وقّعت الحكومة السودانية، في أغسطس/ آب الماضي، اتفاق جوبا للسلام مع حركات مسلحة في إقليم دافور وفي جنوب النيل الأزرق. وبغض النظر عن تفاصيل مخيفة تضمنها بلا جدال، هو خطوة في الاتجاه العام الصحيح نحو تحقيق السلام المنشود في السودان. تفاصيل مخيفة، لأنه اتفاق ناقص، لن يجعل أحدا في السودان أو خارجه يقول إن السلام قد تحقق الآن، طالما بقيت قوى فاعلة ومؤثرة خارجه. وتتمثل هذه التفاصيل المخيفة الصورة التذكارية التي اتخذت عقب التوقيع، بكل من فيها من شخصيات تجسد تناقضات مريعة. صورة معبّرة عن تحالف جديد ينشأ بين العسكريين في المجلس السيادي، أو قل اللجنة الأمنية للرئيس السابق عمر البشير وجزءا صغيرا من الحركات المسلحة الفاعلة. صورة تضم في أحشائها تفاصيل يعجز عن توصيفها أي تحليل سياسي متخيل. إنها تحكي وضعا مربكا. هنا رئيس مجلس السيادة قائد الجيش، الفريق عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو، وهو أيضا قائد قوات الدعم السريع، الإسم الرسمي لقوات الجنجويد. في حضرتهما في الصورة طيف من قيادات التنظيمات المسلحة في دارفور وجنوب النيل الأزرق، ولكنها تنظيماتٌ لم تعد تملك القوة العسكرية كما كان عليه الحال في وقت مضى.
لقد فقدت هذه الحركات الكثير، مع التحول في الإقليم المحيط بالسودان، بفقدان مساندة حكومة تشاد، وأكثر منه فقدانها نصيرها الأول العقيد معمر القذافي. هنا أسباب ميل الحركات، ومنذ سنوات سابقة للثورة، إلى تفضيل صيغة التفاوض السياسي، لفقدانها الواضح للقوة العسكرية. الثقل العسكري الحقيقي والمقلق يمثله الغائبان عن الصورة، رئيس حركة تحرير دارفور عبد الواحد النور، وقائد الحركة الشعبية عبد العزيز الحلو.
بصورة أخرى، تعلن الصورة عن قيام تحالف جديد بطابع عسكري، يبعد عمليا قوى الحرية والتغيير عن مركز اتخاذ القرار في السودان. إنه تحالف غرماء الأمس، بمباركة إقليمية إماراتية مصرية بشكل خاص. وتعكس الصورة أيضا انتصارا عسكريا مرحليا لأعداء الأمس، البرهان وحميدتي من جهة وقادة الحركات المسلحة من جهة ثانية. إنه بداية الإعلان الرسمي عن "التمايز" الذي أشار إليه حميدتي، لدى مخاطبته الحشود المحتفلة بالسلام في الخرطوم في 15 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي. ما يعنيه حميدتي أن العسكريين في المجلس السيادي قد نجحوا في جذب مجموعةٍ تضم الجبهة الثورية أو ما يعرف بقوى الهبوط الناعم ومناصريهم داخل الحرية والتغيير، وهي مجموعات راهنت، في السابق، على الإبقاء على نظام عمر البشير مع تغييرات شكلية، فاللجنة الأمنية، أو المكوّن العسكري داخل مجلس السيادة، عمل لهذه اللحظة، ومنذ بداية تسلمه مهمة ترتيب السلام، وانتزاعه عنوة من المكون المدني بالسيادي. والآن، أصبح التمايز أكثر وضوحا كما جاء على لسان حميدتي، من مجرّد تحرّكات أفراد من المهنيين رفضت مخرجات القرار الانتخابي في "تجمّع المهنيين السودانيين" أو القوى السياسية الصغيرة، الطامحة في البقاء على المسرح السياسي مهما كلف الثمن، مثل جزبي البعث والمؤتمر. ما عناه حميدتي بالتمايز يحمل خطرا حقيقيا على مسار الفترة الانتقالية، ذلك أنه، في المقابل، وبإعلان الحزب الشيوعي السوداني الانسحاب من مختلف مستويات الحكم في الفترة الانتقالية، بدأ تمايز آخر يتشكل، يقوده الشيوعي ومجموعات لم تفصح عن نفسها بعد.
وقد بدت الهيمنة العسكرية على القرار السياسي في السودان واضحة أكثر من أي وقت مضى. ومن ذلك اتفاق جوبا الذي تم مجتزأً، ويبتعد كثيرا عن الفكرة التي صاغتها قوى الحرية والتغيير فيما تعلق بالسلام الشامل والمستدام. والقرار المنفرد والخطير بالتطبيع مع إسرائيل. وفرض التعديل على الوثيقة الدستورية. ومصادرة القرار السوداني لصالح القوى الإقليمية والارتهان لإرادتها.
بصورة أخرى، بدت أطماع المكون العسكري في الهيمنة على مفاصل الحكم واضحة، وتكسب جولة تلو الأخرى، وسط تشتت قوى الحرية والتغيير، إلى جانب فشل الحكومة المدنية الواضح في معالجة الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتفاقمة فوق طاقة المواطن السوداني. ومن المخاطر أن هذا التحالف العسكري مع الحركات يتم وسط تفاوتٍ في الرؤى، فالمكون العسكري لا يضمر احتراما للحركات، وإنما يتخذها معبرا لمرحلة الهيمنة التامة على الحكم في السودان. الأمر الثاني: كيف سيتم استيعاب القوات التابعة للحركات في الجيش بشكله الراهن (قائد عام واحد لجيشين)؟ إذ ستكون العقبة الرئيسية تجاه استيعاب قوات الحركات في الجيش السوداني وجود قوات الدعم السريع، فهذه عمليا تمثل جيشا ثانيا موازيا، وهذا في حد ذاته وضع شائه وغريب. وقد بات وجود قوات الدعم السريع نفسها إشكالية مرفوضة من قيادات عسكرية عديدة، كما يصعب فهمها من حيث وجود قائد واحد لجيشين، وهذا أمر بالغ التعقيد، سوف يزيد تعقيدا مع الشروع بدمج العسكريين الجدد.
وأكثر القضايا التي سوف تلهب الشارع السوداني سوف تتعلق بالتنازع حول الحقائب الموعودة: ثلاث للحركات في مجلس السيادة، وستة مقاعد وزارية، و75 ممثلا للحركات في المجلس التشريعي من أصل 300 عضو. وهو تنازعٌ من المؤكد أنه سوف يعرّي هذا الاتفاق الهش الذي وقع في جوبا، ما يعني أن السودان مقدم على خيارين: هيمنة عسكرية مطلقة مدعومة إقليميا ومن إدارة الرئيس الأميركي ترامب قبيل رحيلها، أو ثورة في الشارع تعيد التوازن إلى الوضع السياسي الذي دخل مرحلة الخطر.
شارك هذا الموضوع: