تنتظمُ الأشياءُ دائماً في مواجهةِ ما يُهدِّدُ بقاءها؛ فسواءً نشأ بالطَّبعِ أو تمَّ إنشاؤه إنشاءً، فإنَّ نظمَها هذا سيكونُ على وجهِ العمومِ عُرضةً للزَّوال، ما لم يتوفَّر لديها عنصرٌ أو عناصرُ تُمكِّنُها من تأجيلِ هذا الفناءِ المحتوم. وهذا النَّظمُ العامُّ للأشياء يُغطِّي بعموميَّتِه الأقانيمَ الثَّلاثة: فهناك نظمُ العالَم، الذي يشمل كلَّ ذرَّاتِ العالم المادِّي وقواه الرَّئيسيَّة؛ وهناك نظمُ العقل، الذي يشمل كلَّ خلايا الدُّماغ وشبكاتِه العصبيَّة المتكوِّنة على مرِّ التَّجارِبِ والأيَّام؛ وهناك كذلك نظمُ اللُّغة، الذي يشمل كافَّةِ تعالُقِ الحروفِ والكلمات وفقَ سياقاتٍ محدَّدة.
وهذا الانتظامُ الأخير هو الذي يحظى باهتمامٍ كبير داخل اللُّغاتِ السَّائدة على ظهرِ هذا الكوكب. وفي داخل اللُّغة العربيَّة، يتمُّ التَّعارضُ تارةً بين النَّظمِ والنَّثر، وتارةً أخرى بين النَّظمِ والشِّعر (هذا غير المقابلة الرَّئيسيَّة بين النَّثرِ والشِّعر)، بمعنى أنَّ النَّظمَ هو ترتيبُ التَّفعيلة وفقَ أبحرِ الخليل ابن أحمد المعروفة أو إعادة ترتيبها أو نثرها وفقَ فهمٍ جديد، على أن يكون الشِّعرُ هو الأمرُ الإضافيُّ الإبداعي، الذي قد يخلو النَّظمُ منه أو يُفرهِدُ من خلاله، سواءً اتَّبعَ أبحُرِ الفراهيدي أو تخلَّى عنها بتصوُّرٍ نظميٍّ جديد. بهذا المعنى، يمكن أن يكون هناك نظمٌ شعريٌّ، مثلما أنَّ من الممكن أيضاً أن يكون هناك نظمٌ نثري. ففي واقع الأمر، لا تخلو اللُّغةُ (أو العقل أو العالم) من ثمَّةَ انتظامٍ ما، ما لم يَسرِ عليه (أي هذا الانتظام) قانون الإنتروبيا بالتَّقادم، وهو ما يُمليه المبدأ الثَّاني للدِّيناميكيَّة الحراريَّة.
وقد سعى من قبلُ عبدُ القاهرِ الجُرجاني، نافذُ البصيرة (على حدِّ تعبير طه حسين) أن يستخرِجَ من قواعد اللُّغة نظماً مخصوصاً، فأنشأَ بمفردِه عِلمَيِ البيان (أسرار البلاغة) والمعاني (دلائل الإعجاز) داخل البلاغة العربيَّة. إِلَّا أنَّ النَّظمَ ليس بوقفٍ على البلاغة وحدها، بل يشملُ أُقنومَ اللُّغةِ بمجمله، علاوةً على أُقنومَي العقل والعالمِ المادِّيِّ على وجه الإطلاق، غير أنَّه مهدَّدٌ على الدَّوامِ بالزَّوالِ، ما لم يتجدَّدِ الانتظامُ فينسربُ نهاراً أو يسري ليلاً، فينفلتُ من إسارِ الحقيقة بالاقترابِ حثيثاً من مقام الحق، الذي لا يقوى حتَّى القانونُ الثَّاني للدِّيناميكيَّة الحراريَّة على الاقتراب منه، ناهيك عن تهديده بالزَّوالِ أوِ الفَناءِ الأبدي. فما هو إذاً هذا النَّظم وكيف يعملُ القانونُ الثَّاني على الإطاحةِ به مع مرور الوقت؟
نتوجَّه في هذا المقال إلى الجذر "ن. ظ. م" أو (نون ظاء ميم) ونشتقُّ منه مصطلحَي "نظم" و "انتظام"، حيث يُشيرُ الأوَّلُ ضِمناً إلى فاعلٍ مخصوص، بينما يُشيرُ الثَّاني ضِمناً إلى حدوثِ الفعلِ من تلقاءِ نفسِه؛ وهذا جدلٌ لا نستطيعُ في إطارِ الحقيقةِ حسمَه؛ فمن شاء أن يؤمن ويعتقد أنَّ للأشياءِ فاعلاً يُحدِثُها، فليفعل؛ ومن شاء أن يظُنَّ أنَّها تحدُثُ من تلقاء نفسها، فهو مُخيَّرٌ في ظنِّه؛ فالخيارُ الأوَّلُ يُمليه توجُّهٌ نحو الحقِّ ولا سبيلَ إلى إثباتِه في إطارِ الحقيقة؛ أمَّا الخيارُ الثَّاني فهو ظنٌّ عِلميٌّ لا سبيلَ إلى مجادلته بأسلوبٍ غيرِ علمي، كما يفعل دعاةُ "التَّصميم الذَّكي" (إنتيليجنت ديزاين). وما يهمُّنا في إطار الحقيقة هو تعرُّضُ "النَّظمِ" أو "الانتظامِ" معاً إلى الإنتروبيا أو قانون الزَّوال أو عدم الانتظام الذي فرضه المبدأ الثَّاني للدِّيناميكيَّة الحراريَّة؛ وسوف ننظر في مدى مقاومة الأشياء لهذا القانون، وربَّما استشففنا منها ما يقودُ خِلسةً إلى الاستضاءةِ بقبسٍ من نورِ الحق.
إذا ترك أحدُنا بيتاً (أسعدَه "حظٌّ" دنيويٌّ بامتلاكِه) لفترةٍ من غير صيانة، فسوف يبدأ بالتَّهاوي من تلقاء نفسه ويُصبِحُ بعد فترةٍ قصيرة آئلاً للسُّقوط؛ وإذا ترك نبتةً من غيرِ سُقيةٍ، فسوف تذبُلُ ثمَّ تموت؛ وإذا ترك كوباً ساخناً على منضدةٍ، فسوف يفقدُ حرارتَه لتتساوى مع حرارةِ المنضدة والبيئة المحيطةِ بها. وفي كلِّ هذه الحالاتِ الثَّلاث، لن يحدُثَ العكس إِلَّا بتدخُّلٍ خارجي: فالبيتُ لن يرجع إلى حالتِه الأولى من تلقاء نفسِه؛ والنَّبتةُ لن تنمو وتزدهرُ من غير عنايةٍ بها؛ والكوبُ لن يرجعَ ساخناً مثلما كان أوَّلَ مرَّةٍ من غيرِ تسخين. فهذا هو باختصارٍ مُخِلٍّ فحوى "الإنتروبي" (القصور الحراري) وازدياد مقداره الذي ينصُّ عليه القانون الثَّاني للدِّيناميكيَّةِ الحراريِّة؛ وما يُميِّزُ هذا القانونَ على غيره من القوانينِ العلميَّةِ الرَّئيسيَّة هو أنَّه غيرُ قابلٍ للتَّصوُّرِ العكسي (نونكميوتابل)، الأمر الذي يُنصِّبُه مقياساً وحيداً للحركة الأماميَّة للزَّمن؛ وهو ما يبرِّر مجاز "سهم الزَّمن" في التَّعبير العلمي - لاختلافِ رأسِه عن ذيله، مثلما يُبرِّرُ أيضاً ظاهرة البكاء على الأطلال في الشِّعرِ العربيِّ الكلاسيكي ("قِفا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ").
يضربُ اللهُ الأمثالَ في القرآنِ ويحثُّ النّاسَ على الإيمانِ به والحضِّ على طاعته؛ ولو كان يُريدُ إقناعَ النَّاسِ على وجهٍ برهانيٍّ، لفعل؛ فهو يعلمُ والنَّاسُ لا يعلمون، كما جاء في سورة "النَّحل"، الآية رقم (74)؛ وعوضاً عن ذلك، تحدَّى النَّاسَ، كلَّ النَّاسِ، بالقرآنِ نفسِه: "قل لئنِ اجتمعتِ الإنسُ والجنُّ على أن يأتوا بمثلِ هذا القرآنِ لا يأتونَ بمثلِهِ ولو كان بعضُهم لبعضٍ ظهيراً"؛ سورة "الإسراء"، الآية رقم "٨٨"؛ وبعشرِ سُوَرٍ مثله، ثمَّ سورةٍ واحدةٍ مثله، فيعجزُ النَّاسُ عنِ الإتيانِ بمثلِه؛ وما سرُّ هذا العجزِ إِلَّا لأنَّ القرآنَ نظمٌ مخصوص، قادرٌ على مقاومة ابتلاءاتِ الزَّمنِ الذي ينسفُ حجارةَ الجبالِ، ويعصفُ بشبكاتِ الأدمغة، ويُجفِّفُ عصارة الأحرفِ ورحيقِ الكلمات؛ والنَّاسُ، في المقابلِ، خاضعونَ لتأثيرِ الزَّمن والانصياعِ التَّامِّ لمقتضياتِ القانونِ الثَّاني للدِّيناميكيَّةِ الحراريَّة.
في كتابِه "من حديث الشِّعرِ والنَّثر"، انتبه طه حسين، نافذُ البصيرةِ هو الآخرُ رغم اعتلالٍ في البصر، أنَّ القرآنَ "وحيدٌ في بابِه"، فهو "ليس نثراً، كما أنَّه ليس شعراً، إنَّما هو قرآن، ولا يمكن أن يُسَمَّى بغيرِ هذا الاسم؛ ليس شعراً - وهذا واضحٌ - فهو لم يتقيَّد بقيودِ الشِّعر. وليس نثراً، لأنَّه مقيَّدٌ بقيودٍ خاصَّةٍ به، لا تُوجَدُ في غيره". بمعنًى آخر، هو نظمٌ مخصوصٌ صَمَدَ أمام عادِيَاتِ الزَّمان؛ وسيصمدُ بكيفيَّةٍ تفوقُ صلابة الصُّخور: "لو أنزلنا هذا القرآنَ على جبلٍ لرأيتَهُ خاشعاً متصدِّعاً من خشية الله"؛ سورة "الحشر"، الآية رقم (21)؛ وبكيفيَّةٍ تفوقُ مرونةَ الحامضِ النَّوويِّ الرِّيبيِّ منقوصِ الأُكسجين "دي إن إيه" في أُقنومِ العالم؛ وقوَّةَ الذَّاكرة الجمعيَّة في أُقنومِ العقل؛ وطواعِيَةَ الأحرفِ والكلماتِ وقدرتَها الفائقة على البقاءِ في أُقنومِ اللُّغة.
في حلقةٍ مُكَمِّلةٍ لهذا المقال، سنُسَلِّطُ مزيداً من الضَّوءِ على نظريَّةِ النَّظم عند عبد القاهر الجُرجاني، خصوصاً في علاقتها بما نُسمِّيه بالأقانيمِ الثَّلاثة؛ كما سنتطرَّقُ إلى نظريَّة لودفيغ بولتسمَن بشأنِ "سهمِ الزَّمنِ"، مُركِّزينَ فيها على بصيصٍ قد يُعينُ على الاهتداءِ إلى الحقِّ والاستضاءةِ بقبسٍ من نورِه.
شارك هذا الموضوع: