"... في حَضْرَةِ مَنْ أَهْوَى، عَبَثَتْ بِيَ الأشْواق. حَدَّقْتُ بِلا وَجْهٍ، ورَقَصْتُ بِلا سَاق. وزَحَمْتُ بِرَايَاتِي وطبُوْلِيَ الآفَاق. مَمْلُوكُكَ، لَكِنِّي، سُلْطانُ العُشَّاقِ..." الشاعرُ: محمد مِفتاح الفيْتُوري
ومساراتُ الظعائن تأخذ دروبها الواسعات الفسيحات ذوات الملامح التي لا تَـمَّحِي أو تتغيَّر منذ سنواتٍ وعقودٍ وقرونٍ من الزمان الاجتماعي البشري والطبيعي الأنطلوجي، وهو ينتظم البلاد والناس ويدخل التاريخ من أبوابه الشامخات المشرعات ليلَ نهار، ظلَّ موسم الخريف لازمةً حميمة في حديث أهلِ القرى والأرياف نواحي بَلدتنا الحبيبة وهي تستقبله في بواكيره أوان الرُّشاشِ، ورشقات حُبيبات المطر الرذاذ، وزخَّات الفرحِ المصاحب للهطول قصير العمر، طويل العنق السَّعدي، كثير المسرَّات والفرح السَّخي، وهذه العُشَيْباتُ الطَّرياتُ تُنْبتُها الأرض البَتُولُ بُنَيَّاتٍ لها الخُضرة عنوانٌ وموئلٌ حَفِيٌ، وهيَ تتوشَّح مزهوَّةً "تَبَرَاً" يزدانُ بِزُهيراتِه الضَّاجَة بالبياضِ كَذُبْدَةِ الحَلِيْبِ اللَّبَنِ بعد غَلْيِهِ وخَجِّهِ في بُخْسَةِ القَرَعِ المَشفُوعةِ، والـمَهزوزة بإيقاعٍ تُصَاحِبُهُ الدَّندنات، ليخرجَ لنا الرُّوب في كثافته المَاهِلة المشبعة والمُرْوية في الآن نفسِه. وتلكُم الشوقارات والدُّروب التي ترسمها عُشيباتُ الخريف البكر ملاطفةً أوجه المخلوقات بالنسمات المحمَّلات أملاً وحلماً قبل ضجيجها الحيوي المرطِّب للنفس والروح قبل الجسد.
بانتهاء تناول أكواب الشاي (الأحمر) بعد الغداء المحضور من أهل سبعة عشر بيتاً هي مجموع الأسر "الوداكونيَّة" التي تنتظم بشكل راتب حاملةً شاي الصباح الأحمر واللبن مع اللقيمات وبسكويتات وخبايز الأعياد التي تمهر فيها وتتفنَّن نساء البلدة وما حولها من أرياف، وكذا صواني الفطور والغداء المزدحمة بخيرات النهر النبيل من أسماكٍ (البُلْطِي، خَشُم بَنَات، البَلْبُوط، الكأس)، وكذا منتجات جناين الخضار الملحقة بحواشات القطن (الخدرة البربريَّة، الويكة، البامية، القرع، البامبي، البطاطس)، تنتشي المائدة قبل آكليها وتطرب بالمفروكات من ويكة وخدرة وتقلية و… ، وتزدان بطَّبائخ من شاكِلَةِ الدُبَّة (قرع) والبامية والبامبي والبطاطس، والدَّمعات الدُّجاجيَّة وعلى قمَّتها دمعة جداد (دجاج) الوَادي، ولَحْم الغزال، وسيِّدة القِمم الدَّمْعَوِيَّة لَحْم الحُبَارَى Houbara ذلكم الطَّائِر حامل الوسمِ العلمي Chlamydotis، والذي يوجد منه اثنان وثلاثون (32) نوعاً في العالم، وتحظى قارة إفريقيا بالقدر الأوفر منه (23) نوعاً. ومن أكثر أنواع الحبارى شهرةً، هو الحبارى العربية والتي يميل لونها إلى الشحوب، والحبارى الآسيوية والتي تميل إلى الاصفرار الرَّملي في لونها، أما الحبارى الإفريقية فلونها يميل إلى السواد.
بعد وجبة غداءٍ مشبعة في ديوان المندوب (أبو آسيا)،يكون اللوري "الأوستن" المُحمَّل بجوالات حصاد الموسم المطري من الذرة، وأكثرها الفيتريتة، يكون "وهو يربض تحت ظلال النِّيمة شرق الدِّيوان" جاهزاً للتحرك جنوباً، يحمل مدخلات الطعام الغالب والغذاء المفضَّل المتنوع والمتشكِّل كِسْرةً، وعصيدةً، ومناكيلو، وأَتَبُوْب ذلكم الشَّرابُ الغني بالفايتمينات المغذية والمقوية. طاقم اللوري (الشاحنة) يتألف من السائق والمساعد الكبير والمساعد الصغير وأمين اللوري. ولكلٍ مهمتُه، فالسائق هو المسؤول الأول عن خط سير الرِّحلة وسلامة الركاب والمتاع، أما المساعد الكبير فيقوم مقام السائق في القيادة والتوجيه، وله في متابعة الرحلة وسلامة الُّركَّاب، واقتناص الصيد الثمين من دجاجات الوادي والغزلان نصيب عظيم. كما أن المساعد الصغير (مُسَاعِد حَلَّه) أو كما يحلو لأصحاب اللواري والعاملين في حقلها الموسوم بقيم إنسانية والموشى بمقولات اجتماعية تسير بها الركبان والظعائن، وتدخل قواميس اللغة الاجتماعية بفاعلية وأثر بليغ. فهو الذي يقوم بالخدمات "اللوجستية" المسهلة للرحلة، من تجهيزٍ دَقِيقٍ لمحتويات صندوق الزُّوادة الذي يتوهَّط معتلياً كابينة السائق على الناحية اليُمنى، ضاجَّاً بمستلزمات الأكل ومُحسِّناته وأدواته، بجانب الخبز البلدي (الرَّغيف) المصنوع على أفرانٍ منزليَّة تقليدية، وعلى يسار هامة الكابينة يرقد رابضاً صندوق الاسبيرات ومستلزمات الشاحنة من زيوت وشحوم …إلخ.
ونُوَاصِلُ
نشر فى صحيفة الاخبار
شارك هذا الموضوع: