لم يكنِ العلماءُ وحدُهم هُمُ الذين سعَوا إلى تليين عريكة الزَّمان، فقد تبعهم في ذلك فنَّانون تشكيليُّون وروائيُّون وشعراءُ مُحدثون؛ أمَّا الفلاسفة، فقد تخبَّطوا في ذلك أيَّما تخبط، إلى أن تمكَّنتِ الفيزياء الحديثة، بدءاً من ماكس بلانك وألبرت آينشتاين، وانتهاءً بنيلز بور وأشبال ميكانيكا الكم في منتصف العشريناتِ من القرن الماضي (فيرنر هايزنبيرغ، ولفغانغ باولي، وإرفن شرودينغر، وبول ديراك)، من وضعِ توصيفاتٍ احتماليَّة للنِّظام الكمومي للجسيمات المتناهية في الصِّغر، ممَّا مهَّدَ الطَّريق إلى نجاحِ نموذجها المعياري (إستاندرد موديل) وانبثاق الأبحاث الحديثة التي تفترض وجوداً كموميَّاً للزَّمانِ نفسِه، مثلما تفترضُ آخرَ للمكانِ كذلك، من غير أن تجِدَ حتَّى الآنَ حلَّاً لمشكلة اللَّاتحدُّد وتسرُّبِ المعلومات من النِّظام الكمومي إلى البيئة المحيطة به؛ وهو ما يُعرَف بزوال التَّرابط الكمِّي (ديكوهيرنس).
في لوحة "إصرار الذَّاكرة" للفنَّان التَّشكيليِّ السِّيرياليِّ الإسباني، سلفادور دالي، تتناثرُ ثلاثةُ ساعاتِ جيبٍ (شبيهةٍ بتلك التي كان يستخدمُها جَدِّي بدوي سليمان كركساوي لِتُعينَه على إدراكِ الصَّلاة بمسجدِ الدِّعيتة واللَّحاقِ بالتُّرامِ عند وصولِه إلى محطَّة ود البنَّا) وقد اعتراها التواءٌ بسبب انصهار معدنِها، وقد عُلِّقت واحدةٌ منَّها على فرعِ شجرةٍ عارية، وواحدةٌ على حافَّةٍ عموديَّة تجلسُ عليها ذبابة، وأخرى في منتصف اللَّوحة على وجهِ وحشٍ باهتِ الملامح؛ هذا إضافةً إلى ساعةِ جيبٍ برتقالية رابعة على يسارِ اللَّوحة، وقد امتلأ سطحُها بسربٍ من النَّمل. وعندما سُئل دالي عن مدى تأثُّره بالنَّظرية النِّسبيَّة الخاصَّة برسمِه لتلك السَّاعات المنصهِرة، أجاب قائلاً إنَّه لم يتأثَّر بآينشتاين، وإنَّما استلهم تصوُّراً سيرياليَّاً لقطعةٍ من جبنة "الكاممبير" الفرنسيَّة وهي تذوبُ تحت أشعةِ الشَّمس. إلَّا أنَّنا، بالطَّبعِ، نأخد بالفحوى المُضمَّنة في السُّؤال، عِوضاً عن الإجابة التي ترسمُ بالكلماتِ مجازاً موازياً للَّوحةِ السِّيرياليَّة الشَّهيرة.
في رواية "الصَّخب والعنف" للكاتب الأمريكي، ويليام فوكنر، يختلطُ الماضي والحاضر ويمتزجانِ سويَّاً في ذاكرة "بنجي" لِينتِجَا تدفُّقاً من المُدرَكاتِ المُبهمة؛ هذا بخلاف أخيه "كِونتين" الذي أهداه والدُه ساعةَ يدٍ ورثها هو كذلك عن والدِه لكي ينسى الزَّمن وينعتقُ من إساره، إلَّا أنَّ السَّاعة الموروثة قد جعلته، بدلاً عن ذلك، لا ينسى ماضيه، بل تُضاعِفُ من إحساسَه بالإثم؛ فسعى لتهشيم السَّاعة لينفكَّ من قيدها، لكنَّها (أي السَّاعة) أخذت تدقُّ من غير تأثُّرٍ بحطامها أو أيديها المعدنيَّة المنزوعة. وعندما ذهب كِونتين" ليُغرِقَ نفسَه منتحراً، ترك السَّاعةَ المحطَّمة في البيت، إلَّا أنَّ إحساسَه المكثَّف بالزَّمن قد عجَّلَ بأن يدفع حياته ثمناً لما ارتكب من إثم. أمَّا الرِّوائي السُّوداني، الطَّيب صالح، في روايته الخالدة، "موسم الهجرة إلى الشَّمال"، فقد أعاد ترتيب الزَّمن وألانَ عريكته حتَّى يخدِمَ فكرته الرِّوائيَّة المُذهلة؛ فلو ترك الزَّمنَ يمضي وفقَ مسارِه المُعتاد، لاحتاجَ إلى راوٍ كلِّي العلم (أومنيشنت نريتر) يروي بضميرِ الغيبة، ولَاستحالت فكرةُ إبداعِ الرَّاويَيْنِ البطلَيْن، بتداخلهما وتبادلهما الأدوارَ بشكلٍ يُسبِّبُ الدَّوار، ولضاعت نكهةُ الرِّواية المميَّزة، وانتفت حداثتُها التي جعلتها تقفُ منفردةً بين الرِّوايات.
لا نحتاجُ أن نتوقَّفَ كثيراً عند علاقة الشُّعراء المحدثين بالزَّمان، بل يكفي أن نتطرَّق إلى رؤيةِ رائدَيْنِ من روَّاد الحداثة الشِّعريَّة الغربيَّة والعربيَّة: تي إس إليوت، وعلى أحمد سعيد (أدونيس). في المقطعين الشِّعريين الثَّالث والرَّابع من قصيدة: "أغنيةُ حبٍّ لـِ جي ألفريد بروفروك"، يركِّز إليوت على إحدى معاني الزَّمان وهو المدَّة، لِيشحنَها بفوقِ ما تسِعُ من وقت، وبفوقِ ما تحملُ من دلالات: "هناك وقتٌ لمئاتِ التَّردُّدات؛ ووقتٌ لمئاتِ الرُّؤى والمراجعات"؛ فـ"في دقيقةٍ واحدة، هناك وقتٌ للقراراتِ والمراجعاتِ التي سيُبطِلُ مفعولَها دقيقةٌ واحدة"؛ إلى أن يقول "قد عرفتها كلَّها سلفاً؛ عرفتُ الأماسي، والصَّباحاتِ، والآصال؛ وقد قِستُ حياتي بملاعقِ القهوةِ الصَّغيرة". وفي كتابِه الموسوم: "زمن الشِّعر"، يقول أدونيس: "إنَّ الشِّعرَ هو أقلُّ أنواعِ الفنونِ حاجةً إلى الارتباطِ بالزَّمانِ والمكان، لأنَّه في غيرِ حاجةٍ إلى موادَّ محسوسة".
قلنا إنَّ المدَّة معنًى من معاني الزَّمان، وهناك تعاقب الأحدات، وطرق قياس الوقت، واللَّحظة الحاضرة، وهي، على وجهِ التَّحديدِ، صعبةُ المِراس، ولا تلينُ عريكتُها إلَّا لذوي الدِّربة في الخلاوي والمعابد وذُرى الجبال. من حقِّ الفيلسوف الألماني، إيمانويل كانت، أن ينظُرَ للزَّمانِ باعتباره شكلاً نقيَّاً لما يُدرَكُ بالحواس؛ ومن حقِّ إدموند هوسيرل أن يسلك سبيلاً ظاهراتيَّاً لتصوِّرِه (أي الزَّمان)؛ كما من حقِّ مارتن هايدغر أن يرى فيه أفقاً للكينونة. من جانبٍ آخرَ، في مقدور المعادلات الفيزيائيَّة أن تعكس مسار الزَّمان؛ كما في مقدور إسحق نيوتن أن يفترض زماناً ممتدَّاً إلى ما لا نهاية، مثل المكان، ليُقيمَ عليه لاحقاً آينشتاين، بعونٍ من هيرمان مينكوفسكي، هندسةً للزَّمكان. إلَّا أنَّ أخطر ما يقومُ به السَّاعون إلى توحيد الجاذبيَّة وميكانيكا الكم هو النَّظرُ إلى الزَّمان (والمكانِ كذلك) في مستواه الكمومي (من "كوانتم")، ممَّا يعني تسرُّب المعلومات الخاصَّة بهما إلى البيئة المحيطة، وتأثُّرهما بمبدأ الرِّيبة وزوال الترابط الكمِّي.
شارك هذا الموضوع: