في التعقيب على الأستاذ خالد الحاج: مدرسة محمود محمد طه بين الترهيب الفكري والانقسام الأخلاقي
1
كتب الأستاذ خالد الحاج عبد المحمود مقالتين في فبراير 2021 في الرد على مقالتي المعنونة "وقفة تأمل حول التكفير ودستور طه وأزمة الإسلام" التي كانت قد نشرت في يناير 2021.
ولقد علّقت في مقالتي على جلسة التكفير والجلسة التي تحدّث فيها بروفيسر عبد الله النعيم عن أسس دستور السودان في الندوة الثانية التي انعقدت في يناير 2021 بمناسبة الذكرى السادسة والثلاثين لإعدام الأستاذ محمود محمد طه. وفي تعليقي على جلسة التكفير أشرت إلى أن خطابها تجنّب الحديث عن جذر الموقف التكفيري الذي يستند في واقع الأمر على نصوص القرآن ومادة الحديث والممارسة النبوية وأن التكفير للكافة من مشركين ويهود ومسيحيين كان كلمة القرآن الأخيرة والشاملة. وفي حديثي عمّا قاله بروفيسر النعيم اختلفت معه حول طرحه للقرآن كدستور للبشرية وقلت إن هذا لا ينسجم مع قيم حقوق الإنسان ومثّلت لذلك بمثال الرِّقّ الذي يقرّه القرآن ويبيحه.
وفي قراءة ما كتبه الأستاذ خالد الحاج لابد من أن نبدأ بوضعه في سياقه العام. إن الكاتب داعية وناشط في حركة إسلامية وهو بهذه الصفة من المستفيدين من واقع الهيمنة الإسلامية في بلده السودان. والهيمنة الإسلامية في السودان وباقي العالم الإسلامي تعني في المقام الأول نشر وفرض جو إثارة وترهيب وقهر معادٍ لحرية الفكر والتعبير، خاصة عندما يتعلّق الأمر بحرية نقد الإسلام. صحيح أن مدرسة الأستاذ محمود محمد طه، التي ينتمي لها الكاتب، قد تعرّضت بدورها للقهر الفكري على يد أعدائها من الإسلاميين، وهو قهر أدّى في نهاية الأمر لفاجعة إعدامه، إلا أن هذا لا يعني أن طه نفسه كداعية إسلامي لم يستفد من هذا الجو القهري ويستغلّه في الهجوم على أعدائه الفكريين، وخاصة العلمانيين.
2
دعنا نأخذ كمثال على ما نقول محاضرة طه "الماركسية في الميزان" التي قدّمها في أم درمان في مايو 1968. في هذه المحاضرة يُقِيم طه ميزانه "التوحيدي" ليزن الماركسية ويميّز بين حسناتها وسيئاتها. وفي سَنْجة حسنات الماركسية يضع الفكرة التطورية ودراسة الاقتصاد، أما في سَنْجة السيئات فيضع ملازمة العنف للقوة وتزييف الديمقراطية عبر مفهوم ديكتاتورية البروليتاريا. إلا أن السيئة الكبرى التي ارتكبها ماركس وذهبت بكل حسناته في نظر طه كانت عدم إيمانه بالعقل الأول أي الله، أو بمعنى آخر إلحاده.
إن إدانة إلحاد ماركس متوقعة ومفهومة عندما يُوضع في ميزان المتدينين، ولكن الأمر يواجه تعقيدا غريبا في حالة طه. إن طه يؤمن بجبرية خالصة وبمبدأ وحدة الفاعل الذي يجعل اللهَ فاعلَ كلِّ كبيرة وصغيرة. وهكذا، وحسب هذا المبدأ، فإن إلحاد ماركس يصبح عنده في واقع الأمر "وحيا من الله". يقول طه في هذا الصدد: "وماركس ما جاء بحاجة ما أوحاها ليهو الله، حتى الإلحاد، الإنتو ما عايزنو في الماركسية، ما دخل في الوجود إلا بوحي إلهي، لحكمة إلهية … " (الماركسية في الميزان، 1973، ص 6). ويقول أيضا: " … حتى الكفر والإلحاد … الكفر مِن الله، هو بإرادة الله. وكارل ماركس ما دعا للإلحاد من نفسه وبراه وإنما الله قال ليه: "أعمل فيها إلحاد، أدعو للإلحاد"، وبالصورة دي ظهر الإلحاد، وظهر لحكمة في موضوعه … ومن الخطأ جدا أن تفتكر إنو كارل ماركس جاء بالإلحاد من عندو، لكن الله … أراد أشياء لم يرضها … " (نفسه، ص 29).
وطه لا يختلف عن باقي الجبريين في أنه يتجاهل النتائج العملية لجبريته. وهكذا فإن إلحاد ماركس يصبح في نهاية الأمر مسئوليته الشخصية ويسمح لطه أن يدينه، بينما أنه لو كان منسجما انسجاما "توحيديا" حقيقيا مع منطقه الجبري لكان من الممكن أن يعتبر "وحي" ماركس الإلحادي طريقا مختلفا للوصول لله، وخاصة أن الله حسب فهم طه يدعو إليه كل شيء بما في ذلك إبليس الذي يدعو لله "دعوة هي في بلاغة دعوة جبريل إليه." (أسئلة وأجوبة، 1970، ص 30).
إن طه عندما ركل حسنات ماركس واختزله لإلحاده فعل شيئين في نفس الوقت. الشيء الأول أنه ظلم ماركس وحَرَفَ النظر عن إنجازه الأعظم الذي جعله واحدا من أعظم مفكري العالم ومن أعظمهم تأثيرا وهو تحليله ونقده للرأسمالية في كتابه رأس المال، وهو كتاب لا تزال حججه ذات قيمة ومصدر إلهام حتى يومنا هذا. وأثر ماركس يمتدّ في الواقع لطه، إذ أن طه في نقده للرأسمالية وتبنّيه للاشتراكية والشيوعية أحد تلاميذه. صحيح أن ماركس كان ملحدا مثله مثل الكثيرين من فلاسفة عصره وجيله إلا أن همّه الفكري الأساسي كان نقد الرأسمالية وليس التنظير للإلحاد (هذا التنظير كان همّ فيلسوف مثل لُودفِق فيورباخ). والحال أن الماركسية عندما ألهمت ملايين الناس في العالم فإنها فعلت ذلك ليس لأنها ملحدة ولكن لأنها دعت للقضاء على استغلال الرأسمالية واستبدالها بعدل ومساواة الاشتراكية.
أما الشيء الآخر الذي فعله طه فكان ترهيبه للمؤمنين بفكر ماركس في بلد كالسودان لأنهم ما كان من الممكن أن يواجهوه ويدافعوا عن نقد ماركس للدين (وهو واقع لا يزال سائدا). هذا هو ما يجعلنا نقول إن طه استفاد من الجو التكفيري والترهيبي وأنه عَمِل على استغلاله كسياسي وداعية إسلامي.(1)
3
وما قلناه عن الأستاذ ينطبق على التلميذ. إن الأستاذ خالد الحاج في ردّه على ما كتبت قفز في الحال لـ "إلحاد الدكتور". ولأن المُرِيب يكاد يقول خذوني فإنه يسارع للقول مبررا: "وأنا لا أقول هذا لأي اعتبار غير أني أريد أن أحدّد منطلقه بصورة واضحة، فإلحاده هو الإطار المرجعي الذي يحدد وفقه مواقفه الفكرية." ولا أعلم من أين جاء الكاتب بهذه الفرضية المتعسّفة في الحكم على مواقفي الفكرية. إن مرجعيتي الفكرية مرجعية عقلانية إنسانية بمعنى أن البوصلة التي أعتمد عليها لتقودني في الحكم على الأشياء هي العقل وما يقوم الدليل عليه، علاوة على ما أعتبره قيما أخلاقية سليمة. هذه هي المرجعية الفكرية التي أحدّد موقفي من الدين وغير الدين على ضوئها، وليس العكس، بمعنى أن يصبح موقفي من الدين هو المرجعية الفكرية التي أنطلق منها لتحديد موقفي من باقي الأشياء.
إن موضوع الإلحاد يرتبط بمسألة وجود الله والتي لم تكن موضوع مقالتي.(2) وما قلته في مقالتي عن الجذر التكفيري في القرآن أو عن إباحة القرآن للرِّقّ أو في نقد ما قاله طه دفاعا عن الرِّقّ الإسلامي — كل هذا لا علاقة له بمسألة وجود الله، ومن الممكن في واقع الأمر أن يقوله شخص مؤمن بوجود الله (شخص مسيحي مثلا). ولكن ما الذي دفع الأستاذ خالد الحاج لإقحام مسألة الإلحاد؟ إنها كما أشرنا تلك النزعة عند الدعاة الإسلاميين للاستفادة من الجو التكفيري والترهيبي واستغلاله. ومقالتا الأستاذ خالد الحاج تنضحان بتلك النزعة وتتدهوران بعد الفقرة الأولى في مقاله الأول لتنحدرا لاستباحة لفظية هادرة محورها الإلحاد تنهال بِغِلٍّ يتوتّر تشنّجا ويعلو صراخا، وكلّه من مقام "يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" — وهي استباحة تصل دركها المؤسف في عبارته "يسلّط الله تعالى عليه من الجلال ما يحوجه إليه تعالى".
4
وفي الردّ على ما أثرته بصدد جذر الموقف التكفيري المستند على نصوص القرآن ومادة الحديث والممارسة النبوية وأن تكفير الكافة من مشركين ويهود ومسيحيين كان كلمة القرآن الأخيرة والشاملة، يلجأ الكاتب لاستخدام الحجّة التقليدية لطه التي تتحدّث عما يوصف بآيات الإسماح باعتبارها آيات أصول تمّ نسخها لصالح آيات فروع صادرت حرية العقيدة، وهي خطوة يبررها بما يصفه بـ "اعتبارات تاريخية". إن هذه النظرية تقتضي قبول صورة لإله يتّصف بصفتين: أنه إله منقسم تختلف إرادته عن رضاه مما يجعله يأمر بشيء من غير أن يكون راضيا عنه، وأنه إله ليس بفعّال لما يريد وإنما هو أسيرٌ للتاريخ إذ تتغيّر أحكامه وفق اعتبارات الظروف وضغوطها.
إن آيات مكة تعكس أوضاع محمد فيها ولا علاقة لها بمفهوم الإسماح الذي يروّج له المفكرون الإسلاميون المحدثون. إن الإسماح يقتضي أن يكون الإسلام في وضع قوة، ولم يكن هذا هو واقع الحال في مكة. إن قرآن مكة يعكس القبول الواقعي لميزان القوى فيها، وهو قبول تعبّر أوضح تعبير عنه آيتا سورة الغاشية: "فذكِّر إنما أنت مُذَكِّر * لست عليهم بمصيطر" (88: 21 – 22). وكانت الهجرة ليثرب هي اللحظة التاريخية الحاسمة التي بدأ فيها انقلاب علاقات القوى لصالح الدين الجديد، وجاءت آيات الجهاد لتعكس تحوّل الإسلام لدين أصبح ملتحما بشوكة الدولة وقهرها. وميزان القوى الجديد تعكسه آية سورة التوبة: "يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يَلُونَكُم من الكفار وليجدوا فيكم غِلْظة واعلموا أن الله مع المتقين" (9: 123).
إن القرآن لا يحوي تلك الثنائية المصطنعة بين آيات أصول وآيات فروع وإنما يعكس واقعه التاريخي المتغيّر عبر مسيرته في مكة ثم المدينة. والقرآن في ذلك لا يختلف عن التوراة والأناجيل التي هي أيضا نصوص تاريخية عكست واقعها المتغيّر.
5
أما بصدد المسألة الثانية عن نقدي لتبرير طه للرِّق الإسلامي ورفعه لمستوى العبادة فإن الأستاذ خالد الحاج لا يواجه النقطة وإنما يَحْرِف موضوع كلام طه ليجعله مقتصرا على الحديث عن المعاوضة. وفي الرد على إباحة القرآن للرِّقّ يقول الكاتب: "الإسلام لم يبح الرق، وإنما وجده سابقا عليه، وعمل على تخفيفه. والإسلام يقوم على أن الأصل هو الحرية." والخلط واضح في كلام الكاتب. إن حقائق الواقع التاريخي والنصوص الأولية للإسلام تشير إلى أن الإسلام وجد الرِّقّ وأباحه، بمعنى أن مؤسسة الرِّقّ لم تنته في ظلّ النظام الإسلامي وإنما استمرّت (أما الحديث عن تخفيفه أو ادّعاء أن الأصل في الإسلام هو الحرية فمسألتان لا علاقة لهما بواقع الإباحة والاستمرارية). وعندما يدّعي الكاتب أن "الإسلام لم يبح الرِّقّ" فإننا لا نميل لاتهامه بالجهل بحقائق التاريخ ولكننا نتهمه بالمغالطة وافتقار الصدق الفكري.
ويواصل الأستاذ خالد الحاج خطّ أستاذه التبريري بتقديم حجّة تقوم أساسا على النسبية الأخلاقية وتمجيد الحرب: "إن الأشياء تأخذ موقعها من الصحة والخطأ، والمنفعة والضرر، حسب ملابسات التاريخ. والشيء قد يكون صحيحا في وقته ويصبح باطلا في وقت آخر، حسب الحاجة إليه، فقد كانت الحرب مثلاً وهي أكبر الشرور، نافعة طوال التاريخ، بل كانت أعظم وسائل التفاعل الحضاري، وأدّت إلى تطور الحياة. ونفس الحرب أصبحت لا قيمة لها بعد الحرب العالمية الثانية … " ما الذي يدفع الأستاذ خالد الحاج لهذا الدفاع عن الحرب وتمجيدها؟ إن دافعه هو الدفاع عن خطاب وتاريخ مرجعيته الدينية. لابد له من الدفاع عن الحرب لتبرير الكثير مما يقوله القرآن والدفاع عن تاريخ دولة المدينة. إن القرآن يحدّثه عن إله يقتل ويرمي وملائكة مُرْدِفِين يضربون فوق الأعناق ويضربون كلّ بنان، بينما أن تاريخ دولة المدينة هو تاريخ غزواتها وحروبها التي أخضعت عرب الجزيرة العربية ثم تمدّدت بعد ذلك لباقي الشعوب لتبني إمبراطوريتها. والكاتب يحاول تسويغ نسبيته الأخلاقية بوضعها في إطار مبدأ ديني شامل يقول: "كل ما دخل الوجود، دخل بارادة الله، ولا بد أن تكون هنالك حكمة في دخوله."
6
إن التاريخ، بخيره وشرّه، يصنعه البشر وليست هناك يد خفية من خارج عالمهم وواقع صراعاتهم تشكّله. والحرب تنشأ لأسباب كثيرة ومعقّدة ولكنها في نهاية الأمر انعكاس لعلاقة قوة يقهر فيها القويُّ الضعيفَ ومن الممكن أن يقتله أو يستعبده. إنها فعل يصنعه البشر ومن الممكن أن يتفاوضوا حوله لأنهم قادرون أيضا على صناعة السلام. دعنا ننظر لثلاث لحظات تلخّص لنا شرّ الحرب وعبثيتها:
عندما وقف الإمبراطور أشوكا بعد حرب كالِنْقا التي دارت في أواسط القرن الثالث قبل الميلاد في الهند القديمة لينظر للجثث المحيطة به — إذ أنها، حسب المؤرخين، حرب فقد فيها نحو مائة ألف محارب حياتهم وتسبّبت في موت المئات من الألوف غيرهم — أدرك عبثية الحرب، وأحس بصدمة الأسى والحزن العميق لأنه كان مسئولا عن كل هذا، وصرخ قائلا: "ماذا فعلت؟" وكانت هذه، حسب الرواة، هي نقطة التحوّل الكبير الذي قاده لاعتناق مبدأ اللاعنف الذي أصبح أساس سياسته الداخلية والخارجية.
تَوَاجَه المسلمون، بقيادة كبار الصحابة، في واقعة صِفِّين (37 هـ / 657 م) ليحسموا الخلاف حول من هو الأحقّ بالخلافة وقَتَّلُوا بعضهم البعض بلا رأفة على مدى تسعة أيام "حتى انكسرت سيوف الفريقين ونَصِلت رماحهم وذهبت قواهم وجَثَوا على الرُّكَب، فُوهُهُم بعضهم على بعض". كان كلّ فريق يُعْمِل السيف في رقاب الآخرين وهم موقنون بأنهم يفعلون ما أمرهم القرآن به من قتال الفئة "التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله". مات سبعون ألف. وكان لابد في النهاية من الاحتكام للصلح وإنهاء جنون وعبث ما يفعلون.
عندما وقف نَعُّوم شُقير على جبل صرغام بعد أيام من مجزرة كرري في سبتمبر 1898 التي أُزهقت فيها حياةُ نحو عشرة آلاف من السودانيين في ظرف ساعات قلائل وصف المشهد المأساوي الذي أحاط به قائلا: "فإذا بالقتلى قد غطّت السهل من حوله على مدى النظر، والنسور قد حامت فوقها أسرابا فملأت الجو. وكان المشهد مما تنقبض له النفس أشدّ الانقباض ويوجب منتهى السخط على الحروب وأسبابها."
7
ولكن ماذا عن طه — هل مجّد الحرب؟ إن طه ظلّ دوما على استعداد لتبرير كل أشكال العنف وبشاعاته عبر التاريخ لأنه يعتبره جزءا مما يسميه "الإسلام العام" وتجسيدا للإرادة الإلهية. يقول طه في تبرير العنف التاريخي: "وهذه الشريعة العنيفة، في حالتي السلم والحرب، تكون من الله مَرْضِيّة إلى جانب أنها مُرادة، حسب مواضع الحكمة من الزمن، وهو ما يُسمى بحكم الوقت. قال تعالى في الصراع الذي توجّهه حكمته بقانون الغابة: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمَّرْنَاها تدميرا * وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا"" (تطوير شريعة الأحوال الشخصية، 1979، ص 26). وحسب نظريته فإن الحركة سائرة من حالة الغِلْظة لحالة اللطف، من "الإسلام العام" لـ "الإسلام الخاص"، من قانون الغابة لقانون الإنسان.
إلا أن ما يزعمه طه لم يتحقّق منذ الزمن السحيق لشخصية نوح التوراتية إلى وقت محمد ورسالته. فكما هو واضح لكل من يقرأ تاريخ دولة المدينة فإنها لم تختلف عن أي دولة في أنها كانت عنيفة، علاوة على أن مقاتليها كانوا يقاتلون من أجل المغنم. وطه لا يغالط بشأن هذه الحقيقة التاريخية إلا أنه يحاول صبغها بطبيعة مختلفة بوضعها في سياق "حكمة" الخطة الإلهية و"تدريجها" فيقول: "ومع أن معاني القتال في سبيل الله أخذت تبرز وتستحوذ على المقاتلين، فإن دوافع الكسب المادي في صور الغنيمة والسبايا — غنيمة الأموال، وسبي النساء والذراري — لا تزال تكوِّن قدرا عظيما من حوافز هذا القتال عند المقاتلين، وقد دَرّجهم بها الشارع الحكيم، فأحَلَّها لهم، شريطة ألا تكون هي الدافع الأساسي للقتال … " (نفسه، ص 30 – 31).
وبعد تمجيد حروبات دولة المدينة يتّجه طه لتمجيد المقاتل المسلم ويضعه في مقام يميّزه عن أي مقاتل عبر التاريخ. فرغم أن القرآن يقول "وليجدوا فيكم غِلْظة" ورغم أن أن مادة السيرة والتاريخ تحكي لنا عن حروب لا تختلف عن باقي الحروب في غِلْظتها ودمويتها إلا أن طه يقدّم لنا صورة مختلفة ومثالية للمحارب المسلم ليقول عنه: "وليكن قتاله لهم، حين يقاتلهم، فيه عطف ورحمة وحكمة تستعمل السيف كَمِبْضَع الطبيب لا كَمِدْيَة الجزّار." (نفسه، ص 31). وهكذا، يحوّل خيال طه هذا المقاتل وهو يقاتل المشركين ويقتلهم لشخص تمتلىء جوانحه "عطفا ورحمة" ويتحوّل السيف في يده بفضل "حكمته" من آلة قتل لـ "مِبْضع طبيب".
وتبرير طه للرِّقّ الذي كنّا قد اقتبسناه في مقالتنا السابقة أتى في سياق الحرب بين المسلمين والمشركين. والاسترقاق حسب وصفه عقوبة للمشرك أو ما يصفه بالمعاوضة. ولكن من أين أتى بهذا التبرير؟ لقد أحيا طه تبريرا قديما نجده مثلا عند محمد بن عبد الرحمن البخاري (ت 546 هـ / 1151 م) الذي يقول: "إن الرِّق إنما ثبت في بني آدم باستنكافهم من عبوديتهم لله تعالى الذي خلقهم وكلُّهم عبيده وأرقاؤه، فإنه خلقهم وكوّنهم فلما استنكفوا عن عبوديتهم لله تعالى جازاهم برقّه لعباده … " (محاسن الإسلام، 1938، ص 55). وهكذا وحسب هذه النظرة فإن الممارسة الاسترقاقية القديمة الموروثة عن حروب العرب تكتسب في ظلّ الإسلام طبيعة دينية يصبح المستَرِّقّ بموجبها مالكا للمستَرَّقّ ومتصرفا فيه بالوكالة عن الله. وسواء تحدّثنا عن الاسترقاق القديم أو الاسترقاق الإسلامي فإن الأمر سيّان عند طه، إذ أنه يدخل في الحالتين فيما يريده الله.
8
ولقد أخذ طه من من إيمانويل كانط، الفيلسوف الألماني، مقالته الشهيرة أن الإنسان غاية في ذاته وليس وسيلة، وهكذا نجده يقرّر "ونقول … أن الفرد من رجل وامرأة هو الغاية وكل ما عداه وسيلة إليه … " (رسالة الصلاة، 1970، ص 74). كيف نفسّر هذا التناقض في موقف طه الذي يريد أن يتبنّى الموقف الأخلاقي الكانطي مع دفاعه في نفس الوقت عن الرِّقّ الإسلامي وبالتالي عن وضعٍ يستلب الإنسانَ ويختزله لوسيلة؟
عندما نقرأ مجموع ما كتبه طه عن الِّرقّ يتّضح لنا انقسامه الأخلاقي. إنه من ناحية ابن عصره ويعكس إجماع القرن العشرين على رفض استرقاق الإنسان للإنسان كفعل غير أخلاقي، وهذا هو ما دعاه للقول إن الرِّقّ ليس أصلا في الإسلام. إلا أن طه انطلق أيضا من أرضية الإسلام الذي كان الرِّقّ في ظلّ نظامه ممارسة شرعية ومقبولة أخلاقيا. وكانت إجابته لحلّ التناقض هي، كما رأينا، احتضان نسبية أخلاقية عبّر عنها بمفهوم "حكم الوقت" الذي أصبح وسيلته لتبرير كلّ شيء والتصالح معه باعتباره معبِّرا عن إرادة الله الكليّة الحكيمة.
وعلاوة على حجّته الدينية لتبرير الرِّقّ يقدّم طه الحجج التقليدية المألوفة التي يقدّمها المفكرون الإسلاميون المحدثون، وهي حجج عادة ما تنحاز للنظام السائد ومصالح المالكين. وهكذا يؤكّد على أنه لم يكن من الحكمة إلغاء الرِّقّ لأن حاجة المجتمع اقتضت بقاء نظامه، وأن الإسلام جعل للرقيق حقوقا، وجعل الكفّارات بعِتْق الرِّقاب المؤمنة، وأوجب مكاتبة العبد الصالح، ودعا لحسن معاملة الأرقاء. والضعف الأساسي لحجج الإسلاميين المحدثين أنها تنطلق من افتراض أن الإسلام كان يخطّط أصلا لإبطال الِّرقّ وإلغائه نهائيا ولكن بالتدريج وهو افتراض لا يسنده دليل قرآني أو برهان من السُّنّة ويدحضه التاريخ الإسلامي الذي يدلّ على نمو وتوسّع مؤسسة الرِّقّ في ظلّ نمو وتوسّع الإمبراطورية.(3) إن أفق الإسلام لم يختلف عن أفق اليهودية والمسيحية في أنه لم يتجاوز حدود العِتْق والحثّ على معاملة العبيد بالحسنى، وكان هذا أقصى ما كان من الممكن أن تقدّمه أنظمة هذه الأديان.
إن الرفض الأخلاقي الكامل للرِّق والدعوة لإلغائه إلغاء تاما في أي مكان في العالم بل وتجريمه كان تطورا أملاه موقف أخلاقي إنساني متجاوز للأديان، وهو موقف استطاع في نهاية الأمر من فرض نفسه على كافة الأديان. ورغم أن الإسلام كان أكثر الأديان بطئا في الاستجابة لإلغاء الرِّق إلى حدّ أن السعودية وموريتانيا كانتا من آخر البلاد التي أعلنت إلغاءه إلا أن المسلمين أنفسهم ما لبثوا أن تجاوزوا الإباحة القرآنية واتّحدوا مع ضمير عصرهم وأصبحوا جزءا من الإجماع الإنساني الرافض لاسترقاق الإنسان للإنسان.
9
في ديسمبر 1969 زار المفكر الفرنسي (الماركسي حينها) روجيه غارودي القاهرة بدعوة من مجلة الطليعة وألقي محاضرات دارت حولها مناقشات مفتوحة بينه وبين عدد من المفكرين والمثقفين المصريين. ولقد أوردت مجلة الطليعة عبارة جارودي "أنا طبعا ملحد" في إحدى محاضراته، وهي عبارة استوقفت طه وعلّق عليها قائلا: "ولقد وقفت طويلا عند هذه العبارة الجريئة، وقام في بالي أن رجلا يقول مثل هذا القول عن نفسه ليس خليقا بأن يحاضر الناس في أي مستوى من مستوياتهم، ذلك بأن عنده مشكلة يجب عليه الاشتغال بحلّها قبل أن يشتغل بمحاضرات الآخرين." (طريق محمد، مقدمة الطبعة الثامنة، الكترونية). وعبارة جارودي التي استنكرها طه عبارة عادية تصف موقف جارودي الفكري بصدق وليس فيها أي جرأة وخاصة عندما تصدر من مفكر يأتي من خلفية فكرية شكّلتها الاستنارة الأوربية التي كانت ركيزتها الأساسية هي قيمة حرية الفكر والتعبير. ولو قال جارودي عبارته هذه في فرنسا لما أثارت استغراب أو احتجاج الكنيسة الكاثوليكية ولما استوقفت أي مواطن فرنسي (صحيح أن المؤمنين ربما يناقشونه، ولكن لن يقوم في بالهم أن يصادروا حقّه في حرية التفكير والتعبير).
وجارودي ليست لديه مشكلة وإنما المشكلة هي مشكلة طه. إن ما تبرزه عبارة طه وهو يريد إسكات جارودي هي أن وعيه، وهو الذي دافع عن حروبات دولة المدينة، يستبطن الاستبداد الديني. من المؤكّد أن من حقّ جارودي الملحد أن يحاضر الناس مثلما أن من حقّ طه المسلم أن يحاضرهم. وهذا هو في واقع الأمر ما يريده الناس في عصرنا لأنهم يدركون قيمة حرية الفكر والتعبير ويعرفون الثمن الباهظ الذي كان لابد للبشر من أن يدفعونه لنيلها وهم يكافحون كلّ مظاهر الاستبداد وخاصة الاستبداد الديني (عندما أراد طه أن يسلب جارودي حريته لم يكن يعلم بكل أسف أن تحالف الاستبداد الديني والسياسي في السودان سيسلبه حريته وحياته).
كثيرا ما يتحدّث طه عن نفسه وأتباعه بأنهم غرباء بَشّر حديثٌ لمحمد بمجيئهم باعتبارهم سيُحيون سنَّتَه بعد اندثارها. والغربة التي يتحدّث عنها هذا الحديث غربةٌ محدودة وخاصة وتتعلّق بشأن إسلامي بحت. إلا أن غربة طه الحقيقية والخطيرة، فيما نرى، هي غربته عن أهم قيمة من قيم عصره وهي قيمة حرية الفكر والتعبير، كما يتّضح من رغبته لإسكات صوت من لا يتفقون مع قناعته الدينية. وهذا الموقف راسخٌ في وعي طه رسوخا جعله يتحوّل عنده لمظهر من مظاهر لاهوت استبداد شمولي يلغي حقّ "الآخر المختلف" في الوجود، وهو ما يعبّر عنه بقوله لغير المؤمن: "إن لم تكن مؤمنا فمن الخير لك أن تؤمن، بل لا بد لك من أن تؤمن … "
وما أبرزه طه من عداء لحرية الفكر والتعبير لم ينفصل عن خاصية أخرى وهي امتلاؤه بحسّ الوصاية على سواد الناس الذين يسميهم "العوام" والذين يكره لهم "التوسّع في العلوم التي توزعهم ولا تجمعهم على الله" وذلك خوفا عليهم من "الفتنة المدسوسة فيها"، ويكره لهم قراءة "أقوال الملحدين" لأنها تشوّش خواطرهم وتهلكهم. (أسئلة وأجوبة، 1970، ص 30). كان هذا بعضا من الزاد الفكري والروحي الذي أورثه طه لتلاميذه، وهو زادٌ ما يزال يلهب طاقاتهم وحماسهم وهم يتحدّثون بصوت السماء ولا ينفكّون عن المشاركة في ترسيخ وتعميق جو الترهيب الفكري.
هوامش
(1) قدّم طه محاضرته هذه بعد حلّ الحزب الشيوعي السوداني في نوفمبر 1965. وكان حسن الترابي، زعيم جبهة الميثاق الإسلامي، قد أصدر كتيبا يدافع فيه عن الحلّ، وأصدر طه كتيبا يردّ عليه. ويؤكّد طه في ردّه على ضرورة المبدأ والحكم الدستوري ويقول: "ويمكن أن يقال إن الدستور هو "حقّ حرية الرأي" وإن كلّ مواد الدستور الأخرى، بل وكلّ مواد القانون موجودة في هذه العبارة الموجزة كما توجد الشجرة في البذرة." (زعيم جبهة الميثاق الإسلامي، 1968، ص 13). وكتيب طه يعبّر عن ازدواجية في التفكير بين هذا المنطق الدستوري ومنطق آخر سياسي — فإن كان منطقه الدستوري يركّز على حقّ حرية الرأي، فإن منطقه السياسي يُبرز عدم حكمة حل الحزب الشيوعي وكيف أن ذلك من الممكن أن يسلب الأحزاب المعادية للشيوعية (ومنها حزبه) فرصتها المثلى لمحاربته. ومحاربة الشيوعية كانت هدفا استراتيجيا لطه لأنه كان يعتقد أن الأرض قد أمست مسرحا للصراع بين قوتين فقط هما الشيوعية والرسالة الثانية من الإسلام. وعندما قام العقيد جعفر نميري بانقلابه في مايو 1969 (اليساري حينها) تخلّى طه عن الدفاع عن المبدأ الدستوري وحقّ حرية الرأي وكان من أول المساندين للانقلاب.
(2) اقتبس الأستاذ خالد الحاج من مصدر آخر ما قلته عن إله الأديان ليَحْرِف اتجاه الحديث ويقحم ما وصفه بموقفي الفكري. إن إله الأديان جزء من صورة أكبر. والكاتب لا يستطيع الحديث عن موقفي الفكري إلا على ضوء ما أكتبه عن الصورة الكبيرة، وهو ما عليه أن ينتظره وعندها يمكنه الحديث عن موقفي الفكري ومناقشته وهو على بَيِّنة. هذا ما يفعله الباحث الذي يتحرّى الدقة والحقيقة.
(3) عندما نصل للقرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي نجد أن استغلال الرَّقيق كان قد وصل لأبشع أحواله في جنوب العراق مما أدّى لانفجار ثورة الزنج التي كانت أطول وأخطر ثورة واجهها العباسيون.
المقال مرفق بصيغة بي دي أف ويمكن أيضا إنزاله بالنقر على الرابط أدناه:
انقر
أو الذهاب لموقع:
archive.org
والبحث باستخدام عبارة: "الترهيب الفكري والانقسام الأخلاقي"
محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مشروع الدراسات النقدية للأديان ومؤلف:
Quest for Divinity: A Critical Examination of the Thought of Mahmud Muhammad Taha. Syracuse, NY: Syracuse University Press, 2007.
kassalawi99@hotmail.com
شارك هذا الموضوع: