يُدرِكُ الَّذين دفَعتْ بهمُ القوَّةُ الطَّارِدةُ (سياسيَّاً واقتصاديَّاً) إلى مُدُنِ الشَّتَاتِ الباردة، أنَّ شمسَ الاستواءِ السَّاطعةَ الَّتي تركوها وراءَهم تُرسِلُ في واقعِ الأمرِ أشعَّتَها إلى كافَّةِ الكواكبِ الَّتي تَدُورُ حولها، وتَخصُّ هذا الكوكبَ المُتفرِّدَ بدِفءٍ حانٍ وأشعَّةٍ تَحمِلُ في طيَّاتها أهمَّ أسبابِ الحياةِ القائمةِ على ظَهرِ هذه الأرض؛ كما يُدرِكُ المُتحمِّلونَ لوطأةِ الشَّتَاتِ القاسيةِ، أنَّ أماكنَ إقامتهم، شديدةَ البُرُودة، يَتمُّ تدفئتُها دائماً إمَّا عن طريقِ التَّسخينِ الإشعاعيِّ (ريدييشن) أو الحَمْلِ الحراريِّ (كونفيكشن). وكذلك هذه الشَّمسُ المُتفرِّدةُ (أو بالأحرى ذلك النَّجمُ الَّذي لا يَفقِدُ فَرادتَهُ بانْدراجهِ الكونيِّ في دربِ التَّبَّانة)، فإنَّ تركيبها الدَّاخليَّ يَنطوي على نَواةٍ ساخنة، تنتقلُ منها الحرارةُ بالإشعاعِ أوَّلاً، فينقُلُها الحَمْلُ الحراريُّ إلى السَّطح، لِتصِلَ منها على ظَهرِ الأرض فُوتوناتٌ أو أشعَّةٌ ذهبيَّةٌ تَتمثَّلُها نباتاتٌ وطحالبُ خضراءُ وبكتيريا زرقاء، لِتنتِجَ منها طاقةً كيماويَّةً تختزنُها في شكلِ هايدروكربوناتٍ للتَّغذيَة وأُكسجيناً مُمَكِّناً للتَّنفُّس (وهذه الألوانُ – الأزرقُ والذَّهبيُّ والأخضر، الَّتي ترمُزُ للماءِ والثَّروةِ المعدنيَّةِ والزِّراعة، بتغيير الأصفرِ القديمِ إلى ذَهَبيٍّ، ليَرمُزَ إلى تعدينِ الصَّحراء أو تحويلِها إلى ذَهَبٍ أخضرَ بالزِّراعة – هي مقترَحُنا لِعَلَمِ البلادِ الجديد).
تَطرَّقنا في الفقرةِ السَّابقةِ إلى طاقةِ الشَّمسِ وتركيبِها الدَّاخليِّ بغَرَض التَّشبيهِ وإجراءِ المُقارَنةِ مع الطَّاقةِ الثَّوريَّةِ وكيفيَّةِ انتقالها عبْر الحِقَب. لذلك، يُصبِحُ من المفيد الإشارةُ بشكلٍ مُوجَزٍ إلى علاقة الطَّاقةِ بالكُتْلةِ في كِلتَيْهُما (أي الشَّمس والثَّورة). ولعلَّ الأمرَ الأكثرَ أهميَّةً في معادَلة آينشتاين الشَّهيرةِ، هو تكافؤُ الطَّاقةِ والكُتْلةِ، وتحوُّلُ أيٍّ منهما إلى الأخرى بتوفُّرِ ظروفٍ مُساعِدة. والمُدهشُ حقَّاً، في هذا الأمر، أنَّ هذا الكونَ المادِّيَّ من أصغرِ جُسَيمٍ فيه إلى مُجمَلِ كُتْلتهِ المُتسارِعةِ في التَّمدُّد، هو أنَّه مستودَعٌ كامنٌ لطاقةٍ جبَّارة، وهو ما يَتكشَّفُ لنا يوميَّاً في عمل المُفاعِلاتِ النَّوَويَّةِ والمُهشِّماتِ الذَّرِّيَّةِ أو ما يُسمَّى بمُصادِمات هيدرون الكبيرةِ في جنيف، وشيكاغو سابقاً، وحالياً نيويورك. وكذلك حالُ الثَّورة، فإنَّها تظلُّ حبيسةً في نُفُوس الأفرادِ والكُتَلِ الجماهيريَّة، وتَنفجِرُ من حينٍ إلى آخرَ، فتنتقلُ بالإشعاعِ من عصرٍ إلى آخر. وفي السُّودان، اندلعَ إشعاعٌ ثوريٌّ في أواخر القرن التَّاسع عشر، ومرَّتينِ في النِّصف الثَّاني من القرن العشرين، ومرَّةً أخرى، بشكلٍ متميِّزٍ، في الرُّبُعِ الأوَّلِ من القرنِ الحادي والعشرين. وما يُميِّزُ الاندلاعَ هذه المرَّة، غيرُ انفجارِ الكُتَلِ الجماهيريَّة، هو ذلك الانبثاقُ النَّوعيُّ لظاهرةِ الحَمْلِ الثَّوريِّ المُتمثِّلِ في لجانِ المقاومةِ الشَّعبيَّة.
تَعتملُ نَواةُ الشَّمسِ بانفجاراتٍ نَوَويَّةٍ متواصِلة، يَتحوَّلُ فيها الهيدروجين إلى هيليوم، فتنبعثُ طاقةٌ تَستغرِقُ أمَدَاً طويلاً في الانتشار الإشعاعيِّ خارجَ النَّواة، بسببِ ما تتعرَّضُ له الجُسَيماتُ من تشتُّتٍ متَّصِلٍ إلى أنْ تَخرُجَ من منطقة الإشعاع، وتصِلَ إلى منطقة الحَمْلِ الحراريِّ، فيبدأ صُعُودُها الَّذي لا رجعةَ فيه لانتقالِ الحرارةِ من أسفلَ إلى أعلى في منطقةِ الحَمْلِ، إلى أنْ تبلُغَ النِّطاقَ المرئيَّ (الغِلاف الضَّوئي، فاللَّوني، ثُمَّ الكرونا؛ وتَعني التَّاجَ أو الهالةَ الشَّمسيَّة). وواضحٌ كالشَّمس في رائعةِ النَّهار، أنَّ الشَّبابَ هُمْ نَواةُ ثورةِ ديسمبرَ ووقودُها الَّذي لا يَنضَب؛ وقد يَتعرَّضونَ زُرافاتٍ ووُحداناً للتَّشتُّتِ وخيباتِ الأملِ، وأحياناً لِما يُسِيلُ له اللُّعاب. إلَّا أنَّهم ببقائهم مُتَّحدينَ ومُتعاضدينَ ومُتماسكينَ داخلَ لجانِ المقاومة، سيَسمحونَ في نهايةِ الشَّوطِ لقوَّةِ الفكرِ أنْ تَنتصرَ، وللوعي أنْ يَنتشرَ، وللطَّاقةِ الشَّبابيَّةِ أنْ تَصعُدَ إلى أعلى عن طريق الحَمْلِ الحراريِّ الثَّوري. حتماً، سيَضَعُ البعضُ عوائقَ أمامَ هذا الصُّعود؛ وحتماً، سيُفلحُ هؤلاء إنْ هُمُ استطاعوا حَجبَ ضَوءِ الشَّمس؛ ولكن هيهات! وقد يتحجَّجُ البعضُ ضدَّهم بحداثةِ السِّنِّ وضُمُور الخِبرة، لكنَّها حُجَجٌ أوهَنُ من بيتِ العنكبوت؛ فالوقتُ في زمنِ الثَّورةِ لا يُحسَبُ بدقَّاتِ السَّاعاتِ السِّويسريَّة، وإنَّما بتحقيقِ الأهدافِ الَّتي خرَجوا من أجلها. وكلَّما تكاتفوا وتناصروا وتعاضدوا، كلَّما اشتدَّ السَّاعدُ وزادتِ الخبرةُ وأصبحَ النَّصرُ لهم قابَ قوسينِ أو أدنى.
غنيٌّ عن القول، إنَّ الأمرَ كلَّه ليس في أيديهم وحدهم. فأهدافُهم يَحتاجُ تحقيقُها إلى حُكمٍ مدنيٍّ خالص؛ والحُكم المدنيُّ يحتاجُ إلى ديمقراطيَّةٍ برلمانيَّة؛ والدِّيمقراطيَّةُ تحتاجُ إلى أحزابٍ مُبرَّأةٍ من الهيمنةِ الطَّائفيَّة. قد يقولُ قائلٌ إنَّ بإمكانِ هؤلاءِ الشَّبابِ تكوينَ أحزابٍ جديدة، خُصُوصاً وأنَّ الأحزابَ النَّاجحةَ لا تَنشأ إلَّا في ظرفٍ تاريخيٍّ مُؤاتٍ؛ وعلى ما يبدو، فإنَّ الظَّرفَ الآن أكثرُ من مُؤاتٍ. لكنَّ تجرِبةَ “أحزاب الفكَّة”، قريبةِ العهد، تقفُ شاهداً على عدم جدوى إِنشائها، وألَّا طائلَ يُرجى من وراء تكوينها، خُصُوصاً وأنَّ نجاحَ الأحزابِ الرَّاسخةِ في الوُصُول إلى الحُكم، يَعتمِدُ في الأساس على إقامةِ تحالُفاتٍ واسعة. وهذه الأحزابُ المُنشَأةُ حديثاً بـ”الفكَّة”، هي مجرَّدُ تشرذُماتٍ ليس إلَّا. لم يَبقَ إلَّا الإقرارُ الشَّفَّافُ بازدواجيَّةِ الانتماء، وتشجيعُ الشَّباب على الانتشار داخلَ الأحزابِ السِّياسيَّةِ القديمة، يمينِها ويسارِها، بغَرَض تجديدِ دمائها عن طريق الحَمْلِ الثَّوري. في المُقابِل، لنْ تَفقِدَ الأحزابُ القديمةُ إلَّا أزياءَها الباليَةَ والغبارَ العالِقَ رَدَحَاً على بِشرتها الكالِحة. وعلى تلك الأحزابِ أنْ تَفترِضَ حُسْن النِّيَّةِ في القادمين الجُدُد، وأنْ تَستبشرَ خيراً لمَقدَمهم، فهم قد خَبِروا صَنعَة التَّغيير، وعرَفوا كيف يَعملونَ سويَّاً، باختلاف مَشارِبهم، لمصلحةِ الوطنِ وحمايتِهِ من جُوْرِ الأعداءِ بالدَّاخلِ والخارج.
لا نجِدُ أيَّ تناقُضٍ يُذكَر بشأنِ ازدواجيَّةِ الانتماءِ إلى لجانِ المقاومةِ وأحزابٍ سياسيَّةٍ أخرى، نسبةً إلى تَبايُن الأهدافِ الخاصَّةِ بكلٍّ من الكيانَيْن السِّياسيَّيْن. فلجانُ المقاومة تَعمَلُ ليلَ نهارَ لحماية الثَّورة من تآمُر أعدائِها بالدَّاخل وكشْفِ أساليبهم المُرِيبةِ في تقويضِ مواثيقها وإِفشالِ برامجها، كما تَسعى اللِّجانُ إلى تثبيت دعائمِ الحُكم المدني، وإنجاحِ الفترةِ الانتقاليَّةِ بتمهيد الطَّريقِ إلى بذْلِ الحرِّيَّة للجميع، وتحقيقِ السَّلامِ بوسائلَ سِلميَّة، وبسطِ العدْل وسيادةِ حُكم القانون. أمَّا الأحزابُ السِّياسيَّة، فسَواءً اتَّفقتْ مع هذه الأهدافِ العامَّةِ أمْ عَمِلتْ عمْداً على تقويضها، فإنَّ لها أهدافَها وبرامجَها الخاصَّةَ الَّتي تُمليها عليها آيديولوجيَّتُها المُعلَنةُ أو المَخفيَّة. من حقِّ الأحزابِ أنْ تَعمَلَ في مَناخٍ من الحرِّيَّة، وأنْ تَدعُوَ في برامجها إلى تحقيق السَّلام الاجتماعي، وأنْ تُمارِسَ أنشطتَها في الإِطار الَّذي يَكفُلهُ القانون؛ بجانب ذلك، من حقِّها أنْ تُعِدَّ منذُ الآنَ للانتخاباتِ العامَّةِ والسَّعيِ إلى كسْبِ المعارِكِ الانتخابيَّةِ المُقبِلة. إلَّا أنَّ مُجمَلَ مُمارساتِها رهنٌ باستكمال الفترةِ الانتقاليَّة ونجاحِ الأهدافِ الَّتي وضعتْها لجانُ المقاومة نُصْبَ أعيُنِها في سبيلِ حمايةِ الثَّورةِ وتحقيقِ الانتقالِ السَّلِسِ إلى الأُفُقِ الدِّيمقراطيِّ المُستدام. بناءً على كلِّ ذلك، لا تناقُضَ على الإطلاق في وجودِ انْتماءٍ ثُنائيٍّ يسعى من جهةٍ إلى تحقيق دعائمِ الدَّولةِ الدِّيمقراطيَّة، ومن جهةٍ أخرى إلى تطوير الكياناتِ الَّتي لا غنًى عنها للنِّظامِ الدِّيمقراطيِّ ذاتِه، وهي الأحزابُ السِّياسيَّة.
حَرَصْنا في تحليلنا للوَضعِ القائمِ من بُعْدٍ على رسمِ صورةٍ زاهيةٍ للجانِ المقاومة؛ وهي صورةٌ ولا شكَّ قد تضمنَّتْ أشواقَنا ورغباتِنا الذَّاتيَّةَ في رُؤيةِ الوطنِ الحبيبِ وهو يَرفُلُ، يومَ عيدٍ، في أزهى ثوبٍ قَشيب. إلَّا أنَّ الواقعَ الخشِنَ قد يَخدِشُ نقاءَ تلك الصُّورة. فعلى سبيل المثال، قد تَنتاشُ اللِّجانَ رِماحُ نقدٍ من قِبَلِ الجماعاتِ المسلَّحة، إلَّا أنَّ الوسيلةَ السِّلميَّةَ الَّتي كسَبَتْ بها الحَرَاكَ الأخيرَ تَنهضُ شفيعاً لها ضدَّ أيِّ نقدٍ سياسيٍّ فطير؛ وقد تصِلُ إليها مَذمَّةٌ من الحُكمِ المدني، إلَّا أنَّه ناقِصٌ، الأمرُ الَّذي يَشهَدُ لها، بالمُقارَنةِ مع ذلك النُّقصان، بالكمال. وقد تأتيها مَلامةٌ من الحاضِنةِ السِّياسيَّة، إلَّا أنَّ عِتابَ الصِّحابِ له طَعمُ عصيرِ اللَّيمون الباردِ في عزِّ ظهيرةٍ قائظة؛ وقد تتلقَّى اللِّجانُ نقداً عاصِفاً من داخلها، إلَّا أنَّ ذلك هو عَينُ الممارَسةِ الدِّيمقراطيَّة. أمَّا المُناوَشاتُ المتقطِّعةُ الَّتي تأتي لها من أعداءِ الثَّورة، فإنَّ لسانَ حالِها يقولُ لهم إنَّ شمسَ الظَّهيرةِ السَّاطعةَ ستسري بالطَّاقةِ الثَّوريَّةِ حتماً عبْر فترةِ الانتقال، فحاوِلوا أنْ تُطفِئوا نورَ الشَّمسِ إنِ اسْتطعتُم، فإنَّ حَمْلاً حراريَّاً قائماً سيقودُ الثَّورةَ، بعونِ الله تعالى، إلى سِدرةِ مُنتهاها (أي أقصى غاياتِها الوطنيَّة).
شارك هذا الموضوع: