بداية، ليس في جدل الحدود في منطقة الفشقة (600 كيلومتر مربع) بين السودان وإثيوبيا جديد سوى وجوه الحكام في البلدين. .. المشهد الذي تقرع له الطبول في الخرطوم لا يكاد يسترعي أحداً من السكان في شرق السودان، وعلى طول امتداد الحدود المشتركة بين البلدين، إذ لا يختلف في شيء عن الأخبار الموسمية للآثار المدمّرة لنهر القاش، المنحدر من الهضبة الإثيوبية، وعجز حكومي تاريخي عن السيطرة عليه. ويمكن الوقوف على عدة ملاحظات مهمة على هامش هذا النزاع الحدودي:
أولاً، بدا ما يجري في شرق السودان للوهلة الأولى أنه يوفر فرصة سانحة أمام الشقّ العسكري في الحكم، لمزيد من إحكام زحفه الهادئ لابتلاع كامل السلطة، مدفوعاً بضعف الحكومة المدنية. وما يجري في الفشقة مقروناً بهجوم متواصل في الفترة الأخيرة من أعضاء مجلس السيادة العسكري يستهدف شخص رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، وأداء الحكومة العاجز يعزّز من هذه الفرضية.
ثانياً، السرعة التي تحرّك بها رئيس مجلس السيادة، عبد الفتاح البرهان، إلى "أرض المعركة"، واستخدامه لغة عسكرية جافة، عدا استناده إلى الآلة المجرّبة نفسها في العهد السابق بإثارة المشاعر الوطنية والعسكرة والحشد الشعبي للحرب على الجارة إثيوبيا، أعادت (السرعة) إلى أذهان السودانيين هذا الأسلوب المجرّب للحكم البائد. وكان هذا المنحى المجرّب مبعثاً لشكوكٍ تعاظمت تجاه حقيقة المقاصد، وتحوّلت إلى ردّة فعل شعبية ونقابية وحزبية واحتجاج ورفض واسع للحرب. وقد جعل هذا الرفض الشعبي المفاجئ البرهان يعدل سريعاً عن اللغة العسكرية الخشنة، ليعلن أن كل ما جرى هو "تموضع مشروع للقوات المسلحة داخل الأرض السودانية".
ثالثاً، الموقف الذي اتخذته الحكومة بشقيها، المدني والعسكري، تجاه الفشقة، ولّد معه أسئلة في الشارع بشأن انتقائية قرار التصعيد، فقضية الفشقة واضحة وحاسمة، من حيث إقرار إثيوبيا بتبعية الأرض للسودان، على خلاف النزاع الحدودي في حلايب مع مصر. ومن الإنصاف القول إن الموقف الأثيوبي اتسم تاريخياً بمرونة وعقلانية، وتأكيد على ضرورة حل سلمي للنزاع، فالحدود بين البلدين (1600 كلم) عليها اتفاق وإقرار إثيوبي، وفقاً لاتفاقية الحدود لعام 1902، وبروتوكول الحدود لسنة 1903، واتفاقية عام 1972، بتبعية منطقة الفشقة للسودان. مع ملاحظة تقاعس الطرفين عن حسم أمر الترسيم. حتى إن رئيس الأركان الإثيوبي، الجنرال برهانو جولا، حينما علق على الأحداث أخيراً لم يجد ما يقوله سوى "موضوع التعدّيات على الحدود لم يكن جديداً بسبب عدم ترسيم الحدود بين البلدين، ولا يمكن اعتبار ذلك احتلالاً من جانب أي طرف".
ثالثاً: تناقض الدعوة إلى الحرب في الفشقة، بوضوح، أهم أهداف المرحلة الانتقالية في تحقيق السلام وبسطه في ربوع السودان. ولا ينحصر هذا السلام في دارفور، أو في مناطق الحرب الداخلية، وإنما يمتد ليشمل دول الجوار والإقليم.
في محاولة لنزع فتيل الأزمة، ابتعث رئيس وزراء إثيوبيا، أبي أحمد، إلى الخرطوم الجنرال آدم محمود، برسالة دعت إلى تخفيف التوتر والجنوح نحو التفاوض السلمي. وسارت تصريحات الجنرال برهانو في الاتجاه نفسه، إذ قال إنه ليست لبلاده مصلحة في الدخول في حربٍ مع السودان. وأضاف "إثيوبيا لن تحارب السودان. لسنا بحاجة إلى الحرب مع السودان بأي حال". وتابع "هناك من لديهم مصلحة في إشعال الفتنة ودقّ طبول الحرب بين البلدين". وآخر هذه المواقف ما جاء على لسان السفير الإثيوبي لدى روسيا، أليمايهو تيغينو، وتحدث فيها عن إمكانية لحل مشكلة ترسيم الحدود مع السودان قريباً "إذا كانت هناك إرادة للقيام بذلك من الجانب السوداني"، مؤكّداً أن إثيوبيا "لا تزال تختار الحوار والحل السلمي".
لم يمنع هذا الموقف تجاه السودان إثيوبيا عن اتهام ما سمته "الطرف الثالث" الذي لا يريد لعلاقات البلدين أن تستقر، وأصبع الاتهام بلا مواربة يشير إلى الحكومة المصرية. ويغذّي هذه الفرضية وبشدة الموقف السوداني المتغير في محادثات سد النهضة، وتحوّله من شبه تطابق مع الموقف الإثيوبي، طوال مراحل التفاوض السابقة، إلى ناقد وبشدة. ومن تغنٍّ ومدح لفوائد السد على السودان إلى هجوم وتحذير من مخاطره والأهوال التي تهدد حياة حوالي عشرين مليون سوداني على ضفاف النيل، وفق حديث أخير لرئيس الوزراء السوداني عبد الله حمدوك.
الأيادي المصرية، وفقاً للفرضية الإثيوبية هذه، كثيرة ومتعددة. في مقدمتها التعاون العسكري والأمني المصري السوداني الذي ارتفع إلى مستويات لم تعرفها العلاقات بينهما، منذ حكم الرئيس جعفر نميري. وأبرز تجلياتها في المناورات العسكرية المشتركة، والتي جرت في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بمشاركة القوات الجوية في البلدين، حول منطقة سد مروي في شمال السودان. وعززتها زيارة مدير المخابرات المصرية، عباس كامل، مطلع شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، الخرطوم، وكان عنوان الزيارة اللافت "بحث مستجدات ملف سد النهضة". ويكمل هذا التدرّج في التعاون بين مصر والسودان، وتتويجه بزيارة تاريخية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي جنوب السودان، أضلع الفرضية الإثيوبية بشأن الطرف الثالث.
الخلاصة من ذلك كله أنه ليس لدى أي من الطرفين في إثيوبيا أو السودان مصلحة في إشعال نار حرب في المنطقة، فالأوضاع الاقتصادية الهشة لكليهما تعني موت التنمية، ومعها أحلام التغيير ونهاية المشاريع السياسية. وتعني إثيوبياً فتح جبهة جديدة تضاف إلى نزاعات داخلية تهدّد البلاد بالتفكك، عدا عن تعريض سد النهضة للدمار لقربه من منطقة الفشقة. شعبياً انتشرت في البلدين، عبر الوسائط الاجتماعية، دبلوماسية الأغاني السودانية والإثيوبية الأداء، رمزاً للصداقة بين الشعبين، ومعها تعلو الأصوات الرافضة الحرب.
شارك هذا الموضوع: