في ساعةٍ مبكِّرة من صباح إضراب "سودانير" الشَّهير في منتصف الثَّمانينيَّات، احتشد عددٌ من الموظَّفين بنادي "الخطوط"، استعداداً للتَّحضير لأوَّل أيَّامِ الإضراب؛ ومن ضمنه، كتابة الشِّعارات الورقيَّة ولافتات القماش الضَّخمة الَّتي ستُعلَّق عبرَ عُرضِ الشَّارع الرَّئيسي المواجه لمدخل النَّادي، وذلك للفتِ الانتباه وكسب تعاطف المارَّة وسائقي السيَّارات والحافلات. وتسترجعُ الذَّاكرةُ أنَّه بعد دقائقَ قليلة من دخولنا للنَّادي، طلب مِنَّا (النَّيَّل الشِّيخ وشخصي) أحدُ الخطَّاطين الذَّهاب إلى سوق الخرطوم لإحضارِ صُباعاتٍ حمراءَ وبنفسجيَّة؛ وبروحٍ رفاقيَّة ميَّزت طيلةَ أيَّامِ الإضراب، أعطانا ذلك الخطَّاطُ مفتاحَ سيَّارتِه، وناشدنا الإسراعَ حتَّى يتمكَّن من إنجاز المَهمَّة وتعليق اللَّافتة القماشيَّة قبل وقتِ الذَّروةِ الصَّباحيَّة لحركةِ السَّيَّارات المتَّجهة شمالاً على طول شارع المك نمر، والذَّاهبة في الاتِّجاه المعاكس إلى "نمرة اتنين" والامتداد والعمارات. ولم ينسَ الخطَّاط أن يصِفَ لنا مكانَ بائعٍ بعينِه متخصِّصٍ في التِّجارة بالتَّجزئة لأدواتِ الحِدادة والسَّمكرة والنِّجارة والطِّلاء والفُرَش والألوان، سواءً كانت جديدةً أو مستعمَلة.
بالفعل، وجدنا البائع المقصود في المكان الَّذي حدَّده لنا الخطَّاط، وهو رصيفٌ يقعُ على الجانبِ الجنوبيِّ من شارع الجمهوريَّة، بالقربِ من ساحةٍ خلف زنكِ الخُضار، تفتحُ من الجهتين الشَّرقيَّة والغربيَّة على مطاعمَ شعبيَّةٍ تكتظُّ بالعمَّال الحِرَفيِّين الَّذين عادةً ما يتناولون وجباتِ الإفطارِ باكراً، استعداداً لبدءِ يومِ العمل. وقد جلس البائعُ البدين، وهو في مُقتَبلِ العُمُر، مُسنِداً ظهرَه على كابينة عربةٍ متَّجهة نحو الشَّرق ووجهه صوب الغرب، على كرسيٍّ فوقَ أرضيَّةِ
عربةِ فولوكسواجن بولمان، أُزيلَ سقفُ خلفيِّتها، وقُصِّرت جدرانُها الجانبيَّة، وأُنزِلَ بابُها الخلفيُّ، لِتُصبِحَ الأدواتُ مفروشةً أمامه في العربةِ على مرأًى من الزَّبائنِ وفي متناولِ أيدي المُشترين. ومن أوَّلِ وهلةٍ، أبصرت أعيُننا صُباعاتٍ حمراءَ وأخرى مختلفةَ الألوان، إلَّا أنَّنا لم نُبصِر بينها اللَّونَ البنفسجيَّ الَّذي شدَّد في طلبِه زميلُنا الخطَّاط؛ فطلبنا من البائع أن يدُلَّنا على متجرٍ آخرَ يُمكِنُ أن نجِدَ فيه هذا اللَّونَ الرُّومانسيَّ المراوِغ. لم يخذلنا البائعُ الهميم، بل شرع بحماسٍ متدفِّق في وصفٍ دقيق لمكانٍ يقع غرباً وعلى مقرُبةٍ من ساحة جمال عبد النَّاصر، الَّتي كانت في السَّابق محطَّةً وسطى يقفُ بها التُّرام، ويُزيُّنها مقهًى يعمُره السَّاسةُ والمثقَّفون والخرِّيجون والطَّلابُ الباحثون عن وظائفَ تحت بندِ العطالة، فأغلقته السُّلطةُ الدِّكتاتوريَّةُ الثَّانية، خَشيةَ أن يسعى روَّادُه إلى تأليبِ النَّاسِ وتحريضِهم على إشعالِ المظاهراتِ وتنظيمِ الإضراباتِ والأعمالِ المعادية للحكومةِ العسكريَّة.
كان وصفُ البائعِ للمكانِ المطلوبِ جليَّاً وواضحاً، إلَّا أنَّ به عيباً أشدَّ جلاءً ووضوحاً؛ وهو أنَّ الأوصاف الَّتي ذكرها لنا لا تتطابقُ مع الخارطةِ الواقعيَّة الرَّاهنة للمكان؛ فبدلاً من محلِّ المطعم، يُوجَدُ مكتبٌ للحجز تابعاً للخطوط الجويَّة (وهو مكانٌ نعرفه كما نعرفُ جوعَ البطنِ، خصوصاً حينما يُدغدِغُها أملٌ بسدِّ الرَّمَقِ من مطعمٍ مجاوِر)؛ وفي مكانِ الحلَّاق، يُوجَدُ فرعٌ لبنك فيصل؛ وبدلاً من مكان التَّرزي، يُوجَدُ فرعٌ لبنك النِّيلين؛ أمَّا في محلِّ المكانِ الموصوف، عبر شارع البرلمان، فيُوجَدُ مكانٌ لبيعِ الأقمشة، عِوضاً عن الفُرَشِ والألوان. وكُنَّا نُرغي ونُزبِدُ ونؤشِّرُ بأيدينا، طالبينَ من البائعِ الهميم أن يلتفتَ إلى الشَّرقِ هُنَيهَةً لِيفقَه عنَّا ما نقول، إلَّا أنَّه ظلَّ ثابتاً في مكانه لا يتزحزج، ويُصِرُّ على تَردادِ ما قدَّمه لنا مُسبقاً من وصفٍ مفارِقٍ لواقعِ الحال. عندها، ضاق النَّيَّل الشِّيخ ذرعاً، وقال لي دعْكَ منه، فإنَّ أمامنا مشواراً طويلاً وإضراباً مفتوحاً، ووظائفَ تتأرجحُ على حبلٍ مهترٍ؛ وهذا الرَّجلُ يُضيِّعُ وقتنا، ويلعبُ بأعصابنا. إلَّا أنَّنا مع ذلك، وبروحٍ توافقيَّة عزَّزها سياقُ المفاوضاتِ المُصاحبِ للإضراب، توصَّلنا إلى
أهميَّةِ تقصِّي الأمر بالذَّهاب إلى المكانِ الموصوف وتحرِّي أمرِه، مهما كلَّفنا ذلك من وقتٍ نحنُ في أشدِّ الحاجةِ إلى استثمارِ كلِّ ثانيةٍ منه.
عندما وصلنا إلى المكانِ المقصود عبر شارع البرلمان، وجدناه مكاناً نظيفاً، تتدلَّى من سقفه العالي مروحتانِ؛ وبه بابان واسعانِ يفتحانِ غرباً وجنوباً، على مقرُبةٍ من مصلحة الإحصاء. سألنا صاحب الدُّكان، الَّذي تمتلئُ رفوفُه بالأقمشة الفاخرة، إن كان لديه صُباعاتٌ لألوانٍ زيتيَّة، وخصوصاً إن كان لديه منها صُباعاتٌ بنفسجيَّة. حدَّق التَّاجرُ في وجوهنا، وشاور نفسَه مراراً أإن كان يتعيَّن عليه الإدلاءُ أصلاً بإجابةٍ على سؤالنِا العبثي، لكنَّه أجابَ في نهايةِ الأمر ببرودٍ بالنَّفي؛ فقلنا له أليسَ هذا المحلُّ ملكاً لفلان (وهو الاسمُ الَّذي زوَّدنا به البائعُ الهميم)؟ فأجابَ بالنَّفي؛ وعندما قلنا له أليس هذا المحلُّ المقابل له عبر الشَّارع مكاناً للتَّرزي فلان الفلاني، نهض رجلٌ كبيرُ السِّنِّ كان يجلسُ على كرسيٍّ في داخل الدُّكان، وقال: مَن أنتما؟ وأيُّ ريحٍ أتتْ بكما إلى هذا المكان؟ ومن أيِّ عصرٍ أنتما قادمَين؟ هذا المكانُ بالفعل كان ملكاً لفلان، وكان محلَّاً لبيع الأدوات المكتبيَّة وبه ما تطلُبانِ الآن من أقلامٍ ملوَّنة أو صُباعات؛ وذاك المحلُّ عبر الشَّارع كان يملكه ترزيٌّ مشهور لتفصيل البِدَل والبناطلين والقمصان؛ إلَّا أنَّ ذاك زماناً بعيداً بعيدا، وأقربُ تقديرٍ له منتصفُ الأربعينيَّات (أيُّ قبل حوالي أربعين عاماً!).
إنْ قلتُ لكم إنَّا ذُهِلنا، لكانَ ذلك تبخيساً صارخاً لهَولِ المفاجأة. ومع ذلك، فقد رجعنا بصُباعاتِنا الحمراء إلى مركز الإضراب؛ إلَّا أنَّ هذه "الحادثة" ظلَّت طَوالَ العُمُرِ خطَّاً أحمرَ لِما ينبغي أن تكونَ عليه حدودُ التَّعلُّم وبناء الشَّخصيَّة وتنمية الذَّاكرة والهُوِيَّة الفرديَّة، ومن ثَمَّ تعميمُ ذلك على مآلاتِ الثَّقافة وتكوين الهُوِيَّة الوطنيَّة. فذلك الرَّجلُ الهميم قد اتَّخذَ له مكاناً إستراتيجيَّاً في قلب العاصمة القوميَّة، تمرُّ من بين يديهِ حركةٌ رائجة للسَّيَّاراتِ والحافلاتِ المسرِعة، ويتقاطرُ من حوله باعةٌ وسابلة، ويتفاوضُ معه مُشترون ومتطلِّعون لتزجيةِ الوقتِ تسكُّعاً بين الطُّرقات، تناسياً لبعضِ المشكلاتِ الأُسريَّة. ومع ذلك كلِّه، تتجمَّدُ هُويَّتُه عند حقبةٍ بعينِها، ولا ترتسمُ
في ذاكرتِه سوى ملامحَ ثابتة لعهدٍ ولَّى منذُ زمنٍ سحيق. فما الَّذي جرى لهذا الرَّجلِ الهميم؟ وكيف جافاهُ التَّعلُّمُ وأبت ذاكرتُه أن تستضيفَ الرَّاهنَ واليوميَّ إلى معالجاتِها المستمرَّة؟ ولماذا تفشلُ ذاكرتُه القصيرةُ المدى في إضافةِ ما أثمرت من تجاربَ ولا تنتخبُ إلى مخزنِها العامرِ سوى ما فاتَ زمانُه أو قضى نحبُه، وكأنَّها مخزنٌ للعاديَّات وليس جهازاً دينامِيَّاً للمعالجة والغربلة والحفظ والتَّجديد؟ لم يكن لدينا إجاباتٌ مُقنِعة على هذه الأسئلة، إلى أن نما إلى عِلمنا حالةُ ما عُرِفَ في الأوساط العلميَّة بحروفِ اسمِهِ الأولى "إتش إم" (هاء ميم)، ومنه جاء تَكرارُ وَصفِنا أعلاهُ للرَّجلِ، بائعِ الأصباعِ والخُردةِ، بالهميم.
تعرَّض "هاء ميم"، عندما كان في التَّاسعة من عُمُرِه، إلى حادثٍ أدَّى إلى ارتجاجٍ في رأسِه تسبَّب في إصابته بداء الصَّرْع، الَّذي اشتدَّت نوباتُه مع تقدُّم سنِّه؛ وعندما بلغ سنَّ السَّابعة والعشرين، اضطَّر طبيبُه في عام ١٩٥٣، كإجراءٍ أخير، إلى إزالة السَّطح الدَّاخليِّ لوسط الفصِّ الصَّدغي على كلا جانبَي الدُّماغ، إضافةً إلى إزالة قرن آمون الَّذي يُوجَدُ في جوفِ نفسِ الفص. وبالفعل، نجحتِ العمليَّة في معالجةِ الدَّاء، إلَّا أنَّها تسبَّبت في فقدان ذاكرة، لم يبرأ منه "هاء ميم" طيلة العُمُر؛ صحيحٌ أنَّه لم يفقد ذكاءهُ أو تتأثَّر شخصيَّته المرِحة بعد العمليَّة، لكنَّه فقد القدرة على تحويل ما يتذكَّره لِيُصبِحَ جزءاً من ذاكرتِه الطَّويلةِ المدى، الَّتي لم تعُدْ تحتفطُ إلَّا بما تعلَّمَه ومرَّ به من تجاربَ قبل إجراء العمليَّة. ولم يعُدْ "هاء ميم" قادراً على التَّعرُّف على الصُّور الفوتوغرافيَّة الَّتي أُخِذت له مؤخَّراً أو حتَّى التَّعرُّف على صورتِه في المرآة، إذ إنَّ ذاكرته الدَّائمة لم تعُد تحتفظُ إلَّا بملامحِه الثَّابتة قبل العمليَّة. ومع ذلك، احتفظ "هاء ميم" بقدرةٍ عاديَّة على التَّعلُّم الشَّرطيِّ وترسيخ العادات واكتساب المهارات، إلَّا أنَّه لم يكن قادراً على تذكُّر الأنشطة الَّتي قادت إليها في المقام الأوَّل، إذ إنَّه أصبح ينسى الوقائعَ بعد مُضي دقائقَ على حدوثِها أو انصرافِ انتباهِه إلى غيرِها. باختصار، يُمكِنُ القولُ إنَّ هُوِيَّة "إتش إم" تجمَّدت منذ حقبة ما قبل العمليَّة.
لفتت حالة "إتش إم" (هاء ميم) انتباهَ كثيرٍ من المُتخصِّصين في علم النَّفس العصبي؛ وبشكلٍ خاصٍّ، اهتمَّت بها العالِمةُ البريطانيَّة-الكنديَّة بريندا ميلنر، الَّتي درست حالته لأكثر من 30 عاماً، توصَّلت خلالها إلى اكتشافاتٍ متعلِّقة بالذَّاكرة باعتبارها وظيفةً متميِّزة عن بقيَّة القدرات العقليَّة الأخرى، كالإدراك والحركة. إضافةً إلى ذلك، اكتشفت ميلنر أنَّ للذَّاكرةِ القصيرةِ المدى مكاناً منفصلاً في الدُّماغ عن الذَّاكرة الطَّويلةِ المدى، وأنَّ فقدان قرن آمون وأجزاءً من الفصِّ الصَّدغي، كما في حالة "هاء ميم"، يُؤدِّي إلى شلِّ القدرة على تحويل المحتويات الطَّازجة للذَّاكرةِ القصيرةِ المدى إلى محتوياتٍ جديدة للذَّاكرةِ الطَّويلةِ المدى، من غير أن تتأثَّر محتوياتُها القديمة بذلك الفقدان، لكنَّه يُؤدِّي فقط إلى تجميدِها عند سَعَةٍ محدَّدة، لأنَّها لم تعُد تقبَلُ، جرَّاءَ الفقدِ، محتوياتٍ جديدة. ومن النَّتائج الَّتي توصَّلت إليها ميلنر أيضاً من دراسةِ حالة "هاء ميم"، أنَّ هناك نوعينِ من الذَّاكرة: ذاكرة جليَّة واعية وأخرى لاواعية ضمنيَّة؛ الأولى تبدأ من تحويل محتويات الذَّاكرة القصيرةِ المدى من قرن آمون إلى الأمكنة الملائمة لها في قشرة الدُّماغ؛ على سبيل المثال، تخزين المحتويات البصريَّة في القشرة البصريَّة، والسَّمعيَّة في القشرة السَّمعيَّة، وهكذا؛ أمَّا الثَّانية (أي الذَّاكرة الضِّمنيَّة)، فإنَّ محتوياتِها تُخَزَّنُ خارج القشرة الدُّماغيَّة، في أماكنَ مثل اللَّوزة، والمُخَطَّط، والمُخَيخ. بمعنًى آخر، فإنَّ التَّعلُّمَ الشَّرطيَّ واكتسابَ المهاراتِ وترسيخَ العاداتِ يتمُّ معالجتُها وتخزينُها في مكانٍ في الدُّماغ، بينما يتمُّ التَّعرُّف على الأفراد والموضوعاتِ والأماكن والوقائع والأحداث ومعالجة البيانات الواردة بشأنِها وتخزينِها في مكانٍ آخرَ فيه (أي الدُّماغ).
لهذه النَّتائج الَّتي توصَّلت إليها ميلنر أهميَّةٌ قصوى في تفهُّم حالة الرَّجل الهميم، ورسم صورةٍ ليس لهُويَّته الفرديَّة فقط، وإنَّما للهُويَّة الثَّقافيَّة لمجتمعه على وجه التَّعميم. إلَّا أنَّه قبل توضيح هذه النُّقطة المِفصليَّة، ينبغي أن نستعرِضَ طريقتينِ شهيرتينِ لإنتاج المعرفة: الأولى تُستخدَمُ
في المنطق والرِّياضيَّات، وتُسمَّى الاستنتاج، وتعتمدُ الاستنادَ إلى مُسَلَّماتٍ أو تعميماتٍ غير مُثبَتةٍ، تُستنبَطُ منها نتائجُ لا يُمكِنُ دحضُها ما دام أنَّه قد تمَّ قبولُ تلك التَّعميماتِ أو المُسَلَّماتِ في المقامِ الأوَّل؛ والطَّريقة الثَّانية تُستخدَمُ في العلوم الطَّبيعيَّة، وتُسمَّى الاستقراء، وتعتمدُ فحصَ ودراسةَ حالاتٍ منفردة، للاستيقانِ من اطِّرادِ نتائجِها، ومن ثمَّ تعميمها أو صياغتها في شكلِ قانونٍ أو نظريَّةٍ علميَّة، تظلُّ عاملةً إلى أنْ يتمَّ دحضُها واستبدالُها بأخرى أكثرَ قدرةً على تفسير الحالاتِ اللَّاحقة وتوضيحها. غنيٌّ عن القول إنَّ طريقة الاستدلال الاستنتاجيِّ هي أكثرُ دِقَّةً وانضباطاً، إلَّا أنَّ بها عيباً قاتلاً؛ إذْ إنَّها، على دِقَّتِها وصوابِها الَّذي لا نزاعَ حوله، لا تضيفُ معلومةً جديدة لِما تمَّ التَّوصُّل إليه أوَّلاً. ومن أمثلته الشَّهيرة الحشو أو التَّكرار أو تحصيل الحاصل أو تفسير الماء، بعد جَهْدٍ جهيدٍ، بالماء. في المقابل، لا يمكن الاستيقان النِّهائيُّ من نتائج العلم، ولكنَّها على تدنِّي درجة الوثوق بها وارتفاع درجة قابليَّتها للخطأ، فإنَّها أكثرُ فائدةً من تحصيل الحاصل، لِما لها من قدرةٍ على إضافةِ معلوماتٍ جديدة؛ فإذا أخذنا مثال الماء، فإنَّه بتحليل العلماء لمكوِّناته الأساسيَّة، وهي الهايدروجين والأكسجين، انفتح أمامهم أفقٌ للاستكشاف ما زال مُشرَعَاً؛ فالهايدروجين له ثلاثُة نظائر، يدخلُ واحدٌ منها في تكوين الماء الثَّقيل، الَّذي يُستخدَمُ في أجهزة التَّبريد والمُفاعِلات النَّوويَّة وتحليل الأشعَّة دون الحمراء.
من سوء الطَّالع، أنَّ الطَّريقة السَّائدة لتناول موضوع الهُوِيَّة السُّودانيَّة، هي الطَّريقة المنطقيَّة والرِّياضيَّة الَّتي تجعلُ السِّينَ سيناً والصَّادَ صاداً، مهما اختلف موقعُهما داخل المعادلة؛ وهي الَّتي تجعلُ العربيَّ عربيَّاً والأفريقيَّ أفريقيَّاً، مهما اختلطتِ الدِّماء؛ وهي الَّتي تجعلُ المسلمَ مسلماً والكافرَ كافراً، مهما طرأ على الشَّخصِ من تحوُّلات. في المقابل، لا توفِّر الطَّريقة العِلميَّة حلَّاً ناجعاً لمُشكِل الهُوِيَّة، ولكنَّها تفتحُ أفقاً للتَّفاكرِ والتَّحاورِ وتقليبِ الخيارات. إلَّا أنَّ الأمر الحاسم في تناول هذه القضيَّة هو إدخالُ ملامحَ وخصوصيَّاتٍ لا تدخل في العادة، مع سيادة الطَّريقة المنطقيَّة والرِّياضيَّة، في السَّبرِ والتَّقسيم، فتسقطُ جُزافاً من عِدَّة التَّحليل. نذكُرُ
من تلك الملامح ما هو قمينٌ بتشكيلِ بداياتٍ ضروريَّة لتناولِ موضوع الهُوِيَّة، وهي تحديداً أهميَّة المكان الجغرافيِّ ورسم حدوده، وتسليط الضَّوء على الفترة الزَّمنيَّة والاتِّفاق على بدايتها ونهايتها، والتَّنبيه إلى مناهج التَّعلُّم ومعرفة أساليبه المتَّبعة، هذا إضافةً إلى التَّركيز على تنمية الذَّاكرة الفرديَّة وصيرورتها ذاكرةً ثقافيَّة مجتمعيَّة، اعتماداً على نتائج علم النَّفس العصبيِّ الحديث، وما توصَّلت إليه بريندا ميلنر في تشخيص حالة "إتش إم"، وما سردناه من موقفٍ في غاية الإدهاش مع أوَّلِ انطباعٍ لنا بشأنِ انفلاشات ذاكرة الرَّجل الهميم، الَّذي يسندُ ظهرَه إلى كابينة فولوكسواجن بولمان متَّجهةً نحو الشَّرق، وعيناه تُحَدِّقانِ صوبَ الغرب، ولا تصدرُ عنه ثَمَّ التفاتةٌ واحدةٌ إلى الوراء.
يُعتبرُ المكانُ الجغرافيُّ ورسمُ حدودِه أمراً معقَّداً وخادعاً في ذاتِ الآن، خصوصاً إذا وضعنا في الاعتبار أنَّ راسمي الخُرَطِ الأولى لم يأتوا أصلاً من ذاتِ المكان؛ وإذا سلَّمنا جدلاً بالحدود المرسومة، فما هي الخيارات الممكِنة لتحديد الهُوِيَّة؟ أمرٌ واحدٌ جليٌّ، وهو أنَّه كلَّما ضاقتِ الحدود الثَّقافيَّة كلَّما اشتدَّتِ الحاجةُ إلى الانفصال؛ وكلَّما اتَّسعت حدودُها كلَّما قلَّتِ العاطفةُ الوطنيَّة؛ ولكن ما هي حدود الوطن المثاليَّة الَّتي تُصبِحُ في إطارها الهُوِيَّةُ الوطنيَّةُ أمراً لازباً؟ وهل يدخل ضمنها الإقليمُ المنفصِلُ حديثاً أو تلك المناطقُ الَّتي تضعُ الانفصالَ خياراً، إنْ هي حُرِمت من حقوقها الثَّقافيَّة؟ هذه أسئلةٌ ساخنة بشأنِ المكان؛ أمَّا الزَّمان، فإنَّه لا يقلُّ تعقيداً أو مخادَعةً؛ فكلَّما رجعنا بالزَّمانِ القهقرى، كلَّما تغيَّرت حدود المكان، وكلَّما ضاعت حدود الهُويَّة، إلى أنَّ نصِلَ إلى زمانٍ باكرٍ خرج فيه الجنسُ البشريُّ لتوِّه من أفريقيا، تعضيداً لجانبٍ زاهٍ من نظريَّة داروِن حول أصلِ الأنواع، الأمر الَّذي يُوكِّدُ وَحدةَ الجنسِ البشريِّ، الَّتي أثبتها أيضاً علمُ الوراثةِ الحديث؛ أو نصِلَ إلى زمانٍ أشدَّ مُباكَرةً ولم يشهده أحدٌ من البشر، ولكنَّا تلقَّيناهُ حديثاً شريفاً مرفوعاً إلى النَّبي في خُطبة حجَّة الوداع: "النَّاسُ كلُّهم بنو آدمَ، وآدمُ خُلِقَ من التُّراب"؛ وقوله في ذات الخُطبة: لا فضلَ لعربيٍّ على عجميٍّ ولا عجميٍّ على عربيٍّ، ولا لأحمرَ على أسودَ ولا لأسودَ على أحمرَ إلَّا بالتَّقوى، "إنَّ أكرمكم عند اللهِ أتقاكم".
بإطلاقٍ، يقودُ الزَّمانُ إلى وضعٍ مثاليٍّ، ولكن في الوقتِ الرَّاهن، يتحكَّم أسلوبُ التَّعلُّمِ وطريقة الحفظ في الذَّاكرة في تحديد الهُوِيَّة الفرديَّة الَّتي تُصبِحُ حاملاً للمآلاتِ الوطنيَّة. ويتَّضِحُ ممَّا توصَّلت إليه بريندا ميلنر بشأنِ نوعينِ من الذَّاكرة، أنَّ القدرة على التَّعلُّم الشَّرطي والحفظِ عن ظهرِ قلب، وترسُّخ العادات، واكتساب المهارات، بما فيها تعلُّم اللُّغاتِ في سنٍّ مبكِّرة أو قيادة الدَّرَّاجات، تُخزَّنُ كلُّها خارج القشرة الدُّماغيَّة وتقلُّ الحاجةُ إلى قدراتِها في المعالجة واتِّخاذِ القرارات، إذ إنَّها تُصبِحُ بوجودها خارج القشرة لاواعيةً أو ضمنيَّة. والتَّعلُّمُ الَّذي يعتمدُ بشكلٍ كبير على التَّخزين في الذَّاكرة الضِّمنيَّة، سيكون له مردودٌ سلبيٌّ على مستوى الوعي؛ والثَّقافة الَّتي تعتمدُ بشكلٍ أساسيٍّ على هذا الضَّرب من التَّعلُّم، ستقودُ بدرجةٍ كبيرة إلى تدنِّي مستوى الوعي في المجتمع؛ وإذا سلَّمنا جدلاً بأنَّ التَّعلُّم والذَّاكرة هما مكوِّنانِ أساسيَّانِ للهُويَّة، فإنَّ الهُوِيَّة القائمة على الذَّاكرة الضِّمنيَّة ستكون هي الهُوِيَّة المتجمِّدة بتأثيرِ بِنْياتٍ غير واعية أنتجتها أساليبُ التَّعلُّم المعتمِدة على الحفظ عن ظهرِ قلب والتَّرسُّخِ التِّلقائيِّ للعادات والاكتسابِ الآليِّ للمهارات. أمَّا الهُوِيَّة الَّتي تتأسَّس على الذَّاكرة الجلِيَّة، فإنَّها تبدأ من قرن آمون الَّذي يقوم باستلامِ الإشاراتِ الَّتي تصِلُ إليه من العَصَبِ الحِسِّيِّ وتحويلها إلى القشرة، لِيتمَّ معالجتُها وتخزينُها في المكان الملائم، وفق ما أوضحنا أعلاه؛ أي أنَّ الشَّبكاتِ والمساراتِ العصبيَّة في القشرة والقدرة على اتِّخاذِ القراراتِ في الفصِّ الأمامي للدُّماغ هي الفيصلُ في ارتفاع مستوى الوعي، وبالتَّالي انفتاح أفق الهُويَّة.
نختمُ هذا المقال بالتَّذكير أنَّنا تساءلنا في مُستهلِّ رسالةٍ شهيرة إلى عادل القصَّاص (وقاصدين أيضاً أصدقاءَ عديدينَ بمدنِ الشَّتات) قائلينَ له: "كيف يعملُ قرنُ آمونِك ("هيبوكامبس") الذَّكي مع طُبوغرافيا المكانِ في مِلبورن" (في جنوب شرق أستراليا)، مُدركينَ أنَّ البياناتِ الجديدة الَّتي أوجدها سياقُ التَّشتُّت ستُمهِّدُ إنْ عاجلاً أو آجلاً إلى طرحِ سؤالِ الهُوِيَّة؛ وإنَّ أوَّلَ منطقةٍ حاسمة تصِلُها تلك البياناتُ هي قرنُ آمون، ومنها إلى بقيَّة القشراتِ المتخصِّصة، والمتشابكة
في ذات الآن مع بقيَّةِ مساراتِ الدُّماغِ البشري. بمعنًى آخرَ، فإنَّ الذَّاكرة الجلِيَّة (الواعية)، وليس الذَّاكرة الضِّمنيَّة (اللَّاواعية)، هي المطالبةُ بالتَّفاعل، وتقليبِ الخيارات، واتِّخاذِ القرارِ الملائم الَّذي يَصبُّ في مصلحة الوطنِ الَّذي تتدوزنت أوتارُهُ مكانيَّاً وزمانيَّاً، واعتمادِ طرقٍ للتَّعلُّمِ المنفتحِ عليه وعلى الآخَرِ المُضيفِ ضيافةً قد تَقصُر أو تطول، ثمَّ انتخابِ هُوِيَّةٍ تليقُ بوطنٍ أقسمَ مواطنوهُ على بنائِه طُوبةً على إثرِ طُوبة.
شارك هذا الموضوع: