بعد حوالي ستين عاما من النشاط السياسي، ورحلة طويلة من الصعود والهبوط والاعتقال وحياة المنفى، ترجل الصادق المهدي عن المسرح السياسي في السودان. ستون عاما ترك فيها بصمات واضحة طبعت كثيرا من أوجه الحياة السياسية في السودان. ويصعب على كل من يتصدّى للكتابة عن شخصية الصادق المهدي أن يتتبعها على خط واحد مستقيم، إذ إنه شأن كثيرين من أبناء جيله من السودانيين الذين دخلوا المعترك العام السياسي، أو الثقافي، اتسموا بصفاتٍ يندر وجودها بين أبناء الأجيال التي أعقبتهم، وهي المعرفة الموسوعية وتعدّد الاهتمامات. ولهذا، ليس الصادق استثناء، فهو متعدّد الاهتمامات والأوجه. ظل في مكانه، الرئيس التاريخي لحزب الأمة، بحيث يصعب تصوّر أن تتوفر له مستقبلا قيادة أخرى بقدرات الصادق، ولا من حيث طول فترة بقائه على سدة الرئاسة. وعلى الرغم من إيمانه العميق بالديمقراطية، لم يتزحزح المهدي ستة عقود عن رئاسة الحزب. وفي تقلده هذا الموقع رمزية مهمة، إذ قطع الطريق أمام تطلعات "الأفندية" ممن عملوا ضمن الإدارة الاستعمارية، وأبرزهم محمد أحمد المحجوب، وقد اعتقدوا أن في وسعهم لعب دور أكبر في ظل الحزب الطائفي بامتياز. ويغفل سودانيون كثيرون مهتمون بالشأن السياسي هذه النقطة المفصلية والهامة، إذ إنها أعلنت نهاية دور الحزب السياسي (على نمط ويستمنيستر)، كما أراد له "الأفندية" في تطلعاتهم، وبقي الحزب الطائفي.
وقد بدا الصادق أنه الوحيد في وسط عائلة المهدي الذي أدرك، وبصفاء، طبيعة خطوته، إقصاء المحجوب. وهذا ليس مصادفة، فهي خطوة تنبع من صميم تعليمات الإمام المهدي التي أوردها مبكرا في منشوراته، وخاصة المنشور رقم 27، الذي دعا فيه أنصاره إلى الطاعة والامتثال، ما جعله فوق المساءلة. وهذا ما صار متبعا تجاه آل المهدي، وجعلهم فوق المساءلة. ومن هنا، برزت ظاهرة الحساسية الشديدة في تناول كل ما هو متعلق ليس فقط بأسرة المهدي، وإنما حتى كل ما يتعلق بالحركة المهدية، وهي حساسيةٌ ليست قاصرةً على المؤرخين والكتاب السودانيين، وإنما تمتد إلى كل من حاول تناول دورهم في الحياة السياسية في السودان. التزم الصادق وبإدراك، وبشكل صارم، بأهمية تكريس هذه الفكرة داخليا والدفاع عنها. ومن هنا ظني سبب علاقته المتوترة مع مصر، والتي طبعت جوانب كثيرة من حياته السياسية، وأبرزها فترة الثمانينيات، حينما أظهر عداء غير مفهوم لدى كثيرين تجاه مصر، إلى درجة أنه كان الوحيد بين قيادات حزبه من يرفض القبول باتفاق السلام الذي وقع بين زعيم حزب الاتحاد الديمقراطي، أحمد الميرغني، وزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، جون قرنق، عام 1988. وهو موقفٌ ينسجم مع هواجسه المصرية، واعتقاد قوي في وجدانه بأن الميرغني ليس هو من وقع الاتفاق، وإنما هي الحكومة المصرية التي صنعت الاتفاق الذي رآه محاولة مصرية جديدة لإقصاء ليس شخصه، وإنما المهدية كحركة، عن الحكم فترة قد تطول.
رحم الله الصادق المهدي، مضى تاركا خلفه مهمة صعبة وفي زمن مختلف. لم تحرّك فيه طول مدته على سدّة الحزب فكرة الاهتمام بخليفةٍ على درجة من القدرة، بحيث يمكن له ملء الفراغ الكبير الذي سوف ينشأ عند غيابه. بمعنى أنه، وبجدارة، كان القائد السياسي الأوحد للحزب. وأهم من ذلك هو الإمام، وهذه نقطة غاية في الحساسية، وبالأحرى هي أكثر أهمية من رئاسة الحزب نفسه، فقد كان الجدل بشأن الإمامة مدخله إلى إقصاء عمه الإمام الهادي، باعتبار أن هذا شأن الطائفة، على أن يتفرغ هو للشأن السياسي. ثم عاد بعد سنوات ليضع يده على الإمامة ورئاسة الحزب معا. والآن سوف يكون من الصعب الحديث عن شخصيةٍ من آل المهدي متفق عليها لتولي الإمامة، وهذه معضلة. وفي الوقت نفسه، المهمة المتخيلة أنها الأقل سهولة، وهي رئاسة الحزب، سوف تكون مصدر نزاع حقيقي متعدّد الأوجه. وهنا تتساوى الأكتاف، وحتما سوف يخرج الصراع إلى العلن حول رئاسة الحزب، إذ يبرز مبارك الفاضل وأبناء الإمام الهادي من جهة وأبناء الصادق المهدي على الكفّة الأخرى، وبينهما يقف العم أحمد المهدي وأبناؤه الذين حتما سيكون لديهم ما يقولونه. والأقرب أن يكون الحل الوسط والمؤقت بقبول شخصية من خارج الأسرة لتولّي رئاسة الحزب، باعتباره كيانا سياسيا، لكن قيادة الطائفة ستكون المعضلة الحقيقية التي حرص الصادق، طوال حياته، على جعلها شأنا أسريا حصريا لأحفاد المهدي. ولا أرى سوى مصير قاتم، أقله تفتت حزب الأمة، وتحوله إلى مجموعة أحزاب صغيرة، وهذا ما لا ينقصه عمليا في الواقع.
ويتعدّى الأمر محيط أسرة المهدي، بل يتصل بالطائفة الأخرى التي يتزعمها محمد عثمان الميرغني، فهي تعاني، ومنذ سنوات، من الأزمة السياسية التاريخية نفسها التي يثيرها "الأفندية"، في محاولة خروجهم وتجاوزهم العامل الطائفي. ما أقصده أنه في العقود الثلاثة من حكم الحركة الإسلامية، وضع قائدها، حسن الترابي، نصب عينيه، وطوال فترة تقلده رئاسة التنظيم، حقيقة مفادها أن الحركة الإسلامية هي الوريث الشرعي والوحيد للطائفتين، طالما الأمر يتعلق بالتوجه الإسلامي. ولتحقيق هذه الغاية، اجتهد الترابي في تسويق نفسه مصريا، وخصوصا قبيل انتخابات عام 1986، حينما زار مصر، وطرح، في أطر ضيقة، الحركة الإسلامية بالوجه الحديث المستنير بديلا للطائفتين، لمعرفته النوايا المصرية تجاه الطائفتين. وهو ما أبلغ به الرئيس حسني مبارك. وعمليا، ضرب نظام الإنقاذ، بقيادة الترابي، الطائفتين في مقتل، إذ جرّدهما أولا من القواعد الريفية، مصدر سندهما التاريخي، ثم نزع الملكيات الزراعية، أهم مصادر الثروة لهما، وكذلك التأثير على التجار والرأسمال في السوق السوداني. ومن الجهة الأخرى، ضرب المصالح المصرية في السودان في مقتل، بإغلاق المؤسسات التعليمية المصرية، وأهمها جامعة القاهرة فرع الخرطوم، وألغى وجود الري المصري في السودان.
كما أن الحرب في إقليم دارفور، وهو معقل مهم للطائفتين، المهدية خصوصا، قد غيرت التركيبة السياسية هناك، وقلبت المعادلة خصما على الطائفة. وأخيرا، إذا ما وضعنا في الاعتبار طبيعة مكونات ثورة ديسمبر/ كانون الأول، وتجاوز شبابها فعليا دائرة جاذبية الطائفة، فإن السودان، وليس حزب الأمة وحده، مقبل على فترة غاية في التعقيد. سوف يتغير المشهد السياسي تدريجيا، فإن اتسم بالحكمة فهو يصب في مصلحة السودان والتغيير إلى الأمام، أو أن البلاد سوف تواجه مرحلة قاسية مع تفتت الطائفتين، ما يزيد من تعقيد فسيفساء السياسة في السودان التي لا ينقصها التعقيد.
( العربي الجديد )
شارك هذا الموضوع: