المرأة كاملة عقل
"يُذكر الرجالُ ولا نُذكر"
1
تقول الآية 33: 35 في سورة الأحزاب: "إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات والقانتين والقانتات والصادقين والصادقات والصابرين والصابرات والخاشعين والخاشعات والمتصدّقين والمتصدّقات والصائمين والصائمات والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعَدّ الله لهم مغفرة وأجرا عظيما". وحول السبب الظرفي لهذه الآية يورد الطبري في تفسيره ستة أخبار تدور أربعة منها حول أمّ سَلَمَة، زوجة محمد، التي تقول له: "يا رسول الله يُذكر الرجال ولا نُذكر"، وهي صياغة تصبح في رواية أخرى: "ما للنساء لا يُذكرن مع الرجال في الصلاح؟" وفي خبر آخر فإن المتساءلات هنّ نساء محمد اللائي يقلن: "ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات؟". وصياغة الخبر في هذا الخبر من الممكن أن تُوحي أنهن قد تداولن السؤال قبل أن يطرحنه كسؤال جماعي. وثمة خبرين إضافيين يجعلان التساؤل نابعا من خارج دائرة نساء محمد. وحسب الخبر الأول فإن نسوة دخلن عليهن وقلن: "قد ذَكَرَكُنّ الله في القرآن، ولم نُذكر بشيء، أما فينا ما يُذكر؟" أما الخبر الثاني فيأتي في حديث أخرجه التِّرْمِذي يحكي عن أمّ عُمَارة الأنصارية التي أتت محمدا وقالت: "ما أرى كلّ شيء إلا للرجال، وما أرى النساء يُذكرن بشيء".
إن تعدّد الروايات يدلّ على أن حالة اختمار كانت قد نشأت وسط نساء المدينة وعبّرت عن تكوّن ما يمكن أن يُوصف بوعي نسوي بصدد حضور المرأة في القرآن. لقد انتبهن إلى ما نصفه بلغة اليوم للمركزية الذكورية للنصّ الديني، وكان ذلك مصدر الاحتجاج والظُّلامة التي تذكرها الأخبار. وكانت ثمرة فعل الاحتجاج هي آية الأحزاب التي تُخرج المرأة من منطقة اللاذكر وتُدخلها منطقة الذكر.
وتأمّل الموقف يُبرز لنا أن النساء فعلن ما فعلن وهنّ مدركات لثلاثة أشياء: أن احتجاجهن ومطلبهن عادل، وأن التعبير عن هذا الاحتجاج أمام السلطة النبوية مشروع وممكن، وأن احتمال الاستجابة القرآنية أمرٌ ممكن ووارد. والمسألة الأخرى الهامة التي يكشف عنها تأمّل الموقف أن تلقّي النساء للنص القرآني لم يكُن مجرد تلقِّ قبولٍ سلبي وإنما كان تلقّيا متفكّرا انتبه إلى أن ثمّة فجوة في النص لابد من معالجتها.
لا شك أن هذه "اللحظة النسوية" كانت من اللحظات القليلة التي أحسّت فيها النساء بقوتهن وانفتاح الفرصة أمامهن للمساهمة في تشكيل نص كنّ يرين أنه لا زال قيّد التشكّل نسخا وتثبيتا وهو يستجيب لمستجدات الظروف والضغوط التي تحيط بمجتمع المسلمين الوليد الناشيء. وهكذا كان فعل النساء في حقيقته تعبيرا عن رغبة عازمة وقاصدة لوضع القرآن أمام تحدٍّ كان لابد من الاستجابة له على مستوى القرآن نفسه وما كان من الممكن إزاحته جانبا للمعالجة على مستوى الحديث النبوي مثلا.
ولقد كانت هذه الاستجابة الذِّكْرية تحديدا في مستوى مطلب أمّ سَلَمَة "ما للنساء لا يُذكرن مع الرجال في الصلاح؟" (وهي صياغة ربما نسبها الأخباريون لها لتنسجم مع ما تقوله الآية). وهكذا ترتقي الآية في مراتب الصلاح بدءا من المستوى الأولي، مستوى الإسلام، وتصعد مرتفعة وهي تضع المرأة نظير الرجل عبر كل هذه المراتب وتختم بوعدهما الوعدَ نفسه بالمغفرة والأجر العظيم.
2
وإذا اعتبرنا أن موضوع الآية هو مفهوم "المساواة الروحية"، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل هذه المساواة مكتملة ومُعترف بها في القرآن؟ إن الدليل العام في تقديرنا يدلّ على أن هذه المساواة غير مُعترف بها في اليهودية أو المسيحية أو الإسلام. دعنّا نمثّل على ذلك بموقف هذه الأديان من الحيض. إن الحيض الذي لا ينفصل عن البنية الجسدية للمرأة يجعلها في نظر هذه الأديان حاملة لـ "نجاسة معنوية أصلية". نقرأ في سورة البقرة: "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يَطْهُرْن فإذا تَطَهَّرْن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المُتَطَهِّرين" (2: 222). إن الآية عندما تصف الحيض بأنه "أذى" تحكم عليه من زاوية نظر الرجل ومصلحته وليس من زاوية العملية الطبيعية التي تحدث في جسد المرأة. وهذا "الأذى" الذي يلمّ بالحائض يدخلها في الحال في سجنِ نجاسةٍ يفرض عليها عزلتين: عزلة تقوم بينها وبين زوجها الذي يجب ألا يقرُبها، وعزلة عن الله نفسه الذي لا تستطيع أن تتوجّه له بصلاتها الخاصة لأن نجاستها لا تؤهلها للوقوف في حضرته مصلية. وهذه العزلة الثانية (التي تمتدّ لعبادات أخرى ولأفعال مثل المنع من مسّ المصحف) هي ما يورث المرأة ذلك الانتقاص الدائم الذي يجعلها "ناقصة دين" حسبما يرد في مادة الحديث. وهذا العزل التمييزي ضد المرأة في الصلاة يمتدّ ليتّخذ مظهرا إضافيا. فإن كان العزل في فترة الطَّمْث إلى أن ينقطع دمُ الحائض وتتطهّر عزلا زمانيا فإنه يرتبط في تلك الفترة نفسها أيضا بعزل مكاني لأنها لا تستطيع الذهاب للمسجد.(*)
3
إن آية الأحزاب كانت استجابة لمطلب الذِّكْر، ولكنها لا يمكن أن تُقرأ أبعد من ذلك كآية مساواة. إن مجىء هذه الآية لم يغيّر من حقيقة أن العلاقة بين المرأة والرجل هي علاقة قَوامة وأن الرجل هو محطّ التفضيل الإلهي كما تقرّر آية سورة النساء: "الرجال قَوَّامُون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض" (4: 34). كان هذا الوضع هو الوضع الطبيعي في نظر القرآن الذي لابد من قبوله والامتثال والخضوع له. وكان موقف القرآن واضحا وصارما بإزاء أي طموح للإخلال بهذا الوضع كما يتّضح من الآية الأخرى في سورة النساء التي تقول: "ولا تَتَمَنَّوا ما فضّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن واسألوا الله من فضله إن الله كان بكل شيء عليما" (4: 32). وفي السبب الظرفي لهذه الآية نقرأ خبرا في تفسير الطبري تظهر فيه أمّ سَلَمَة مرة أخرى وهي تحتجّ هذه المرة قائلة: "يا رسول الله: تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث". وعلى الأرجح أن ردّ الفعل القرآني الذي تعكسه هذه الآية كان بشأن مسألة الميراث أكثر مما كان بخصوص مشاركة النساء في الغزوات. ونقول ذلك لأن هذه المشاركة كانت أمرا واقعا فرض نفسه بحكم الحاجة للخدمات التي كان من الممكن أن تقدّمها المرأة، والتي لخّصتها أمّ سِنان التي شاركت في غزوة خيبر في قولها لمحمد: "أخرج معك في وجهك هذا، أخرُز السِّقاء [تُصلح قِرَب الماء]، وأداوي المرضى والجريح إن كانت جراح، وأنظر الرَّحل". ولقد حفِظ لنا الواقدي ما ذكرته أمّ سِنان عن تفاصيل ما أعطاها محمد فيما بعد من غنائم خيبر وفيئها: " … فأعطاني خَرَزا وأوضاحا [حُلِيّا] من فضة أصيبت في المغنم، وأعطاني قطيفة فدكية، وبُردا يمانيا، وخمائل [أكسية مخمّلة]، وقِدْرا من صُفْر". إذن ما يمكن أن نقوله في الحكم العام على الوضع أن النساء كسبن قضية المشاركة في الغزوات، إلا أنهن خَسِرن قضية الميراث التي أوصد القرآن بابها وأمرهن بعدم تمنّي ما فضّل الله به الرجال (وهو تفضيل لا تقتصر مظاهره على الميراث فحسب كما نعلم).
4
ولقد تعرّضنا من قبل لنموذج التمييز عندما وصل مداه الأقصى في آية القَوامة بإباحة ضرب المرأة الناشز وكيف أن النساء احتججن وقاومن. ورغم أن الآية لم تُنسخ على مستوى القرآن إلا أن هذه المقاومة أدّت لتراجع على مستويين: مستوى تعليق رخصة الضرب في الحديث المنسوب لمحمد والذي يقول: "ولن يضرب خِيَارُكُم"، ومستوى الحثّ على تخفيف الضرب في الحديث الذي يقول: "فاضرِبُوهُنّ ضربا غير مُبَرِّح". عكس الحديث الأول انتصارا كاملا لنسوية نساء المدينة، بينما عكس الحديث الثاني كسبا محدودا لم يعنِ على الأرجح الكثيرَ على المستوى العملي.
ولم تقتصر مواجهات الوعي النسوي على مستوى المساواة الروحية ونشدان المساواة في الحقوق الشرعية وإنما امتدت أيضا لبعض مظاهر المستوى الطقسي. روى أبو ذرّ حديثا بشأن ما يقطع الصلاة يقول: "يقطع الصلاةَ الحمارُ والمرأةُ والكلبُ الأسود". وعندما سمعت عائشة هذا الحديث رفضته وقالت محتجّة: "أعدلتمونا بالكلب والحمار"، وروت في الحال حديثا مضادا قالت فيه: "لقد رأيتني مضطجعة على السرير، فيجيء النبي … فيتوسّط السرير فيصلّي … "
5
إن قبول كلّ الناس كلّ الوقت بدُونيتهم والقهر والتمييز الواقع عليهم ليس بالأمر الطبيعي ويثبت التاريخ بطلانه. لقد حملت المرأة دوما وعيها النسوي وعبّرت عنه وقاومت حتى عندما واجهت دعاوى أن التمييز ضدها يعكس إرادة السماء. ومن المؤكّد أن مقاومة المرأة وكفاحها لن يتوقفا حتى تزول كل بنيات وأشكال ومظاهر التفرقة ضدها، وهو كفاح سيؤدّي في نهاية المطاف لتحرّر المجتمع بأسره.
(*) اعتمدنا في هذه الفقرة عن الحيض على ما كتبناه في الفصل السابع من كتابنا عن القرآن الذي لا يزال قيد التأليف.
محمد محمود أستاذ سابق بكلية الآداب بجامعة الخرطوم ومدير مشروع الدراسات النقدية للأديان
kassalawi99@hotmail.com
contact@criticalcentre.org
شارك هذا الموضوع: