"... كَتَبْتَ لَيْك واللهِ يا قَمَرَ الزَّمان،... عينيكي حِس أطْفال بِنَادُوا القَمْرة للغَايِب يعُود، وجَبِيْنك الضَّوَّاي غُنَا الحَبُّوبة في الزَّمن السَّعيد، يَا قَمْرَا، أقِلْبِي السَّنْسَنة الحَمْرَا، وشُوفِي ليه مَا جَا..." الشاعرُ: صَلاح حَاج سَعيد.
ثلاثيةُ الزمنِ والذي هو الحياةُ الموهوبة للإنسانِ (الآنَ وأمسِ وغداً)، هي نفسُها ثلاثيةُ الحاضرِ والماضي والمستقبل. فالواقع الشاخص الحاضر الآن، تتلقفه النفوسُ بعجلةٍ وشغفٍ أو تراخٍ وتثاقلٍ آخذةً له في مَحْمَلِ الرَّاحة والرِّضى أو الإكراه والعبءِ الثقيل، وذلك لطبيعته ذات الفاعلية والتأثير المباشر عليها. أما الأحلام والأمنياتُ فلها وقع آخر على النفوس، حيث يُعدُّ الحلمُ رغبةً جامحة تُلِحُّ على الإنسان بتحقيق هدفٍ من أهدافه المرغوب فيها،وهو لا يحمل رؤيةً واضحة الخطوات لإنجاز الهدف، وتنزُّله واقعاً في حياته. والأمنيات تُعدُ رغباتٍ "زرائعية" مؤقتة تزول بزوال مثيراتها من الظروف المحيطة بها والدافعة لظهورها. وبلغة علماء النفس تكون دوافع الأحلام تكامليَّةً Integrative بينما الأمنيات دوافعها Inner Driver زرائعية Instrumental.
ومَراكِبُ أحلامنا في مِلاحَتِها وهيَ تبحرُ تَجُوبُ فضاءات ما كُتِبَ لنا من مساحاتٍ مترعاتٍ بالبراح والعيشِ الكريم، وأزمنةٍ مكتنزاتٍ بالذي ولَّى من الأعمار وما هو كائنٌ مقيم، وما ستأتي به الأيام، تَظَلُّ الأغنياتُ مواعينَ ذاكرةٍ تَشيخُ ولا يُصيبها الخَرَفُ و لا "تَتَزَهْمَر"، وإنْ شَغَلَها اليوميُّ من رَهَق الحياة، إلاَّ أنها تنهمر شلاَّلَ صَحْوٍ وانتباهٍ مثيرين، يرشقُ حاضرنا الآني بلطافةِ اللَّحظةِ، واكتمال دورات أقمارِ الزَّمان نواحي النفس والروح والجسد، وفي لحظَةِ تَجلِّيها "الزمكاني" تَنْبُتُ الأفْرَاح ثماراً للأغنيات لِنَحْصِدَ الحنينَ لشيئٍ ما، أوشخصٍ ما. غَنَّى المغنون، وأنشد الشعراء والمنشدونَ كلماتٍ مُجنَّحةً تُحَلِّقُ سابحةً في عالم البلاغة، وتتخيَّر المجازات والاستعارات،ومن أنواعها التي أصبحت درساً رَاتِباً في حقل الأسلوبية Stylistics والتي هي أحد فروع علم اللغة التَّطبيقي Applied Linguistics، المتقاطعة مع علم اللغة العام أوالوصفي، الاستعارةُ التَّشْخِيْصِيَّةُ Personifying Metaphor، وتسمى كذلك استعارة التشبيه الإنساني، حيث يتم فيها إكسابُ الجمادات والنباتات بعضَ صفاتٍ بشرية، كما في منادات القمر وجعله فاعلاً لقلب السَّنسنة "يا قَمرا، أقلْبِي السَّنْسَة الحمرا". والاستعارةُ التَّجْسِيْدِيَّةُ Concretizing Metaphors، والتي تتولَّدُ نَتيجةَ اِقتران كلمةٍ تُشير دلالتُها إلى جمادٍ، بكلمةٍ أخرى تشير إلى مجرد، أي نقل المعنوي إلى صورة المحسوس، أي تحويل المعنويات من مجالها التجريدي إلى المجال الحسي، كما في نقل الأفراح من دلالتها المعنوية إلى ما يتصل بفعل الإنْبَاتِ الحسِّي لدى النَّباتات، وتحويل الحنين من تجرده، إلى فعل الحصاد ودلالاته على قطف الثمار بحسيته المرتبطة بالنبات،كما ورد في سياق نصِّنا هذا، " تَنْبُتُ الأفْرَاح ثماراً للأغنيات لِنَحْصِدَ الحنينَ …" أمَّا ثَالِثُ الاستعاراتِ فَهو الاستعارةُ الإِحْيَائِيَّةُ Animizing Metaphors ، والتي يُعِدُّها كثيرٌ من المشتغلين في هذا المجال، أقوى، وأطرفَ الاستعارات الثلاث، فهي التي تَردُ عند اقتران كلمةٍ مجالُ استخدامِها كائنٌ حيٌّ بشرط أَلا تكون من خواصِّ الإنسانٍ، بكلمةٍ أخرى ترتبط دلالتها بمعنى مجردٍ أو جماد، كما في نقل الأحزان وهي معنوية حقلُها تجريدي، وتحويلها إلى ما تتصل دلالتُه بكائن حي هو النبات بإيراد فعلِ التَّفتُّح الدال على الزهور والورود، وليس من خَواصِّ الإنسان كما أورده الشاعر صلاح وغناه مصطفى"… تتفَتَّح الأحزان غَريبة ومُذهلة…".
تلكَ يا قريتنا الحبيبة كانت بعض أحلامنا الراحلات إقامةً فينا، منغرسات على وجه القلب والذاكرة ولبهما، ممعناتٍ في الاسترخاء الوهيط على النَّفس في غرفاتها المفروشة بالنوستلجيا وطِيْبِ الحُّبِّ الذي له اِفْتِضاح.
نهايات فبراير، بداياتُ مايو كل عام منذ سبعينات القرن العشرين، أصبحت فترة ما بعد حصاد الذرة " مُشبعة الأزوال" واكتمالها أوائل فبراير، سانحةً من الزمن المدرار أفراحاً وإعمارا للنفوس والأرض وما عليها ومَن عليها. حيث تئنُّ الـمَطَامِيرُ (الصَّوامع التَّقليدية المحفورة في الأرض) بالذُّرة حصاد الموسم من فيتريته، وقدم حمام، و ودالفحل، والدَّبر …إلخ، وكذا تتوهَّطُ السُّوَيْباتُ (صوامع تقليدية محمولة على شِعَبٍ فوق الأرض) حيشان البيوت معلنةً عن خير كثير ومخزونٍ استراتيجي للأسرة والأهل والجيران. هذا على مستوى الزراعة التقليدية البسيطة في الحواشات والجباريك والحيازاتُ الصغيرة داخل البيوت أو على أطراف القرية. أما الزراعة الحديثة، ذات المعدات التي تزرع وتحصد، من تركترات وزرَّاعات، وحاصدات، فقد كان مجالها الحيَوِيُّ مشاريع الطيَّارة للزِّراعة المطريَّة الواقعةُ "إداريَّاً" ضِمنَ محافظتي أعالي النِّيل وكردفان سابقاً، والتي تحتلُّ الأراضي غرب وداكونه، وشرق العبَّاسية تقلي والترتر بجنوب كردفان.
نشر فى صحيفة الاخبار
شارك هذا الموضوع: