1
وأنا أقرأ نصّ إعلان جوبا للمبادىء الموقّع بتاريخ 28 مارس 2021 بين الحكومة الانتقالية ممثلة في رئيس مجلس السيادة الفريق عبد الفتاح البرهان ورئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان (شمال) الفريق عبد العزيز الحلو وجدت نفسي نهبا لإحساسين قويين. فمن ناحية وجدت نفسي ممتلئا بشعور ارتياح عميق وسعادة غامرة وتطلّع متفائل للمستقبل لا أشك أن الغالبية الساحقة من السودانيين – وخاصة ممن سحقتهم الحرب وما زالوا يعانون عواقب ويلاتها – أحسوا به. ومن ناحية أخرى وجدت نفسي أتساءل بأسى: ولكن لِمَ كلّ الدماء التي سُفكت والدمار الذي ظللنا نصنعه منذ فجر الاستقلال؟ لِمَ كلّ جنون الحرب والكراهية الذي ظللنا نعيشه على مدى ستة عقود ونصف؟ ماذا جنينا، ماذا كان من الممكن أن نجني؟ وأنا أتأمل كل بند من بنود الإعلان وجدت نفسي أتساءل: ولكن — ألم يكن هذا مقرّرا وواضحا منذ أول يوم للاستقلال؟ كيف فات هذا على آباء الاستقلال وعلى من جاءوا بعدهم؟ كيف فات هذا على غالبيتنا كمواطنين عاديين شاركوا بصمتهم وقبول الأمر الواقع في التواطؤ على استمرار هذا الوضع النكبوي عَقْدا بعد عَقْد؟ إن الوثيقة في كل فقرة من فقراتها وهي تحدثنا عن أن السودان بلد متنوّع على كلّ المستويات، وان الحلّ العسكري يقود لطريق مسدود، وأن الدولة يجب ألا تنحاز لأي دين، وأن بنيتها يجب أن تكون لامركزية، وأن التهميش بكل أشكاله يجب أن ينتهي ويتشارك السودانيون في ثروة بلدهم بعدل، وأن حقوق الإنسان يجب أن تكون أساس قوانيننا، وأن الجيش يجب أن يكون مؤسسة قومية — تصدمنا بالسؤال الكبير: ولكن ألم تكن كلّ عناصر هذه الرؤية واضحة منذ البداية؟ ماذا كان من الممكن أن يعني الاستقلال إن لم يعن هذه العناصر؟ ماذا كانت ستكون قيمة الاستقلال إن لم يهدف لتحقيق هذه المعاني والغايات؟
2
كثيرا ما نتحدّث عن أن دولة الاستعمار تركت لنا نظاما برلمانيا ديمقراطيا، ومشروع الجزيرة، والسكة حديد، والخدمة المدنية، ونظاما تعليميا حديثا — وكل هذا صحيح، وكان من الممكن للسودان أن يبني عليه ويحقّق إنجازا تنمويا شبيها بإنجاز الهند. إلا أن الاستعمار ترك لنا أيضا مؤسسة أخرى ما لبثت أن أصبحت عامل الدمار الأكبر في الوطن على كل المستويات وهي الجيش. تحرّك الجيش بعد نحو ثلاث سنوات من الاستقلال ليطيح بالديمقراطية ويفرض هيمنته التي ظلّت مستمرّة حتى يومنا هذا.
وإن كان نوفمبر 1958 يؤرّخ لبداية انتهاك الجيش للديمقراطية وبداية هيمنته فإن ديسمبر 1965 يؤرّخ لبداية هيمنة أخرى هي هيمنة الخطاب الإسلامي عندما قامت الجمعية التأسيسية بحلّ الحزب الشيوعي بدعوى أنه حزب يروّج للإلحاد. ومنذ تلك اللحظة فقدت الديمقراطية السودانية روحها إذ فارقتها عَلْمَانِيتها وأضحت السياسة رهينة الخطاب الإسلامي وترهيبه. وعندما أعلن نظام العقيد جعفر نميري قوانين الشريعة في سبتمبر 1983 دشّن ولأول مرة نظام قهر مزدوج جمع استبداد الجيش وطغيان المشروع الديني. وكان هذا الاستبداد المزدوج هو ما ورِثه الإسلاميون وكرّسوه عندما قاموا بانقلابهم في يونيو 1989.
وعندما انفجرت ثورة ديسمبر المجيدة فإن التحدي الكبير الذي كان يواجهها هو استعادة الديمقراطية كاملة بروحها أي بعَلْمانيتها. ولأن الجيش فعل في ديسمبر ما فعله في مارس / أبريل 1985 وتآمر بقطع الطريق على الثورة، ولأن التآمر تصاعد ضد ثورة ديسمبر بارتكاب الجريمة الأبشع في تاريخ ثوراتنا وهي مذبحة ميدان الاعتصام، فإن القوى المعادية للثورة أحسّت وكأن ميزان القوى قد بدأ يميل لصالحها. إلا أن المقاومة المدنية السلمية لقوى الشباب المتماسك استمرّت، واستمرّ الكفاح المتواصل من أجل السلام بقيادة الدكتور عبد الله حمدوك رئيس الوزراء الذي ظلّ يعمل بلا كلل وهو محاصر بهيمنة العسكريين والآلة الأمنية للإسلاميين وكمّاشتهم الاقتصادية وحملاتهم وتعويقهم ومؤامراتهم التي لا تنتهي. ولقد أثمرت هذه المقاومة وهذا العمل الصبور وتكلّلت بنَضْج الظروف التي أجبرت رئيس مجلس السيادة أخيرا على الجلوس مع الفريق الحلو والتقاط خيط حمدوك الذي كان قد بدأه والتوقيع على إعلان المبادىء.
إن العودة للاعتراف بعَلْمانية الدولة بعد الانقطاع الكارثي الذي فرضه الإسلاميون هو الإنجاز الأكبر لهذا الإعلان وصحوة الوعي التي كان لابد منها. ونقول هذا بالطبع من غير تقليل من أهمية باقي عناصر الإعلان، والتي تمثّل في مجموعها رؤية واقعية وناضجة وحكيمة للخروج من أزمتنا التي ظللنا نكتوي بها منذ الاستقلال. وهذا التأكيد على ضرورة العَلْمانية — والذي ظلّ يتصدّى له بحكمة وشجاعة ومن غير استسلام للترهيب الإسلامي كلّ من الزعيمين عبد العزيز الحلو والأستاذ عبد الواحد محمد نور رئيس حركة وجيش تحرير السودان — هو الأساس الحقيقي الذي سيتيح لنا إعادة بناء ديمقراطية معافاة.
3
ومع ما حقّق الإعلان من إنجاز أكبر باستعادة العَلْمانية فإنه وبكل أسف تراجع عندما أتي لحقوق المرأة. ففي فقرتين قرّر أولا هذا المبدأ الهام: "تُدْرَج حقوق الإنسان وحقوق المرأة والطفل الواردة في المعاهدات الدولية (التي صادق عليها السودان) في اتفاقية السودان"، ثم طالب بالمبدأ التالي: "التأكيد على اتخاذ حكومة السودان التدابير اللازمة للانضمام للمواثيق والمعاهدات الدولية والأفريقية لحقوق الإنسان التي لم تصادق عليها جمهورية السودان." إلا أن الإعلان أفرد أيضا فقرة خاصة بالأحوال الشخصية وأعلن: "يجب أن تستند قوانين الأحوال الشخصية إلى الدين والعرف والمعتقدات بطريقة لا تتعارض مع الحقوق الأساسية."
وما يقوله الإعلان بشأن الأحوال الشخصية انتكاس واضح يعود بقضية المرأة لمربع مؤتمر أسمرا في يونيو 1995 ورؤية قوى التجمع الوطني الديمقراطي (وهو كيان ضمّ قوى الإسلام الطائفي المحافظ ممثلا في حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي بالإضافة للحركة الشعبية لتحرير السودان والحزب الشيوعي). وفي بيان ذلك المؤتمر أعلن التجمع أنه يعترف للمراة "بالحقوق والواجبات المضمّنة في المواثيق والعهود الدولية بما لا يتعارض مع الأديان." إن المرجعية لحقوق المرأة يجب أن تتساوى مع مرجعية حقوق الإنسان، وكما أن مرجعية حقوق الإنسان هي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فإن مرجعية حقوق المرأة هي اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة. إن إعلان المبادىء عندما يقّرر بشأن الأحوال الشخصية (وهي قوانين حيوية تمسّ كل امرأة ورجل) أن مرجعيتها هي "الدين والعرف والمعتقدات بطريقة لا تتعارض مع الحقوق الأساسية" فإنه لا يفعل عمليا أكثر من ترسيخ الوضع الحالي السائد. إن قوانين الأحوال الشخصية الحالية قوانين تمييزية تستند على قَوَامة الرجل وأفضليته ولا معنى للحديث عن عدم تعارضها مع الحقوق الأساسية لأنها تتعارض مع حقّ المساواة، وهو الحقّ الأساسي الذي ظلت النساء في كلّ العالم يناضلن من أجله.
إن المرأة السودانية التي نالت أعلى الدرجات العلمية، واقتحمت كل المجالات، وخرجت في ثورة ديسمبر المجيدة ثائرة للشارع، وواجهت الرصاص والقمع كتفا بكتف مع الرجل، قد حقّقت أهليتها الكاملة ولا يمكن ولا يصحّ إخضاعها لأي شكل من أشكال التمييز ضد أهليتها وإنسانيتها. إن السودان الديمقراطي العلماني المنفتح على قيم الحرية والمساواة والعدل هو سودان يتساوى سائر رجاله ونسائه بلا تمييز بدعوى الدين أو الأعراف الموروثة أو أي دعوى أخرى.
إن إعلان مبادىء جوبا إنجاز حاسم وعلامة مضيئة كبيرة في مسيرتنا التغييرية لتوطين الديمقراطية وتجذيرها في تربتنا. ونحن الآن أمام مسئولية ضخمة هي مسئولية تأكيد وحماية الإنجاز العَلْماني الذي لا تقوم للديمقراطية قائمة بدونه، وأمام مسئوليات النضال من أجل تحقيق مطالب وشروط نُمُوِّنا ونهوضنا الأخرى وفي مقدمتها تحرير المرأة من كل شكل من أشكال القهر والتمييز.
شارك هذا الموضوع: