تمثُّلاً بالحديثِ النَّبويِّ الشَّريف واقْتِداءً بالرَّسولِ الكريم ونَسْجاً على مِنْوالِ حديثِه عن أركان الإسلام الخمسة، يُمكِنُ تكليلُ هذه الفِقْرةِ الافتتاحيَّةِ بالقول: بُنِيَ الكونُ على خمسِ قوًى – أربعةٌ منها معروفة، هي: الجاذبيَّة، والكهرومغنطيسيَّة، والنَّوَويَّة الضَّعيفة، والنَّوَويَّة القويَّة؛ أمَّا القوَّة الخامسة، فقد ظلَّت منذُ بلايين السِّنين مُخبَّأةً على مَسمَعٍ ومرأًى من جميعِ النَّاس، وهي لغةُ الحرف، الَّتي نشأتْ منها بعد تَدورُنٍ طويل، كلُّ اللُّغاتِ البَشَريَّة الَّتي ميَّزتِ الإنسانَ عن سائرِ الحيوان. وهذه القوَّةُ الخامسة، كما سنُبيِّنُ لاحقاً، هي القوَّةُ الوحيدة الَّتي تَربُط بين الحقِّ والحقيقة، وتُوحِّدُ بين الدِّين ومختلفِ العُلُومِ الَّتي أنتجها بَشَرٌ على ظهرِ هذا الكوكبِ المُتفرِّد – كوكبُ الأرض.
لم نبدأ بتقليد أُسلوب الحديثِ النَّبويِّ، إلَّا لأنَّ أوَّل ما وَصَل إلى مَسمَعِ النَّبي الأُمِّيِّ من الذِّكْر الحكيم هو فعلُ الأمرِ “اِقرأ”، وهي الكلمة الَّتي ردَّدها ملاكُ الرَّبِّ ثلاثاً، إلى أنْ أكملها في خمسِ آياتٍ افتتاحيَّةٍ من سورةِ “العلق”: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ؛ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ؛ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ؛ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ؛ عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ”. والذِّكْرُ في الأعالي “كِتَابٌ”؛ وما أُلقِيَ على موسى”ألواحٌ”؛ وفي البَدْء، كانتِ “الكلمة”، وكان المسيحُ عيسى “كلمته” في الأرض؛ أمَّا ما تنزَّل على محمَّدٍ في نَيفٍ وعشرينَ عاماً، فهو “قُرآن”؛ وهذهِ الكلمة، بُحكم الألف والنُّون المُلحقتَينِ بالاسم، أقصى درجاتِ القراءة، مثلما أنَّ “الرَّحمنَ” أقصى درجاتِ الرَّحمة، و”الإيمانَ” أقصى درجاتِ التَّوجُّه للهِ والتَّمتُّع ببَرَكتِه.
بُنِيَ الكونُ على خمسٍ، لكنَّه يَمضي قُدُماً في تدورُنٍ متلاحقٍ عبر ثلاثةِ أقانيم: الأوَّل يقومُ على الإشفار، والثَّاني على الإسرارِ، والثَّالث على الإظهارِ (أو الإبَانة)؛ وهذه الأقانيمُ الثَّلاثةُ هي: الواقع، والعقل، واللُّغة. وعلى الرَّغم من أنَّ أُقنوم الإبانة هو أُقنوم اللُّغة، فإنَّ الأُقنومَيْنِ الآخرَيْنِ لا يَخلُوانِ منها تماماً. ولكنْ، لأنَّ تَدورُنَ الكونِ يقومُ على آليَّةٍ “سوبرفينيَّة”، يَعتمِدُ فيها اللَّاحقُ على السَّابق، فإنَّ اللُّغة في الأُقنوم الأوَّل تأخُذُ شكلاً أوَّليَّاً مَبدئيَّاً (“بروتوتايب”)، يَنهضُ على الشِّفرات؛ وتشِبُّ عن الطَّوقِ في أُقنوم الإسرار، فتتَّخذُ شكلَ عَصَبوناتٍ لتوصيلِ الرَّسائل؛ ثمَّ تَستقِلُّ تماماً في أُقنومِ الإبَانة، الَّذي يُمهِّدُ الطَّريقَ إلى ظهورِ الُّلغةِ إلى العِيَانِ وتدشينِ البيانِ الَّذي يَخرُجُ بها من طَورِ الإسرار: “الرَّحْمَٰنُ؛ عَلَّمَ الْقُرْآنَ؛ خَلَقَ الْإِنسَانَ؛ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ”؛ (سورة “الرَّحمن”، الآيات من رقم “1” إلى رقم “4”)؛ من أقصى درجاتِ الرَّحمة؛ عبر أقصى درجاتِ القراءة؛ لأقصى درجاتِ الأُنسِ؛ وُصُولاً إلى أقصى درجاتِ الإبانة.
يبدأ الأُقنومُ الأوَّل بالفيزياء (حيث تنبثقُ القوى الأربعُ الأولى مع “الانفجارِ العظيم”)، وتتوسَّطُه الكيمياء (حيث تنشأُ العناصرُ في قلبِ النُّجُوم)، وينتهي بانبثاقِ الحياةِ والقوَّةِ الخامسة في أبسطِ أشكالها (حيث يُوجدُ الحامضُ النَّوويُّ الرِّيبيُّ منقوصُ الأكسجين “دي إنْ إيه”، الَّذي يَحفظ الشِّفرة الوراثيَّة، الَّتي تَتدورَنُ إلى كائناتٍ حيَّة: نباتيَّة وحيوانيَّة). ومن هذه الشِّفرة الأساسيَّة، تَخرُجُ البياناتُ الوراثيَّة الَّتي تُصدِرُ عبر ثلاثِ لغاتٍ بدائيَّة “برايمورديال” تعليماتٍ للحامضِ النَّوَويِّ الرِّيبيِّ النَّاقل “تي آرْ إنْ إيه” للقيام بإنتاجِ كافَّةِ أنواعِ البروتيناتِ الَّتي تَعتمدُ عليها الكائناتُ الحيَّة في بقائها وتَدورُنِها عبر الحِقَب. وسنَسعى في الفِقْرةِ التَّالية إلى تقديمِ شرحٍ مُبسَّطٍ للغاية لعملِ تلك اللُّغاتِ الثَّلاث، الَّتي تُشكِّلُ في مجموعِها أُنمُوذَجاً أوَّليَّاً مَبدئيَّاً لتَدورُنِ اللُّغاتِ البَشَريَّة، ولمعرفةِ الكيفيَّة الَّتي تَتجسَّرُ بها الفَجوةُ القائمة بين الواقع والعقل.
تُوجَدُ المعلوماتُ الوراثيَّة مُشَفَّرةً داخل شرائحَ من الحامض النَّووي “دي إنْ إيه” داخل كلِّ خليَّة، باستخدامِ أحرُفٍ كيمائيَّةٍ أربعة، هي: “إيه” (أدينوسين)، “سي” (سايتوسين)، “جي” (غوانين – بحرفِ الغين)، و”تي” (ثايمين – بحرفِ الثَّاء)؛ يتمُّ ترتيبُها في مجموعاتٍ ثلاثيَّة مختلفة على طول كلِّ شريحةٍ من شرائح “دي إنْ إيه”، لِتُصبِحَ بمَثابةِ تعليماتٍ مُشَفَّرة لصناعةِ أضرُبٍ مختلفة من البروتينات، الَّتي تتكوَّنُ بدورِها من أحماضٍ أمينيَّة. تُؤخَذُ هذه التَّعليمات ويتمُّ نسخُها بواسطة الحامض النَّوَوي “آر إنْ إيه”، حيثُ يتمُّ استبدالُ حرف “تي” (ثايمين) بحرفِ “يو” (يوراسيل)؛ وبما أنَّ عددَ البروتيناتِ لا يَتجاوزُ حوالي عشرين نوعاً، وإنَّ تبدُّلاتِ المجموعاتِ المُمكِنة يصِلُ إلى أربعِ وستينَ مجموعةً، فإنَّ هناك فائضاً كبيراً في تكوين هذه المجموعات.
هذه الوَفرة هي أوَّلُ ما يُميِّزُ هاتينِ اللُّغتَينِ البدائيَّتَينِ (أو بالأحرى تلك الأحرف الَّتي تُشكِّلُ البياناتِ الوراثيَّة والأحرف الَّتي تَصنَعُ الأحماضَ الأمينيَّة)، وهي ما ستنتقلُ عبر التَّدورُنِ إلى لُغتَيْ الإسرارِ والإظهار. إلَّا أنَّ الأمرَ الأشدَّ أهمِّيَّةً من ذلك هو أنَّ هاتينِ اللُّغتَينِ التَّأسيسيَّتَيْنِ تحتاجانِ إلى تركيبٍ يَقتضي لغةً ثالثةً تُفهمُ عن كلتيهما حتَّى تتمكَّنَ من الرَّبطِ بينهما، وهو تحديداً ما تقومُ به بروتيناتٌ خاصَّة تُسمَّى – وعُذراً مُقدَّماً لطولِ اسمِها (والأهمُّ من ذلك وظيفتُها) – “أمينوأسيل-تي آرْ إنْ إيه سينثيتيسيز”. وهذه الوظيفة الجوهريَّة الَّتي تقومُ بها تلك البروتيناتُ هي الَّتي انتقلتْ، عبر التَّدورُنِ الطَّويلِ الأمدِ، إلى لغةِ الإسرار، فربطتْ في قِشرةِ الدُّماغِ بين العاطفة في الجهاز الحُوفيِّ للدُّماغ والأفعالِ اللَّاإراديَّة الَّتي يقومُ بها جِذْعُه؛ كما انتقلتْ إلى لغةِ الإظهار، فربطتْ في العَلَنِ بين العقلِ والواقع، لأنَّها بُحكمِ المنطقِ السُّوبرفينيِّ جزءٌ من كليهما.
يَتكوَّنُ الدُّماغ البَشَريُّ رأسيَّاً من ثلاثِ غُرَف: القِشرة والجهازُ الحُوفِيُّ والجِذْع. تقليديَّاً، تختصُّ القِشرة عُمُوماً بالحركة واللُّغة والتَّفكير والأفعال الإراديَّة؛ والجهازُ الحُوفِيُّ بالعاطفة؛ والجِذْعُ بالأفعالِ اللَّإراديَّة، كتنظيمِ ضرباتِ القلب، والدَّورة الدَّمويَّة، والضَّغط، والحرارة، وحالة الاستِتْباب العامِّ للجسم. إلَّا أنَّ التَّدورُنَ البطيء الطَّويلَ الأَمَد والمنطقَ “السُّوبرفينيَّ” القائم على اعتماد اللَّاحق على السَّابق يَفرضُ تداخُلاً يَسقُطُ معه هذا التَّقسيم الصَّارم إلَّا لأغراضٍ تعليميَّة تبسيطيَّة. ومنها التَّقسيمُ الجِزافِيُّ للغةِ العواطف، وحصرُها في تصنيفاتٍ محدودةٍ قائمةٍ على تعبيراتِ الوجه الخارجيَّة: خوف، غضب، دهشة، اشمئزاز، حزن، سعادة؛ في حين أنَّ عضلاتِ الوجه على جانبَيْهِ تصِلُ إلى أكثر من ثمانين عضلة، ولا يَتحرَّكُ منها، وفقاً لمبدأ الوفرة إلَّا عددٌ محدودٌ منها؛ كما أنَّ لتعبيرِ الوجه عِدَّةَ معانٍ، مثلما أنَّه يُمكِنُ التَّعبيرُ عنِ العاطفةِ المحدَّدة بعِدَّةِ أوجه.
على أنَّ الأمرَ الأهمَّ هو تداخلُ وظائف الغُرَف، وقيامُ شبكاتِ القِشرةِ الدُّماغيَّة بدورِ الرَّبط في تنظيمِ كلِّ الوظائف؛ وإذا كان هناك – تقليديَّاً – أماكنُ بعينِها في الدُّماغِ مُخصَّصةً لتأديَة وظائف الجسم، فإنَّ دورَها أشبهُ بدورِ الكلماتِ القاموسيَّة الَّتي تَكشِفُ عن دَلالاتٍ متغيِّرة بتغيُّرِ السِّياقِ الَّذي تَرِدُ فيه. صحيحٌ أنَّ الوظائف الأساسيَّة للجسم الَّتي يُؤدِّيها الجِذْعُ لا تَحتملُ تأويلاً؛ لذلك، يتمُّ تفسيرُها وفقاً للدَّلالة القاموسيَّة المستقرَّة؛ لكنَّ الوظائفَ الَّتي يقومُ بها الجهازُ الحُوفِيُّ، وهي العواطف، تحتملُ التَّأويلَ وتغيُّرَ السِّياقات، وهو يتمُّ هنا عن طريق اصطفاف العَصَبوناتِ داخل الشَّبَكاتِ العَصَبيَّة، الَّتي تَتحرَّكُ وفقاً لمساراتٍ محدَّدة للتَّعبيرِ عن عاطفةٍ محدَّدة، وهي ما ينعكسُ في شكلِّ ملامحَ قابلةً للقراءة (الخاطئة أحياناً) على صفحاتِ الوجوهِ البَشَريَّة.
إلَّا أنَّ لغةَ العواطف، الَّتي يتمُّ اعتمالُها بصورةٍ رئيسيَّة داخل أُقنوم الإسرار، هي تمهيدٌ للإعلانِ عبر تَدورُنٍ بطيءٍ وطويل عن لغةِ الإبانة. وهي أيضاً تتشكَّلُ عبر ثلاثِ رَدْهاتٍ واسعة تنقسمُ كلٌّ منها إلى شِقَّيْنِ أُفُقيَيْن، ويعلو بعضُها فوق بعض. في الرَّدْهة السُّفلى، تُجلجِلُ الأصواتُ؛ وفي الشِّقِّ الثَّاني منها، تنتظمُ تلك الأصواتُ في أنساقٍ محدَّدة (صوتيَّات “فَنِيتيكس” – علم أصوات “فونولوجيا”). وفي الرَّدْهة الوسطى، تتشكَّلُ قواعدُ خارجيَّة؛ وفي الشِّقِّ الثَّاني منها، يَكمُنُ تركيبٌ مستقِرٌّ في الأعماق (نحوٌ “غرامر” – تركيب “سينتاكس”). وفي الرَّدْهةِ العليا، يَنكشِفُ المعنى بتداوُلِ الأفعال؛ وفي الشِّقِّ الثَّاني منها، تتَّضحُ الدَّلالة (تداوُليَّة “براغماتيكس” – علم دَلالة “سيمانتيكس”).
ما كان من المُمكِن للمعنى أن يَنكشِفَ وللدَّلالةِ أن تتَّضحَ، لولا أنَّ هذه الرَّدْهةِ العليا، بحُكمِ المنطقِ السُّوبرفينيِّ، هي تركيبٌ لمحتوياتِ الغُرفتَينِ السُّفليَيْن – بنفسِ الكيفيَّة الَّتي كانت فيها بروتيناتُ “أمينوأسيل تي آرْ إنْ إيه سينسيتيسيز” تركيبٌ لجُزَيئات “دي إنْ إيه” و”آرْ إنْ إيه”؛ وبنفسِ الكيفيَّة الَّتي كانت فيها عَصَبوناتُ القِشرة الدُّماغيَّة تركيبٌ لأوامرِ الجِذْعِ واعتمالاتِ الجهاز الحُوفِيِّ (تفسير ازدياد ضرباتِ القلبِ كمُؤشِّرٍ للخوفِ أو تعبيراً عن اللَّهفةِ واللَّوعة). وبذاتِ الكيفيَّة، يقومُ أُقنومُ الإظهار بِلَمِّ الشَّملِ وتركيبِ أُقنومَيْ الإشفارِ والإسرار، لأنَّه جزءٌ من كليهما. وبهذا الجَهْدِ التَّركيبي، تتجسَّرُ الهُوَّةُ القائمة بين الإشفارِ والإسرارِ، ومن ثَمَّ تختفي الفَجوةُ القائمة بين الواقع والعقل.
للُّغةِ الطَّبيعيَّةِ وظيفتان: وظيفةٌ إِبلاغيَّة وأخرى بلاغيَّة. تختصُّ الأولى بالتَّواصلِ وتمريرِ الرَّسائل على حدِّ الدِّقَّة الضَّروريَّة لفهمِ محتواها واستيعابِ دَلالاتِها الواضحة. أمَّا الوظيفة البلاغيَّة، فإنَّها تسعى نحو توصيلِ أمرٍ إضافيٍّ، عَلاوةً على التَّبليغ، فتنعطفُ إلى التَّشبيه وتَلجأ إلى البلاغة لتهيئةِ الأذهانِ إلى الاقترابِ منه (أي الأمر الإضافي) بعضاً من التَّقرُّب؛ فنشأ، بفضلِ ذلك، فنُّ الخَطَابة وازدهر الشِّعرُ إلى درجةٍ قادتْ إلى تشويشِ الوظيفةِ الإِبلاغيَّةِ ذاتِها، فشمَّر بعضُ فلاسفةِ الإغريق عن سواعدِهم لمحاربتِهما وإزاحةِ كليهما عن السُّبُلِ المُؤدِّيةِ إلى إنتاجِ المعرفة، حيثُ انْبرى سقراطُ إلى دحضِ دعاوى السُّفُسطائيِّين، واشتُهِرَ أفلاطونُ بطردِ الشُّعراءِ من أكاديميَّتِه الشَّهيرة.
إلَّا أنَّ للشِّعرِ وجهَيْنِ: وجهٌ يُشوِّشُ الرَّسائلَ ويُعكِّرُ صَفْوَ التَّواصل، فيستحِقُّ بذلك كلَّ جَهْدٍ لإقصائه عن المِنصَّاتِ المُنتِجةِ للمعرفة. وهذا الوجه هو الَّذي حذَّر منه القُرءانُ وناصَبَهُ العَدَاء: “وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ، إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ”؛ (سورة “يس”، الآية رقم “69”)؛ “وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ”؛ (سورة “الشُّعراء”، الآية رقم “224”). غير أنَّ هناك وجهاً استكشافيَّاً ضروريَّاً لا تَتدورَنُ اللُّغةُ ذاتُها إلَّا به، وهو الوجهُ الَّذي مهَّدَ إلى تَفوُّقِ القُرءانِ عليه وتحدِّيهِ لجهابِذةِ العرب بمُضاهاتِه والإِتْيان بمثلِه، إنِ استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ولأنَّ القُرءانَ يَسعى إلى توصيلِ أمرٍ لا قِبَلَ للعربِ به، كان لا بُدَّ من تجاوُزِ وظيفةِ الإبلاغِ المُعتادة بتأسيسِ البلاغِ على أعلى درجاتِ البلاغة، وذلكَ بتخطِّي الشِّعر والوُقُوفِ على أكتافِه، في ذاتِ الوقت، لاستشرافِ أقصى إمكانيَّاتِ اللُّغةِ البَشَريَّة، المتمثِّلةِ وقتَ نُزُولِ القرءانِ في لغةِ قُرَيش: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ، لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ”؛ (سورة “النَّحل”، الآية رقم “103”).
وهذا القُرءانُ، الَّذي تَخطَّى جَمَاليَّاتِ الشِّعرِ العربيِّ وفنِّيَّاته، قد جاء من الحقِّ وبالحقِّ نزل: “وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا؛ (سورة “الإسراء”، الآية رقم “105”)؛ والحقُّ يَشتملُ على الحقيقة ويَتجاوزها، كما تجاوَزَ الشِّعر، بما هو قمينٌ به، ولا تستطيعُ الحقيقةُ إدراكَه، لأنَّها تقعُ على مسافةٍ منه، داخلَ أَجَلٍ مُسمًّى، والحقُّ لا يُدرِكُه الزَّمكان. وفقاً لذلك، يُمكِنُ القولُ بأنَّ العلاقة بين الحقِّ والحقيقةِ غيرُ مُتساوِقة؛ فما جاء في الحقيقة يُدرِكُه الحقُّ، لكنَّها غيرُ قادرةٍ بدَورِها المحدود على مُضاهاتِه. والعُلُومُ الطَّبيعيَّة تَنهَضُ في مُجمَلِها على الحقيقة الَّتي يَتغيَّرُ قِسْمٌ منها بتغيُّرِ الأزمان. وما رَسَخَ منها لا يُناقِضُ الحقَّ، الَّذي يُشيرُ في تنزُّلِه إلى ما هو قبْل خَلقِ الإنسان وقبل تملُّكِه للبَيان وإنتاجِه لكافَّةِ المعارِف البَشَريَّة، ومن ضمنها العُلُوم الطَّبيعيَّة الَّتي يَستحيلُ إنشاؤها بغيرِ بيان؛ وإلى ما هو آتٍ بعد فَناءِ الإنسانِ واستدعائه، كما جاء في الذِّكرِ، ليومِ الحساب.
أمَّا البَيانُ الَّذي تَدورَنَ عبر الأزمنة من الإشفارِ إلى الإسرار إلى الإظهار، فهو قوَّةٌ لا يُستهانُ بها ويُعمَلُ لها ألفُ حساب، مثلما نرى ذلك في قُدرةِ الخُطَباء على الأخذِ بألبابِ السَّامعين، وما نراهُ من براعةِ الشُّعراء في تسويغِ ما يُلقَونَه عليهم، فكما جاء في الحديثِ الشَّريف: “إنَّ من البَيانِ لسِحْرا”؛ والشَّاعرُ الفذُّ _كما يرى التِّجاني يوسف بشير _ “يَفتَحُ الكونَ بالقصيد”. وفي العصرِ الحديث، تنبَّه الفيلسوف البريطانيُّ جي إل أوستن إلى قُدرةِ بعضِ المَلفُوظاتِ الَّتي سمَّاها “أدَائيَّاتٍ” على مُخالَفةِ التَّقنينِ العِلميِّ بعدم صلاحيَّتِها لقَبُول الدَّحْض أو التَّصديق، هذا إضافةً إلى قُدرتِها على إنشاءِ أوضاعٍ جديدة بمجرَّدِ التَّلفُّظِ بها؛ فما جاء على لسانِ السُّلطان أو قِيلَ على وسادةٍ وثيرةٍ في بِلاطِه الفاخرِ يُصبِحُ قانوناً ساريَ المفعول منذُ لحظةِ النُّطقِ به. إلَّا أنْ لا شيءَ يُضاهي الأمرَ الإلهي: “إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ”؛ (سورة “النَّحل”، الآية رقم “40”).
شارك هذا الموضوع: