وَاقِف بَرَاك، والهَم عَصَف، رِيْحاً كَسَح، زَهْرَة صِبَاك. ليلاً فَتَح، شُرْفَة وَجَع. قَمَراً رَحَل، فَارَق سَمَاك ... بِتعُود وتَلْقَى رِجَاكَ زُوْل، حفظ الوِداد، زَمَناً صَعَب..." الشاعرُ: مَدني النَّخلِي.
"السَّادِسَةُ والنِّصْفُ صَبَاحاً فِي أمدرمان، إذاعَةِ جُمهوريَّةِ السُّودان. أيُّها السَّيِّداتُ والسَّادَةُ، السَّلامُ عَليكُم ورحْمَةُ الله. أمدرمان تُحَيِّيكُم وتُقَدِّمُ أُوْلَى نَشَراتِها الإخْبَاريَّةِ لِهَذَا اليَوْمِ، يَقْرَؤُها إِلَى حَضَرَاتِكُم، كَمااااااال مُحمد الطَّيِّب، … أحمد سُليمان ضو البيت، … عَبَّاس ساتِي، … عبد الرحمااان أحمد، … عبد الوهاب أحمد صالح …". (رحمهم الله رحمةً واسعةً، وأسكنهم فسيحَ جناته مع الصِّدِّيقين والشُّهداء، وحَسُن أولئك رفيقا).
سَبْعَ عَشْرَةَ صِيْنِيَّةً، وبرَّاد شاي، تزاحمها أكثر من ثلاث كبايات لكل صينية، مرسلةً رنينها المميز في كل صباحات قريتنا الحبيبة، تتجه صوب الديوان المضيفة القائمة على شاكلة الجملون الذي يتسع لاثني عشر سريراً وعنقريبا، وتمتدُّ برندته المعروشة بالحصير وأخشاب الزَّانِ (البامبُو) المجلوب "خصيصاً" من الرصيرص والمابان والدمازين على بحر أزرق، قاطعةً رحلتها الظِّلية باتجاه الغرب، لتعبر بحر أبيض بالبنطون (المعدية) التي تنتظم رحلتها أسبوعياً ثلاثة أيام بين الرنك ووداكونه. وتنتصب أمام البرندة شرقاً شجرةُ النِّيم المُعمِّرة ذات الحظوة والاهتمام الكبير المتميز عن بقية أشجار القرية بل شجيرات الغابات الصغيرة والكبيرة المحيطة بها، من هجليج (لالوب) وبَان وكِتِر وقَرَض وليُّون وأندراب وعرديب وأراك وطلح وهشاب وليمون ومنقة …الخ، وذلك بتواتر وانتظام تشذيبها تزييناً وتجديداً بقطع (حِلاقَة) أغصانها المورقة المشرئبة وهي تسبح في فضاء المكان منقِّيةً إياه من فاسد الغازات والحشرات، في شهرٍ محدَّد ويومٍ مُعَيَّن من كل سنة مرَّت على نِيمة الدّيوان منذ بُلُوغها سِنَّ الإثمارِ والإظلال.والنِّيمةُ ( التي مازالت شامخةً حتى يومنا هذا واقفةً وحْدها، وقد عَصَفَ بها الهمُّ، تجترُّ تاريخها مع القرية، يسكنها الحنين وريح النوستلجيا لِسَيْفِ أبينا (أبو آسيا) كي تتزيَّنَ "مرَّةً أخرى" مرتديةً حُلَّة الإيراق وتكاثف الاخضرار لتمنح الجميعَ ظلَّها الوريف)، كانت تقع "مباشرة" على جهة الشمال الجغرافي لسوق القرية الحبيبة، مهديةً ظلها الوريف الكثيف، بخضرة دائمة تُطلُّ من بين وريقاتها ثمار النيم الخضراء والمصفرَّة والتي في طريقها للنضج، ثم التساقط لتعلفها البهائمُ من ماعز ونعاج وخراف وعجول وثيران وأبقار وحمير وجمال، حتى الدجاجات وديوكها تَنْقُدُها (تَلْتقِطها) بحذرٍ ورِيْبةٍ مخافةَ أن تكون من القَواص وآفاتِ الأرضِ الطِّينيَّةِ الوَلُودةِ مُهْدِيَةِ الأزوالِ وما يُساكنهم العيشَ من حشراتٍ تَدُبُّ عليها أو تَكمنُ فيها ملاذاتٍ حَيَويَّةً كاملةَ الخصوبة في تمام عناصرها الغذائية، لتتفرغ الآفاتُ لدورها البيولوجي بإرعابِ الدواجن والطيور حتى صِغارِ النَّعَامِ بلذعاتها القاتلة الفتَّاكة. تلكم النيمة، كانت مثابة المندوب (عمدة القرية وأريافها) حيث تزين بالكراسي والترابيز (الطقطاقات) في الفترة من السابعة والنصف وحتى الثامنة والنصف صباح كل يوم، ليصبح المكان موافقاً لمزاجات تناول قهوة الصباح بطقوسها الزولية الحميمة. كما لِنيمتِنا "المُدلَّلةِ الطَّروبة) مسارب أخرى تقودها نحو دروب الليل الذي يفتح شُرفات الوجَع، المؤدية إلى إظلام سماواتها برحيل القمر عنها، فقد ظلتِ الحضنَ الوثير لأفراح القرية من زيجاتٍ وختان، حيث كانت تستقبل سَيرة الفرح بدلاليكها وأشتامها وهي في دربها المرسوم المؤدِّي لسيد الأنهار في رحلته الهادئة الرزينة وهو يحتَلُّ المخيخ من تقاليد الأزوال النيليين والنيليات وعاداتهم منذ (…خطَّ المجدُ في الأرضِ دروبا …)، حيث تتوقَّف السيرةُ تحت ظلالها، وتعلو وتيرة الطبول الموشاة باللَّحن َاليُسافرُ عميقاً عميقاً في تجاويفِ النُّفوس الطَّروبة، فتتسامى الأرواح تمتزج بالمعاني المنثورة على الكلام، فتحُطُّ على الناس انفعالات حميمة تطَّرب فيها دقات القلوب فينداح السعد السخي ناظماً الناس في عقدٍ إنساني نضيد، وفعلٍ بشريٍّ تتابع أحداث التي يزيدها الطَّلقُ النَّاري تأجيجاً، فتتخالفُ إيقاعات اللأزوال والأشتام والدلاليك والأصوات المنتشية بالزغاريد، وكلمات " أبشر، بالخير، أبشر …". وبعدها تنطلق الأفراح نحو ذاك النهر الذي وصفه مرسي صالح سراج مزهوَّاً به (هَامَ ذاكَ النَّهرُ يَسْتَلهمُ حُسنا، فإذا عَبْر بلادي ما تمنَّى، طَربَ النِّيلُ لديها وتَثَنَّى، فأروي يا تاريخُ للأجيالِ عَنَّا …
على ذبذبات موجات أثير هنا امدرمان، وصوت المذيع الدافئ في قوةٍ واقتدار أدائي لغوي كامل التأثير، مدرٍّ لاستجابات الاصغاء باهتمام واستغراق، يتناول أفراد سَبْعَ عَشرَةَ أسرةً ودَّكونيَّة وضيوفهم شاي الصباح، ومن ثمَّ يتزودون بأخبار البلاد والعباد والعالم، في جلسة تثاقف هي وجبةٌ معرفية تقدِّمها الإذاعة السودانية لمتابعيها في المدن الكبرى، والصغرى، والمتوسطة والدانية والقصية، والقرى والأرياف والحَلَّال والفُرقان والقطاطي والأوض (الدانقات) والحيشان والرواكيب قريبها وبعيدها.
ونواصل …
شارك هذا الموضوع: