وقفة تأمل حول التكفير ودستور طه وأزمة الإسلام

محمد محمود - 05-02-2021

الندوة الثانية لذكرى يناير
وقفة تأمل حول التكفير ودستور طه وأزمة الإسلام

1
بفضل المجهود الجاد والمثابر للدكتور عبد الله البشير انعقدت في الخرطوم بتاريخ 18 – 20 يناير الندوة الفكرية الثانية لإحياء الذكرى السادسة والثلاثين لإعدام الأستاذ محمود محمد طه. وكان موضوع الندوة الكبير الذي دارت حوله أوراقها هو "الدين والمجتمع والدولة". وحسب تصوّر الدكتور عبد الله فإن هذه الندوة السنوية ذات طموح كبير، إذ أنها وعلاوة على إحياء ذكرى طه، تطمح لأن تكون منبرا تنويريا لبناء الفرد الحرّ المسؤول والمجتمع الصالح. وكانت ندوة هذا العام ناجحة بمقياس تعددية المشاركة إذ عكست طيفا واسعا من الأصوات، وخاصة صوت المسيحيين السودانيين، كما كانت ناجحة بمقياس أجواء النقاش الحرّ المنفتح التي سادتها.
ولقد استوقفتني عدة جلسات ومداخلات، إلا أنني سأركّز في مقالتي هذه على جلسة خطر التكفير على حرية الفكر في الفضاء السوداني وعلى مداخلة بروفيسر عبد الله النعيم في الجلسة التي خُصّصت لتجارب بعض تلاميذ طه معه.

2
في جلسة التكفير تحدّث المشاركون باقتدار كبير عن ظاهرة التكفير ومخاطرها وآثارها الضارة والتدميرية على حياة السودانيين بمختلف أديانهم ومعتقداتهم. وما قدّمه المتحدّثون يعكس اتجاها صحيا لخلق وتطوير خطاب تنويري جديد معارض وناقض للخطاب التكفيري. وفي أجواء ما بعد ثورة ديسمبر المجيدة التي وضعت الحرية في صدر طموحاتها وبعد إلغاء المادة 126 فإن هذا الخطاب التنويري يتحرّك الآن على أرضية أكثر تماسكا وصلابة.
إلا أن مشكلة الجلسة في تقديري أن خطابها تجنّب الحديث عن جذر التكفير ومن أين أتى. إن التكفير ليس بموقف منبتّ أحدثه تكفيريو السودان أو التكفيريون المنتشرون اليوم في العالم الإسلامي. إن الموقف التكفيري يستند على نصوص القرآن ومادة الحديث والممارسة النبوية. والتكفير القرآني كما هو معلوم لم يقتصر على المشركين الموصومين بالوثنية وإنما امتدّ أيضا لأهل الكتاب من يهود ومسيحيين لعدم قبولهم بنبوة محمد. هذا التكفير للكافة كان كلمة القرآن الأخيرة والشاملة ومن الطبيعي أن يكون اليوم كلمة التكفيريين الأخيرة والشاملة ضد مخالفيهم وهم يترسّمون خطى القرآن. هذا هو عمق وحجم المعركة الفكرية والسياسية التي تواجه التنويريين في السودان وخارج السودان، وهي معركة إن خسروها فإن شعوبنا تكون قد خسرت ردحا ربما يطول من مستقبلها، كما خسر السودانيون ثلاثة عقود تحت ظل النظام العسكري الإسلامي.

3
في حديثه عن تاريخ تلمذته لطه وأثرها على حياته وتكوينه ونظرته ركّز البروفيسر النعيم على كتاب طه أسس دستور السودان لقيام حكومة جمهورية فدرالية ديمقراطية اشتراكية الذي أصدره عشية الاستقلال في ديسمبر 1955. ويتّضح من كلام النعيم أنه عندما أصبح أكاديميا متخصّصا في القانون العام مرّ بفترة اغتراب عن الفكر الجمهوري كان منسجما فيها مع قيم ومبادىء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وما تفرّع عنه من معاهدات. إلا أنه أدرك لاحقا ما وصفه بـ "نسبية" الإعلان العالمي ومرجعيته الليبرالية وخاصة أن القوى التي صاغته لم تشرك باقي شعوب العالم التي كانت غائبة. ولكن ما الذي يعنيه هذا — هل يعني أن الإعلان العالمي قد فقد قيمته وشرعيته وسقطت البشرية في وهدة مظلمة وانكسرت بوصلتها ولم يعد هناك ما يهديها لحقوق إنسان توحّدها كلها حول إنسانيتها؟ رغم أن النعيم لا يصرّح بذلك إلا أنه يقرّره بشكل غير مباشر لأنه يري في أسس دستور السودان بديلا "كوكبيا" يهدي البشرية لدستورها. وهكذا فإن كتاب طه لا يصبح هديته لشعب السودان وهو على أعتاب استقلاله فحسب وإنما أيضا هديته لكل البشرية. ونلاحظ في موقف النعيم أنه وبينما تصبح وثيقة الإعلان العالمي "نسبية" في نظره لأن شعوب العالم لم تشترك كلها في وضعها، إلا أنه لا يتردد في أن يخلع صفة "الكوكبية" أو العالمية على وثيقة طه رغم أنه وضعها بمفرده (أو على أحسن الفروض بمشاركة أعضاء الحزب الجمهوري). وحسب النعيم فإن وثيقة طه هذه هي التي ستُخرج العالم من حيرته واضطرابه وأننا في السودن أو أي مكان آخر لا نحتاج للتفكير في دستور.
ما الذي يقوله أسس دستور السودان للبشرية ويقدّمه لها إذن؟ يقول الكتاب في ديباجته: "ليحقق دستورنا كل الأغراض آنفة الذكر، فإنّا نتخذه من القرآن وحده: لا سيما وأن القرآن لكونه في آن معا دستورا للفرد ودستورا للجماعة قد تفرّد بالمقدرة الفائقة على تنسيق حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة، تنسيقا يطوّع الوسيلة لتؤدي الغاية منها أكمل أداء." وهكذا يتّضح لنا مما يقوله طه أن ما يقدّمه للبشرية هو دستور إسلامي. وما نلاحظه أنه ورغم أن هذه الإسلامية هي السمة الأساسية التي تميّز الدستور الذي يقدّمه عن أي دستور آخر إلا أنه يسقطها عندما يثبت في عنوان كتابه سمات حكومته بأنها "جمهورية فدرالية ديمقراطية اشتراكية".
إذن وحسب النعيم ما على المواطن العالمي الذي لن يستطيع أن يجد حقوقه الإنسانية العالمية في الإعلان العالمي إلّا أن ينظر للقرآن، دستور البشرية، ليجد حقوقه العالمية الحقيقية. وطه يَعِد هذا المواطن بأنه سيجد في القرآن ما لا يمكن أن يجده في أي مصدر آخر وهو تلك "المقدرة الفائقة على تنسيق حاجة الفرد إلى الحرية الفردية المطلقة وحاجة الجماعة إلى العدالة الاجتماعية الشاملة". دعنا نقصر محاكمتنا لدعوى طه على الوعد بما يصفه بـ "الحرية الفردية المطلقة". إن هذا المواطن العالمي عندما يطّلع على القرآن لن يجد تعبير "الحرية الفردية المطلقة" البتة، ولكنه سيجد أن القرآن في واقع الأمر يقرّ ويبيح استعباد الإنسان للإنسان ويشرّع له (وهو في ذلك لا يختلف عن التوراة والثقافات القديمة).
وفضلا عن ذلك سيجد هذا المواطن العالمي أن طه الذي يحدّثه عن "الحرية الفردية المطلقة" والذي عاش في القرن العشرين كان من المدافعين عن الرِّقّ الإسلامي والمبرّرين له. صحيح أنه يقول ما يقوله المسلمون المعاصرون من أن الرِّقّ ليس أصلا في الإسلام إلا أنه يدرك في نفس الوقت أنه لابد من تبرير إباحة الإسلام للرِّقّ. وعن هذا التبرير يقرأ المواطن العالمي لطه قوله في الرسالة الثانية من الإسلام: "والحكمة في الاسترقاق تقوم على قانون المعاوضة. فكأن الإنسان عندما دُعِي ليكون عبدَ الله فأعرض، دلّ إعراضه هذا على جهل يحتاج إلى فترة مرانة، يستعد أثناءها للدخول، عن طواعية، في العبودية لله، فجُعِل في هذه الفترة عبدا للمخلوق ليتمرّس على الطاعة التي هي واجب العبد. والمعاوضة هنا هي أنه حين رفض أن يكون عبدا للرب، وهو طليق، وأمكنت الهزيمة منه، جُعِل عبدا للعبد، جزاء وِفاقا … " وهكذا فإن طه في تبريره للرِّق يرفعه لمستوى العبادة وينظر له كفترة مِران وتدريب ليصبح استعباد الإنسان للإنسان جزءا من خطة الإله وحكمته لخلاص العبد.() والمواطن العالمي لا يحتاج لقراءة تاريخ الرِّقّ في الإسلام ليكتشف فساد وخطل ما يقوله طه إذ أن الفساد الأخلاقي للحجّة في حدّ ذاتها لا يخفى على صاحب الفطرة الأخلاقية السليمة. وعندما يلمس المواطن العالمي هذا الخلل فإن هذه ستكون لحظة تساؤله: كيف سيقبل بالقرآن كدستور إنساني إن كان يبيح استعباد الإنسان للإنسان(*) وكيف سيقبل بادعاء طه بأنه يقدّم له منهجا تحريريا إن لم يتحرّر هو نفسه، لأن من يدافع عن استرقاق الإنسان للإنسان في أي زمان وبأي حجّة لا يمكن أن يكون حرّ الفكر؟
إن ما يدركه المواطن العالمي وما يمثّل أساس موقفه الأخلاقي وإيمانه بفكرة الحقوق العالمية أن وقوفنا مع الإنسان في أي مكان وزمان ضد أي شكل من أشكال استلابه هو عنصر أساسي من العناصر التي تعرّف إنسانيتنا.

هامشان
() المنطق الديني لحجّة طه هذه شبيه بالمنطق المسيحي في حالة القديس أوغسطين وتوما الأكويني اللذين دافعا عن الرِّقّ وبرّراه استنادا على مفهوم الخطيئة الأصلية وسقوط الإنسان ولعنة نوح لابنه حام التي أعلن بموجبها أن نسله سيكونون عبيدا لنسل سام. وهكذا فإن الخطيئة الأصلية في حجّة القديس أوغسطين وتوما الأكويني يقابلها الكفر في حجّة طه. (*) مجتمعات الاسترقاق القديمة وأديانها عرفت العِتْقَ. إلا أنه لا بد من التمييز بين مفهوم العِتق ومفهوم تحرير العبيد الذي أدّى لإلغاء الرِّقّ. إن العِتْق هو فك أسر المسترَقّ وإعطائه حريته ولكن في إطار شرعية وتماسك مؤسسة الرِّقّ. وبالمقابل فإن تحرير العبيد عَنَى نزع الشرعية عن الرِّقّ ابتداءً باعتباره ممارسة غير إنسانية وغير أخلاقية ثم تحرّك لإلغائها في كل المجتمعات وتجريم من يمارسها. إن قصارى ما فعلته الأديان في الماضي هو أن حثّت المسترِّقين على أن يعاملوا عبيدهم بالحسنى وأن يعتقوا، مع اعترافها الكامل بشرعية استرقاق الإنسان وما لازم ذلك من امتهان لإنسانيته ليصبح العبد من رجل وامرأة متاعا يُباع ويُشترى ويُورَّث، علاوة على حقّ المالك في حالة المرأة على معاملتها كمتاع جنسي (أو "وطئها" بلغة الفقهاء). كان هذا هو القصور والعيب الأخلاقي الذي عانت منه كل الأديان التي أباحت الرِّقّ.

محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مشروع الدراسات النقدية للأديان
kassalawi99@hotmail.com