَّةً خامسة، إلى جانب الجاذبيَّة، والكهرومغنطيسيَّة، والنَّوويَّة الضَّعيفة، والأخرى القويَّة.
قبل أن تبدأ أيُّ خُطوةٍ في تلمُّسِ النَّاظرِ لأُقنومِ الإشفار، تشخَصُ أمامَه أمُّ المشكلاتِ جميعِها: لماذا في هذا الكونِ أشياءٌ، عِوَضاً عن لا شيءَ بتاتاً؟ وهذا السُّؤال المِفتاحيُّ هو خلافٌ للتَّساؤُل العلميِّ الرَّئيسيِّ بشأنِ كيفيَّة نشأة الأشياء، الَّذي قدَّمت له العلومُ الطَّبيعيَّةُ إجاباتٍ داخل أُقنوم الإشفار، في محاولاتٍ لا تنقطع لفكِّ شَفراتِ هذا الوجود، وصياغتِها في شكلِ نظريَّاتٍ لِقِواهُ الرَّئيسيَّةِ الأربع (نظريَّة الانفجار العظيم)، ولضبطِ عناصره الكيماويَّة الَّتي تنتظمُ في جدولٍ دَوريٍّ بالغِ الدِّقَّة (ميكانيكا الكم)، ونُشُوءِ أنواعه النَّباتيَّة والحيوانيَّة (نظريَّة التَّدورُن؛ وهو المقابلُ الَّذي نستخدمُه - ترجمةً وتعريباً - لمفردة "إيفَلوشَن"؛ فمادَّة [د و ر ن] تُشيرُ مباشرةً إلى كلمة "دور" العربيَّة، كما تُشيرُ موارَبَةً إلى اسم "داروِن"، صاحبِ نظريَّةِ نُشُوءِ الأنواع الشَّهيرة).
في المعتاد، لا تسعى العلومُ الطَّبيعيَّةُ إلى الاقتراب من المشكلات الأربع الكُبرى المذكورة أعلاه، تاركةً المحاولاتِ الصَّعْبة لجهود الفلاسفة والمفكِّرين؛ وتستعيضُ عن ذلك بالتَّصدِّي مباشرةً لمعطياتِ الواقع، متى ما توفَّر لديها ظاهريَّاً إمكانيَّةٌ لرصده؛ وتتوسَّلُ جهداً عقليَّاً نظريَّاً ملائماً لرصدِ الظَّواهر، ولغةً شفَّافة خالية من الاستطراداتِ وقابلةً للتَّشفير؛ فتُصيغُ شيئاً فشيئاً قوانينَ طبيعيَّة منعزلة، تلتئمُ تدريجيَّاً في أوعيةٍ نظريَّةٍ شاملة، تُمَكِّنُها من تحقيق الانتقال من وضعٍ علميٍّ إلى آخَر. إلَّا أنَّه بعد اكتشاف الإشعاعات الخلفيَّة الكونيَّة (سي إمْ بي) في عام ١٩٦٤، أصبح من المُمكِن تحقيقُ رصدٍ مباشرٍ للكون بعد ٣٨٠ ألف عامٍ من الانفجار العظيم الَّذي حدث قبل ١٣.٨ بليون عام، وصياغةُ نظريَّاتٍ قابلةٍ للتَّصديق لوضعِ حالتِه بعد ثلاثِ دقائقَ فقط من ذلك الانفجار؛ فدغدغَ العلماءَ أملٌ بأنَّهم ربَّما يتمكَّنون من الاقتراب من مشكلةِ الوُجُود، وإيجادِ حلٍّ لها في نهايةِ المطاف (ولكنْ هيهات!).
وعلى نفسِ المنوال، بعد نجاح ميكانيكا الكم في فكِّ شَفرات الكيمياء وضبطها، ونُشُوءِ الأحياء الجُزيئيَّة في أعقاب اكتشافِ الحامضِ النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوصِ الأكسجين (دي إنْ إيه) ودمجِها التَّركيبيِّ بعلمِ الوراثة (جينيتيكس)، دغدغَ العلماءَ أملٌ بأنَّهم ربَّما يتمكَّنون من الاقتراب من مشكلة الحياة، وإيجادِ حلٍّ لها في نهاية المطاف (ولكنْ هيهات!). وبمجهوداتٍ علميَّةٍ رائدة، يقفُ على رأسِها واحدٌ من مكتشفَي بنيَة دي إنْ إيه، وهو فرانسيس كريك، اعتقد رهطٌ من العلماء أنَّهم ربَّما يَتمكَّنون بسَبرِ أنظمةِ الدُّماغِ من فكِّ طلاسمِ الوعي (ولكنْ هيهات!). أمَّا مشكلة المعنى، فلا زالت تتقاذفُها أيدي فلاسفةِ اللُّغة، والمحلِّلين اللُّغويين، والمناطقة، وعلماءِ البلاغة، وعلمِ المعاني (سيمانتيكس)؛ فلا عجبَ أنْ عصفتِ الأهواءُ بالمعنى، وأحاط الغُموضُ بالدَّلالةِ من كلِّ حَدَبٍ وصَوبٍ، وأضحَتِ الحقيقةُ في هذا الأُقنومِ الثَّالثِ نهْباً للصِّراعاتِ، وارتفعت ألويَةُ التَّضليلِ خفَّاقةً في وسائل الإعلام الحكومي، وعمَّتِ الأخبارُ الزَّائفة والميماتُ الخادعة (جرياً على التَّشبُّه بالجينات) ونظريَّاتُ المؤامَرة كلَّ وسائل الإعلام الاجتماعيَّة.
تعتمدُ العلومُ الطَّبيعيَّةُ في عملها، غير الملاحظةِ الثَّاقبة والاختباراتِ الحاسمة، على التَّعليلِ الاختزاليِّ وردِّ الظَّواهر المُركَّبة إلى أبسطِ مكوِّناتها؛ وبما أنَّ الأقانيم الثَّلاثة، بتقسيماتِها الدَّاخليَّة، لا تَستقرُّ على سطحٍ مستوٍ، وإنَّما تُشَكِّلُ في مُجملِها أبنيَةً تركيبيَّةً متداخلة، يَستندُ فيها اللَّاحقُ على السَّابق، ويقومُ فيها المُعَقَّدُ على البسيط، فإنَّ سرَّ نجاحِها (أي العلوم الطَّبيعيَّة) يتجلَّى في تبسيطِها للُّغة، وتنقيحِها للمحتوى العقليِّ وتنضيدِه وِفقَ قوالبَ منطقيَّة، ومن ثمَّ تشفيرُه ووضعُه في معادلاتٍ قابلة للمعالَجة الكمِّيَّة. وفقاً لهذا التَّرتيب العام، تُختَزَلُ اللُّغةُ إلى تنضيدٍ عقليٍّ، ويُرَدُّ العقلُ إلى ظواهرَ واقعيَّة، ويُصبِحُ الواقعُ هو المحكُّ النِّهائي لاكتسابِ المعارفِ العلميَّة. وداخل أقنوم اللُّغة تُختَزَلُ الدَّلالة إلى تركيب، والتَّركيبُ إلى أصواتٍ فيزيائيَّة؛ وداخل أُقنوم العقل، يُرَدُّ ثراءُ القِشرةِ إلى اعتمالاتِ نظامٍ حوفي، والنِّظامُ الحوفيُّ إلى أنشطةٍ بيولوجيَّة لاإراديَّة يقومُ بها جِذعُ الدُّماغ؛ وداخل أُقنوم الواقع، يُختَزَلُ تعقيدُ الحياةِ النَّباتيَّةِ والحيوانيَّةِ إلى معادلاتٍ كيماويَّة، والكيمياءُ إلى قوانينَ فيزيائيَّةٍ أساسيَّة.
على هذا النَّحو الاختزاليِّ، تُصبِحُ الفيزياء هي المفسِّرُ لكلِّ شيء. وبالفعل، فإنَّ الأشياء تُصبِحُ أكثر وضوحاً كلَّما اقتربنا من الثَّلاثةِ دقائقَ الأولى من بدايةِ الكون (وتنشأ عن هذا الاقتراب هو الآخَرُ نظريَّاتٌ أخرى - غيرُ مسنودةٍ بأدواتِ رصْدٍ موثوقٍ بها - للاقترابِ أكثرَ فأكثر، حتَّى تدنو إلى بضعِ بيكوثوانٍ منه). إلَّا أنَّ هذا الوُضُوحَ يستحيلُ إلى عَتَمَةٍ كلَّما دنونا من نشأةِ الكون عبر سبر المشكلاتِ الأربع الكبرى، بدءاً من مشكلة المعنى، فالوعي، فالحياة؛ وعندما نصِلُ إلى مشكلة الوُجُود، تستحيلُ تلك العَتَمَةُ المتزايدة تدريجيَّاً إلى عَتَمَةٍ مُطْلَقة، ويُصبِحُ القفزُ في الظَّلامِ هو المخرجُ الأوحَد لاكتسابِ أيِّ معرفةٍ بشأنِ الوجود، مثلَما هَجَسَ بذلك الفيلسوفُ الدَّنماركي الأشهر، سورين كيركغارد؛ وتستوي الأنوارُ والظُّلَمُ، مثلَما حَدَسَ بذلك الشَّاعرُ والمُتصوِّفُ الدِّمشقيُّ الأشهر، عبدُ الغني النَّابُلسي. بمعنًى آخَرَ أكثرَ تبسيطاً، فإنَّ الطَّريق الَّذي يتَّبعهُ العلماءُ يزدادُ وضوحاً كلَّما استدقَّ الاختزال، بينما يزدادُ الطَّريقُ الَّذي يسلُكُه الفلاسفةُ عَتَمَةً كلَّما استدقَّ التَّحليل؛ إلى أنْ تَنْبهِمَ مسالكُ الاختزالِ والتَّحليلِ معاً بشدَّةِ الاقترابِ من نشأةِ الكون.
إلَّا أنَّ الاختزالَ لا يُجدي مع المشكلاتِ الأربع الَّتي تُحيطُ بالأقانيمِ الثَّلاثة. قد يسعى علماءُ لفعلِ ذلك، وقد يتَّبعُهم فلاسفةٌ للتَّسهيل المفهوميِّ لهذا السَّعي، إلَّا أنَّ فلاسفةً غيرَهم يُدرِكونَ بسُوَيداءِ القلبِ ونُخاعِ العَظْم انْسدادَ الأفقِ لهذا الجَهدِ المستحيل. قد حاول إيمانويل كانت تنظيمَ الوُجُود المادِّيِّ في أعقاب النَّقلة النِّيوتونيَّة، إلَّا أنَّ مُساءلةً للوُجُودِ أجراها مارتن هايدغر قد كشفت عُمقَ المشكلة عندما يتعلَّقُ الأمر بكُنهِ الوُجُودِ ذاتِه، عِوَضاً عن كينونةِ الأشياء؛ وقد سعى هيربرت إسبنسر إلى تمديد قوانينِ الحياة بتعميمِ الدَّاروينيَّةِ على المجالِ الاجتماعيِّ، إلَّا أنَّ افتراضاً اجترحَهُ هنري بيرغسون تفسيراً للنَّشأةِ الذَّاتيَّةِ للحياة (إيلان فيتال) لم يُقنِع أحداً، لكنَّه أشارَ إلى عُمقِ المشكلة؛ وكذلك، حاول غلبرت رايل طردَ أشباحِ الدِّيكارتيَّة، إلَّا أنَّ تقصِّيَّاً أجراهُ ديفيد تشالمر قد كشف عن وُجُودِ منحَيَينِ لحلِّ مشكلة الوعي. أحدُهما سهلٌ يُمكِنُ للتَّحليلِ الوظيفيِّ للدُّماغ أن يقومَ به على أكملِ وجه، والآخَرُ صعبٌ يَستعصي على أيِّ حلٍّ سوى التَّكهُّنِ بافتراضاتٍ جامحة.
أمَّا مشكلة المعنى، فقد تمَّ تناولُها من قِبَل بيرتراند رسل وغوتلوب فريغه، في محاولةٍ لإيجادِ أساسٍ منطقيٍّ راسخٍ للرِّياضيَّات، وتبِعَهُما لودفيج فيتجنشتاين في كتابِه المُبكِّر، ثمَّ رهطٌ من الوضعيِّين المنطقيِّين، فنشأ عندهم تَفرِقةٌ بين الجُملة التَّحليليَّة والجُملة التَّركيبيَّة: الأولى صادقةٌ بذاتِها بالضَّرورة بحُكمِ العلاقاتِ القائمة لمعاني الكلماتِ بداخلها، من غير مُضاهاةٍ بالواقع (العالم الخارجي)، والثَّانية تحتاجُ إلى مُضاهاةٍ بالعالمِ الخارجيِّ للتَّيقُّن من صدقها أو عدمه. وقد دحض ويلارد فان أورمن كواين هذه التَّفرِقة، مُعتبِراً المصطلحَينِ (تحليلي وتركيبي) عقيدتَينِ وُثُوقيَّتَينِ للتَّجريبيَّة، فالأولى تتَّسمُ بالدَّائريَّة لاعتمادِها على التَّرادف، والثَّانية قائمةٌ على اختزالِ الواقع المباشر إلى صِيَغٍ منطقيَّة. إلَّا أنَّ ما عَصَفَ بهذا التَّمييز هو اكتشافُ جيه إل. أوستن (الَّذي استشهدنا به في المقال السَّابق) أنَّ هناك جُمَلاً تركيبيَّةً لا يُمكِنُ أن يُقالَ عليها فقط إنَّها صادقةٌ أو كاذبة، إذ إنَّها لا تصِفُ فقط، وأنَّما تُغيِّر الواقعَ الاجتماعيَّ كذلك، هذا علاوةً على أنَّ التَّلفُّظَ ذاتَه محكومٌ بمقاصدِ المتكلِّم.
ما اكتشفه أوستن فَتَحَ البابَ واسعاً أمام استقصاء أفعالِ الكلامِ والأفعالِ الأدائيَّةِ على وجه الخصوص، وهو ما قام بتطويره لاحقاً الفيلسوفُ الأمريكيُّ جون سيرل بصياغةِ نظريَّةٍ شاملةٍ للمعنى، لا تقِلُّ شأناً عمَّا أحدثَهُ نعوم تشومسكي في مجال التَّركيب (سينتاكس). سوف نعودُ إلى الحديث عن الواقع الاجتماعيِّ ومقاصد المتكلِّم في الفقرةِ اللَّاحقة، لكنَّنا سنسعى في هذه الفقرة إلى تحديد الخيط النَّاظم للمشكلات الأربع. فإلى جانب استحالتِها على الاختزال، تتميَّزُ هذه المشكلات بارتكازِها على أُسلوبِ التَّكلُّم، خلافاً للمعارف العلميَّة الَّتي ترتكزُ في صياغةِ موضوعاتِها على صيغةِ الغَيْبَة؛ فالذَّاتُ تُدرِكُ وجودَ الأشياء مُسبَقاً قبل أن تُنتِجَ معرِفةً بشأنِها. قد يَقترحُ فيلسوفٌ، كما فعل هايدغر، موجوداً "هناك في العالم"، ليسهُلَ عليه الحديثُ عنه بضمير الغائب، وليؤسِّسَ على مِحوريَّتِه مشروعَه الأُنطولوجيَّ، لكنَّ المباشرةَ المُفعَمَةَ بالحُضُور تتبخَّرُ في طَرفةِ عينٍ في ضبابِ الغياب؛ وَمَنْ مِنَّا بقادرٍ على التَّحدُّث باسْمِ وردةٍ قبل قِطافِها، غيرُ شاعرٍ فِطَحلٍ مثلِ أمل دُنقُل؛ وكيف يكونُ عليه الحالُ أن يكونَ المرءُ وَطواطاً، كما تساءلَ الفيلسوفُ الأمريكيُّ، طوماس نِيغِل.
تفتحُ مشكلةُ المعنى أمام المخاطَبِ كُوَّةً لمُساءلةِ المتكلِّم، في سعيٍ للتَّعرُّفِ على مقاصدِه الَّتي عادةً ما تتحرَّكُ في سياقٍ اجتماعيٍّ متغيِّر. ولا نجِدُ في تحليلِ هذا المُشكلِ خيراً من مُساءلةِ الرَّسولِ الكريمِ لملاكِ الرَّبِّ جبريلَ بصددِ الأمرِ الإلهي الَّذي ردَّده عليه ثلاثَ مرَّاتٍ: "اِقْرَأْ"؛ فقد ذُكِرَ أنَّه قال له: "ما أنا بقارئ". فهناك ثلاثةُ احتمالاتٍ (أو وُجُوهٍ) للمعنى المتضمَّنِ في قولِ الرَّسول: الاحتمالُ الأوَّلُ أسقطَهُ الواقعُ، وهو رفضُ الانصياع للأمرِ الإلهي؛ والوجهُ الثَّاني يحتملُ تفسيرَين: القراءةُ من ديباجٍ كان يَحمِلُه جبريلُ عليه السَّلام أو ما رَسَخَ في السِّيرةِ العَطِرةِ بأنَّ الرَّسولَ كانَ أُمِّيَّاً بُعِثَ إلى أمَّةٍ سَوادُها الأعظم من الأمِّيِّين: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ"؛ (سورة "الجمعة"، الآية رقم "2")؛ إلَّا أنَّ هناك احتمالاً ثالثاً لم يتمِّ النَّظرُ فيه بما يستحقُّه من تأمُّل، وهو مُساءلةُ حاملِ رسالةِ السَّماءِ إلى الأرضِ عمَّا يتعيَّنَ عليه أن يقرأه، بالنَّظرِ إلى أنَّه لَمَّا يُدرِك بعدُ، بفعلِ الأمرِ، أنَّه أمام أثقلِ قولٍ سيتحمَّله بشر: "إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا"؛ (سورة "المزمِّل" الآية رقم "5").
اللَّافتُ للأمرِ، أنَّ الكلمة المُفردة المُضمَّنة في الفعلِ "اِقرأ" هي أيضاً جُملَةٌ كاملةٌ ومفيدة، علاوةً على أنَّها جُملَةٌ إنشائيَّة، وليست خبريَّة؛ ممَّا يعني بمقتضى علم البلاغة العربيَّة الكلاسيكيَّة أنَّها لا تَحتملُ التَّصديق أو التَّكذيب، كما هو الحالُ مع الجُمَلِ الخبريَّة؛ وهي، بحُكمِ ما لاحظه أوستن وطوَّره سيرل، جُملةٌ أدائيَّة لا تصِفُ واقعاً فقط، وإنَّما تسعى إلى تغييره؛ فبمجرَّدِ ترديدِها من قِبَلِ الرَّسولِ خلف ملاكِ الرَّبِّ يكونُ القرآنُ قد تدلَّى بالفعلِ إلى الأرض. بالطَّبع، فإنَّ سيرل لا يَحمِلُ الأفعالَ الأدائيَّة إلى أبعدَ من الواقعِ الاجتماعيِّ الَّتي تُؤدِّي بالفعلِ إلى تغييرِه، بتوفُّرِ شُروطٍ محدَّدةٍ للجدارة؛ ولكنَّا نرى أنَّ الفعلَ الأدائيَّ "اِقرأ" في مستهَلِّ التَّنزيل هو المعادِلُ الاجتماعيُّ في صيغةِ الخطاب للأمرِ التَّكوينيِّ "كُنْ" السَّابق لأيِّ وُجُودٍ في الكون، ناهيك عن الوُجُودِ الاجتماعي، الَّذي لا يَفترِضُ فقط أسبقيَّةً للمعنى، وإنَّما للوعيِ والحياةِ والواقعِ المادِّيِّ كذلك؛ وعندما يأتي في التَّنزيلِ قولُه: "إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ"؛ (سورة "النَّحل"، الآية رقم "40")؛ فإنَّ ما جاء بالآيةِ الكريمة يجتازُ فضاءَ تلك المشكلاتِ، ويتخلَّلُ الأقانيمَ الثَّلاثةَ جميعَها.
نختمُ هذا المقالَ بالقولِ إنَّ الأقانيمَ الثَّلاثة (الواقع، والعقل، واللُّغة) والمشكلاتِ الأربع (الوجود، والحياة، والوعي، والمعنى) تقعُ جميعُها ضمن إطار الحقيقة؛ لكنَّ العِقدَ النَّاظمَ لها (استحالة الاختزال وصيغة التَّكلُّم) يُشيرُ إلى طريقِ الحقِّ؛ فإذا بدأنا من المعنى في اتِّجاهِ الوُجُود، تتكثَّفُ العَتَمَةُ أو يشِعُ الضِّياء (جهودُ العلماء أو فتوحاتُ أهلِ الله)؛ وإذا بدأنا، عِوَضاً عن ذلك، من الوجودِ باتِّجاه المعنى، تتعدَّدُ "الوُجُوهُ" وتتكاثرُ "النَّظائر"، إلَّا أنَّ نُبلَ مقصدِ المُتكلِّم وصِدقَ مساءلةِ المُخاطَبِ هو الفيصلُ في فهْمِ الحاضرِ في النَّصِّ وتسييق الغَيبَة؛ عِلماً بأنَّ هذه السَّبعةُ المستفيضةُ لا تتراصفُ على أسطحٍ مستوية، وإنَّما تتداخلُ وتتضافرُ وفقَ سَمتٍ تتنامى فيه اللَّواحقُ في أحشاءِ السَّوابق، في الغالبِ ببطءٍ وأحياناً يأخذُ التَّدورُنُ العامُّ شكْلَ قفزاتٍ مفاجئة.
*"القوَّة الخامسة وتدورُنُها السُّلحفائيُّ عبر ثلاثة أقانيم"
شارك هذا الموضوع: