مسألة
د. مرتضى الغالي
تحقيق صحفي رصين ضرب على الوتر الصحيح والنغمة (الماستر) وخلص بعد بحث ونقيب واستقصاء إلى وصف انقلاب البرهان وجماعته بأنه (عبث مع الجيل الخطأ)..!!
هذا التحقيق الذي أعده زميلنا الصحفي الشاب “مصطفي سعيد” أسعد الله أيامه- وضع الانقلاب في (فتيل)..! وأوضح حتمية هزيمته واندحاره.. وتدرّج بموضوعية ابتدأت بالتعريف بطبيعة الفاعلين في الساحة السياسية والاجتماعية ووضع تحت المجهر متوسط أعمار الشباب المشاركين في الاحتجاجات- وهم أنفسهم الذين أوقدوا شعلة الثورة المباركة التي يتفادى ذكر اسمها الفلول وجماعة الانقلاب.. وقام بتصنيف دقيق عبر مناهج العينات المُعتمدة في البحوث على مدرّجات عمرية لمن هم دون العشرين وما فوقها؛.. وأورد بالأرقام النسبة المئوية للشباب من جملة السكان؛ ثم تناول التحقيق عبر مختصين في علم الاجتماع والانثربولوجيا التغيير الذي طرأ على بنية العقلية السودانية وخروجها من مربع الاستسلام إلى مربع المقاومة المدنية للانقلابات.. وشيوع الوعي الجديد ومحفّزات الحراك الوطني العام الذي تمثل منذ سنوات في العديد من المجموعات الشبابية التي قدمت مبادرات عديدة في المجالات السياسية والاجتماعية والصحية والخدمية..ولهذا لا تزال عيون جماعة انقلاب البرهان تكاد تخرج من محاجرها وقد أخذت الدهشة بتلابيبهم حتى ارتجفت (عراقيبهم) ولسان حالهم يقول: ما بال هؤلاء الشباب يخرجون كل يوم في مواجهة الموت ورصاص القنص والمجنزرات ليطالبوا بالحرية والعدالة والسلام.. وجيوبهم خاوية وبطونهم طاوية يسيرون على أرجلهم وليس هناك من يرفدهم (بسبائط الموز وسندوتشات الهمبرغر) وليس لديهم سيارات (مكندشة) مثل التي تنتظر (المسيرات المكرية) بالنقدية..؟!
ينتقل التحقيق إلى حقيقة أن الأجيال صغيرة السن التي تقود احتجاجات اليوم ولدت خلال حقبة نظام عسكري ديكتاتوري (في غاية الرعونة) فكيف لها أن تطالب بالحكم المدني الديمقراطي الذي لم تره في حياتها..؟! ثم عبر الاستبيان والتساؤل والبراهين العلمية يصل التحقيق إلى أن التفسير يكمن في أنهم طالعوا بأعينهم الفشل الذي حاق ببلادهم نتيجة عقود حكم الإنقاذ الشمولي الاستبدادي الجاهل (الأخرق) الذي سرق وطنهم وأعمارهم ومستقبلهم.. لذا كان قرارهم عدم السماح بتكرار الفشل والاستكانة لهذا الأفق المسدود..! وخلاصة ما أيقنوا به أن السكوت على هذا الاستبداد أعلى تكلفة من مقاومته..! فاختاروا التعامل مع أصول المشكلة وجذورها وليس ظواهرها وأعراضها وقشورها..! ويلخص “مدني عباس مدني” من حيث اختصاصه بعلم الاجتماع موقفهم هذا بأنهم يرون: (أن هناك فاتورة ينبغي دفعها عاجلاً؛ ومن الأفضل أن تُدفع مرة واحدة بدلاً من التقسيط)…!!
لقد استفاد هذا الجيل كما أبان التحقيق من مزايا التطور الاتصالي والثورة التكنولوجية الرابعة.. وبالرغم من رداءة التعليم في السودان خلال عهد الإنقاذ الأسود إلا أن ثورة المعلومات والطفرة الرقمية كانت شديدة الزخم بحيث شحذت قدرات الشباب على التنظيم الجماعي (العابر للانتماءات السياسية) والمتجاوز للتصنيفات المريضة التي تعوّل على الطبقة الاجتماعية والجندر والجهة والفئة والسن.. كما أبانت مصادر التحقيق عن إدراك الشباب لسوالب تاريخنا السياسي والاجتماعي.. علاوة على تميزهم بالمبادرة والمصداقية العالية والشفافية والجسارة والإبداع.. وابتداع الحلول والمرونة واتخاذ القرارات الفورية والسيناريوهات البديلة عند الحاجة (swift decisions) وتقسيم المهام إلى إستراتيجية وتخطيطية، وفكرية، وحركية، وتقنية واتصالية أو تلك الخاصة بالتوقيت والتنظيم والتحشيد وبالإبداعات والفنون والرموز والتنغيم وصياغة الشعارات.. الخ..
هل تعلم يا صديقي في هذا السياق أن عساكر الانقلاب ومليشياته استخدموا ضد المحتجين السلميين بنادق الخرطوش التي يطلق عليها (السُكسُك) وهو سلاح لصيد الحيوانات البرية..؟! لقد اجري هذا التحقيق الصحفي مسحاً لميادين الاحتجاج وأساليب البطش الذي قابل بها وحوش الانقلاب هذا الاحتجاج السلمي..وعقد مقابلات مباشرة مع ضحايا العنف للتعرّف على المصابين الذين بطش بهم الانقلاب وأنواع إصاباتهم وترجيح السلاح المُستخدم فيها.. ومشاعرهم بعد التعرّض للإصابات وإصرارهم على مواصلة المقاومة وهم يستمدون أيمانهم بالثورة من وقفة الشهيد “عبد العظيم أبوبكر” ورفقائه أمام الموت وتلويحهم بعلامة النصر في وجه قاتلهم..! إنه جيل يسعي للحياة بقلوب ربيعية لا ترضى بغير الحرية والكرامة…! هذا لا يستطيع أن يفهمه جماعة البرهان وجبريل وأردول والتجاني السيسي..!!
(هذا عبث مع الجيل الخطأ) كما يخلص التحقيق الذي يشير إلى انه بالرغم من تطور حملات القمع والقتل إلا أنها لم تخرس أصوات الفتيات والفتيان.. بل لقد زاد القمع الوحشي من وحدة المقاومة وعنفوانها… إنهم يؤكدون إنها ثورة عظمى لا تخبو بالملاحقة ولا يعتريها إحباط..! حيث أنها (ثورة وعي) تزداد قوة ورسوخاً على مر الأيام.. فهي ليست حدثاً عابراً ينجح أو يفشل.. بل صيرورة وحتمية ومسارات ما تلبث أن تصاعد من الوهاد إلى القمم..! هذا شباب من الجنسين.. رشيق ومثقف و(رقمي).. ذكي وجسور .. حقا هذا الانقلاب وكل مؤامرات الفلول ما هي إلا لعبة خاسرة أمام الجيل الخطأ..هؤلاء الشباب هم من سيسكّر الباب للأبد أمام الوصول للسلطة عبر الدبابات.. وسيكون انقلاب البرهان هذا بإذن الله (الذيل الأجرب) لآخر (ظربان) في الحياة السودانية…!
لشد ما كان الصحفي الباحث الشاب مصطفي سعيد موفقاً في هذا التحقيق الرزين وهو يفسّر مأثرة أبناء جيله.. فهو منهم.. يتحدث عما يعيشه ويعرفه.. ( أنا ابن هذي الدار انظر ما بها: وسواي ينظر من شقوق البابِ).. فتح الله عليك..! هذا تحقيق أريب يزدهي ببشريات الصمود والانتصار ويحسو التراب والرماد في وجه الانقلاب القبيح ووجوه الفلول (السنيحة)..!!
murtadamore@yahoo.com
شارك هذا الموضوع: