تضرَّرَ الطَّيِّب صالح -الرَّجلُ الطَّيِّبُ- كثيراً في حياتِه، بسببٍ من رُدُودِ أفعالٍ (أي تصريحاتٍ) غيرِ مراقَبةٍ من جانبه، وبسببٍ من مدارسَ نقديَّةٍ اعتمدنا أُطروحاتِها من غيرِ تمحيصٍ كاف، سنتعرَّضُ إلى نظرتينِ أو منظورَيْنِ رئيسيَّيْنِ منها في هذا الخُصُوص، لعلَّنا نُنصِفُهُ في مَمَاتِهِ بعضَ الإنصاف؛ ولكن، قبل البدءِ في هذه المَهمَّة، سنُقيمُ تفريقاً ضروريَّاً بين مفاهيمَ أساسيَّة، يحتاجُ استخدامُنا لها إلى توضيح، حتَّى يسهُلَ عمليَّةُ التَّلاقي على فهمٍ موحَّد أو الاختلافِ على بَيِّنَةٍ من أمرِنا.
عند استخدامِنا لمفاهيمَ رئيسيَّةٍ مثل الثَّقافة، والسِّياسة، والاقتصاد، والاجتماع (والدِّين كذلك)، ينشأُ في العادةِ خلطٌ أو تداخلٌ بين المعنى الضَّيِّق للمفهوم وبين دَلالتِه الواسعة أو الفضفاضةِ في بعضِ الأحيان. على سبيلِ المثال، يُمكِنُ أن ينحصِرَ مفهومُنا للثَّقافة في الإنتاجِ الأدبيِّ والفنِّي، ويُمكِنُ أن يتَّسعَ ليشملَ كُلَّ تدخُّلٍ بشريٍّ في الطَّبيعة، بحيثُ لا يخلو عملٌ إنسانيٌّ عليها من سماتٍ ثقافيَّة؛ ويُمكِنُ أن ينحصِرَ مفهومُنا للسِّياسةِ في الانتماءاتِ الحزبيَّةِ المعروفة، ويُمكِنُ أن يتَّسِعَ ليشملَ كُلَّ ممارساتِ الأفرادِ داخل المجتمع، بحيثُ لا تخلو ممارسةٌ اجتماعيَّةٌ من مدلولٍ سياسي؛ واختصاراً، يُمكِنُ أن يُقالَ نفسُ الشَّيء عن الاقتصاد والاجتماع، حيث نشأ تاريخيَّاً عن اتِّساعِ الأوَّلِ ظاهرةُ "الاقتصادويَّة"، بينما نشأت عن اتِّساعِ الآخَرِ مقولاتُ "البِنيَةِ الاجتماعيَّةِ الشَّاملة" (ليو ألتوسير؛ نيكوس بولانتزاس؛ مهدي عامل). أمَّا بخصوص الدِّين، فهناك التَّعبيراتُ الدِّينيَّة المحدودة داخل كلِّ ثقافةٍ على حِدَة، كما أنَّ هناك فكرةُ الدِّينِ الشَّامل، الذي يجُبُّ كلَّ دِينٍ قبله.
وعندما يطرحُ بعضُنا فكرة التَّمييزِ الضَّروري، أو يعترضُ غيرُهم على عمليَّةِ الفصلِ التَّعسُّفي، بين السِّياسيِّ والثَّقافي، فإنَّ الطَّرحَ يعتمدُ المفهومَيْنِ في دلالاتِهما المحصورة، بينما يعتمدُ الاعتراضُ على الدَّلالةِ الواسعة للمفهومَيْن. وباعتمادِ هذه التَّفرِقة الضَّروريَّة، يُمكِنُ اعتبارُ الطَّيِّب صالح، بالمفهومِ الضَّيِّقِ للسِّياسة، غيرَ مُنتمٍ سياسيَّاً. إذ إنَّه لا ينضوي إلى تنظيمٍ سياسيٍّ بعينِه؛ إلَّا أنَّ الرَّجلَ الطَّيِّبَ قد تناولَ في قالَبٍ سرديٍّ شيِّق، ومنذُ وقتٍ مُبكِّرٍ (إنْ لم نقل غيرَ مسبوقٍ) موضوعاتِ الهُوِيَّةِ الوطنيَّة، وعلاقةِ الأنا بالآخَر، والعمقِ الحضاريِّ للممارساتِ الاجتماعيَّة؛ وكلُّها قضايا سياسيَّة من الدَّرجةِ الأولى، إذا اعتمدنا الدَّلالةَ الواسعة لمفهومِ السِّياسة. وعندما ندعو للتَّحلُّق حول الرَّجلِ الطَّيِّب، فإنَّنا نُدرِكُ تماماً بأنَّ آراءنا المتعدِّدة (التي عبَّرنا عنها بمختلفِ المشارِب) لن تخرُجَ عن هذا المنظورِ الثُّلاثيِّ الواسع الذي بَعَجَتهُ كتاباتُ الطَّيِّب صالح (والذي سنكشِفُ عنه تِباعاً في مُشاركاتِنا اللَّاحقة). ومن مَنظورِ الوحدةِ في التَّنوُّع، نُريدُ لمُساهماتِنا المتنوِّعة في إطارِ متنِ الرَّجلِ الطَّيِّب أن تكونَ أساساً للتَّوحُّد، الذي لا يُلغي تعدُّدَ الأصواتِ أو يُقصي أَحَدَاً، حتَّى لو خَرَجَ ذلك في شكلِ ردِّ فِعلٍ غيرِ مُراقَبٍ أو بسببٍ من جهلٍ أو تجاهُلٍ مُتعمَّد.
بخصوصِ المدارسِ النَّقديَّةِ السَّائدة، هناك نظرتانِ رئيسيَّتانِ في هذا الخُصوص؛ الأولى، نشأت وترعرعت في مجالِ الفلسفة والعلوم الإنسانيَّة، ويُمكِنُ اعتبارُ الفيلسوف الفرنسي (الجزائريِّ الأصل)، جاك ديريدا، واحداً من مؤسِّسيها، والمتضرِّرين في حياتِه من انتشارِها؛ والثَّانية، انبثقت في مجالِ الفلسفةِ والعلومِ الطَّبيعيَّة، ويُمكِنُ اعتبارُ الفيلسوف البريطانيِّ (النِّمساويِّ الأصل)، كارل بوبر، واحداً من مؤسِّسيها؛ وقد حاولَ تطويرَها توماس كُن، إلَّا أنَّه تضرَّر أيضاً في حياتِه من انتشارِها، وتسرُّبِها اللَّاحقِ خِلسةً إلى حقلِ العلوم الإنسانيَّة. يُمكِنُ وصفُ النَّظرةِ الأولى بأنَّها "تقويضيَّة"، إذ إنَّها تسعى لـِ"تفكيكِ" العملِ من خلالِ البحثِ عن الجزءِ الحيويِّ أو النُّقطةِ الرَّئيسيَّة التي يؤدِّي التَّنبيهُ إلى مكامنِ ضعفِها إلى انحلالِ العملِ كلِّه أو تفكُّكِه، بحيث يسمح ذلك بتوليدٍ مستمرٍّ أو انزياحٍ مطَّردٍ للدَّلالة؛ كما يُمكِنُ وصفُ النَّظرةِ الثَّانية بأنَّها "تفنيديَّة"، إذ إنَّها تسعى للقضاء، مرَّةً وإلى الأبد، على الأطروحاتِ أو النَّظريَّاتِ "الفاسدة". وانتشرت هذه النَّظرة "التَّفنيديَّة" أوَّلاً في مجالِ العلوم الطَّبيعيَّة، بينما سادتِ النَّظرةُ "التَّقويضيَّة" في مجالِ العلوم النَّصِّيَّة؛ وكلاهما تُستخدمانِ بشكلٍ واسعٍ في الممارساتِ النَّقديَّةِ السَّائدة.
إلَّا أنَّ ديريدا، خلافاً للتَّابعين له أو المتأثِّرين به، كان يضعُ تقديراً عالياً للعملِ المُراد تفكيكُه، ولا يقتربُ من عملٍ إلَّا إذا اتَّصف بالثَّراءِ النَّصِّيِّ واحتشدت نواصِيهِ بينابيعَ مُنتِجَةٍ لدلالاتٍ لا تنقطع؛ إذ لا معنى للاقترابِ من عملٍ "مفكَّكٍ" أصلاً. في المقابل، كان بوبر، خلافاً للوضعيِّين المنطقيِّين في فيينا، يرى أنَّه لا يُمكِنُ البرهنةُ بشكلٍ قاطعٍ للمقولات أو النَّظريَّاتِ العلميَّة، ولكن يُمكِنُ "تفنيدُها"، مرَّة وإلى الأبد، إذا تمَّ العثورُ على حالةٍ واحدةٍ فقط، لا ينطبقُ عليها مقتضى الحال أو النَّظريَّة. وقد أقرَّ توماس كُن بما أتي به بوبر، لكنَّه نبَّه، علاوةً على أهمِّيَّة "الدَّحضِ" في مراحلِ "الأزمات"، إلى اندراجِ أنشطةِ العلماء في وقتِهمُ "العاديِّ" داخل صيغةٍ نموذجيَّة، مُتَّفقاً عليها في أَوجِ هيمنتِها من قِبَلِ الجميع؛ بمعنى أنَّ "الخطأ" أو "النَّظريَّةَ المُتخطَّاةَ" يظلُّ له أو لها مكانٌ داخل الصِّيغةِ النُّموذجيَّةِ العامَّة، ريثما يتمُّ استبدالُها تماماً بصيغةٍ أفضلَ منها.
لم يكُنْ كُن راضِياً تماماً عن انتقالِ فكرتِه والعبثِ بها داخلَ مجالٍ غير مجالِها الحيوي (وهو العلومُ الطَّبيعيَّة)، وقد عبَّر في كتابِه "السَّبيل منذُ البِنية" (الذي جمعَه أصدقاؤه في أعقابِ وفاتِه) عن امتعاضِه من إحالةِ أفكارِه (التي عُرِضَ أهمُّها في كتابِه الأشهر: "بِنية الثَّوراتِ العِلميَّة") إلى مجالٍ دَلاليٍّ آخَر، تتحرَّرُ ممارساتُه النَّقديَّة من معاييرِ الانضباطِ العلمي، بجعلِ كلِّ شيءٍ مُمكِناً وقابِلاً للتَّصديق، مهما تهاوت حُجَجُه. وقد عبَّر ديريدا نفسُه عن امتعاضٍ مُشابهٍ من إحالةِ أفكارِه إلى مَسخٍ على يدِ المروِّجين المتحمِّسين غاية التَّحمُّس لأفكارِ ما بعد الحداثة (التي صدر بعضٌ منها بسببٍ من تحليلاتِ ما بعد البنيويَّة، التي كرَّسَ من خلالِها قراءاتُه لعددٍ محدودٍ جدَّاً من الكتب لاستجلاءِ أوجُهِها الرَّئيسيَّة). وقد فُتِنتُ رَدَحاً بأساليبَ نقديَّةٍ "تتصيَّدُ" عيوباً في المقروء، بغرضِ استخدامِها، على طريقة رولان بارت، في التَّعارُكِ الآيديولوجيِّ المفتوح. وربَّما تأذَّى الرَّجلُ الطَّيِّب في حياتِه قليلاً (وربَّما جنَتْ على نفسِها براغِثُ) من جرَّاءِ هذا التَّصيُّدِ المتعمَّدِ من قبل عددٍ من النُّقاد المُحدَثين.
ومنذ خطابيَ المفتوح إلى الصَّديق الماحي علي الماحي (تكفَّلَ اللهُ برعايتِه ومنَحَهُ صبراً للتَّعاملِ مع مرضِه، ووقتاً كافياً لإنزالِ ما "تصعَّدَ" لديهِ على ورقٍ أبيضَ أو شاشةٍ بلُّوريَّة)، ومروراً بتدخُّلي في الحوارِ الشَّهيرِ بين الدُّكتور حيدر إبراهيم علي والأستاذ عبدالله بولا (تكفَّلَ اللهُ برعايتِهما ومنَحَهُما صبراً للشِّفاء والاستشفاء، ووقتاً كافياً لإكمالِ مشروعَيْهما وخروجِ ثمراتِهُما إلى المطابعِ أو دُنيا الأسافير)، وانتهاءً برسالتي إلى القاصِّ الصَّديق عادل القصَّاص (أمدَّ اللهُ في عُمُرِه وحفِظَه لأولادِه وأهلِه ووطنِه)، أُحاولُ أن أُحيطَ بالمجالِ كلِّه، مُنبِّهاً لبعضِ العيوبِ الصَّغيرة، ومُغطِّياً لها في ذاتِ الوقتِ بتحليلٍ عامٍّ إيجابي؛ مُمسِكاً منهجَ الشَّجرةِ بيدٍ، ومُفسِحاً بالأخرى مجالاً للغابِ كي يمتدُّ وينمو بلا حدود؛ وبيُمناي "كُرَّاسةٌ منطقيَّة-فلسفيَّة" للفيلسوف الألمانيِّ لودفيج فيتجنشتاين، وبالأخرى "تحقيقاتٌ فلسفيَّة"، وهو أيضاً كتابٌ فتَحَ مُنفرِداً طريقاً مُمَهَّداً للنِّسبيَّةِ المعرفيَّةِ الفالِتةِ التي جاءت في أعقابِ حركة ما بعد الحداثة.
وبفتحِنا لمتنِ الرَّجلِ الطَّيِّب (ليس لرواياتِه وقصصِه القصيرةِ فقط، الذي كُنتُ أُسمِّيه في حياتِه بـِ"المتنِ الرِّوائيِّ المفتوح"، وإنَّما أيضاً لمقالاتِه ومقابلاتِه المسموعةِ والمرئيَّة، وما يظهرُ له لاحقاً من كتاباتٍ ومذكِّرات)، فإنَّنا نفتحُ عالَماً شاسِعاً، ننظرُ في أرجائِه إلى أُطروحاتِه ضمن سياقٍ بعينِه، ووفقَ منظورٍ محدَّد، يسمحُ بالكشفِ عن عيوبِ المقروءِ والمسموع، من غيرِ أن يُطيحَ بالدَّلالاتِ الكُلِّيَّة لأعمالِه "الكاملة"؛ فما كلُّ قرنٍ سيسنحُ سانحٌ لمناقشةِ عقولٍ نيِّرةٍ في قامةِ الطَّيِّب صالح.
تحرَّزنا في الحلقةِ الأولى بشأنِ استخدامِنا لمفهومِ "التَّحلُّقِ" نفسِه، وقلنا إنَّه يجبُ أن يتمَّ "على طريقتِنا"، وأن يتمَّ من قِبلِ "زُمَرٍ وجماعاتٍ مُختلِفةِ المشارِب"؛ وأوضحنا في الفقرةِ الثَّالثةِ عاليهِ أنَّ "تعدُّدَ آرائِنا" لن يخرجَ، فيما نزعمُ، عن المنظورِ الثُّلاثيِّ الواسع (الذي تهيَّأ للرَّجلِ الطَّيِّب باكِراً، بحُكمِ ملابساتٍ لم تسنح لغيرِه)؛ ونُضيفُ هنا، على سيرةِ ديريدا، ولمزيدٍ من التَّوضيحِ فقط، بدءَ محاولةٍ لزحزحةِ مفهومِ "التَّحلُّقِ" ِنفسِه (على أن نُكمِلَها على طريقةِ أبي علي الفارسي، في ثنايا حلقاتٍ قادمات)؛ فمادَّة [ح ل ق] تُشيرُ إلى معنى الإزالة، الذي يمكن أن يُفيدَ في التَّخلُّصِ من الفهم القديم"؛ كما تُشيرُ أيضاً إلى الاستدارة، التي لا تَكتملُ إلَّا بجِماعِ الآراء، على "اختلافِ مشاربِها"؛ كما تُشيرُ أخيراً إلى دَلالةِ السُّمو، فلربَّما ارتفعنا في السَّماءِ بأجنحةٍ من نور، إذا تعلَّمنا حِرفة التَّحاورِ الذَّكي، ورؤية الأشياءِ من الزَّاوية المُضادَّة، والتَّعاطفَ مع بعضِ سماتها، قبل التَّفكير المشروع في "تقويضها" أو "تفنيدها".
سنُركِّز خلال تجوُّلِنا عبر المتنِ الشَّاسعِ على استخلاصِ قيَمِ التَّسامحِ والتَّراضي والقَبُول، ورفضِ قيَمِ التَّعالي والإقصاءِ والتَّهميش، ليس في الوطنِ المحدودِ وحدِه، وإنَّما في العالمِ كلِّه، وذلك من خلالِ منافشتِنا للمحاورِ الرَّئيسيَّةِ للمتن؛ وهي في نظرِنا، إلى حين تنبيهِنا إلى محاورَ رئيسيَّةٍ أخرى: البندرُ الكولونيالي، الوطنُ الأم، والعمقُ الحضاريُّ الشَّامل؛ وترتبِطُ هذه المحاور، على سبيلِ المثال في "مَوسِمِ الهجرة"، وعلى التَّوالي، بشخصيَّاتٍ ثلاث، هي مصطفى سعيد، والرَّاوي، والكاتب.
محمَّد خلف
الأحد 8 يناير 2017
شارك هذا الموضوع: