الشاعرُ الفيلسوف الرَّاحل: محمود دِرويش.
ومراكبُ أحلامِنا الصغيرةِ والكبيرةِ مازالت تُفَتِّشُ بَاحثةً في قلقٍ محمومٍ وحميد عن مرافئ ومراسي ومَشَارع تَحُطُّ عليها رحالها الـمُحمَّلات شوقاً للذي تأتي به مقبل الأيام والسنوات كامل التحقيق في تمامه البهي المتناغم، تَنْدلقُ على قريتنا الحبيبة وما جاورها من أرياف جنوب أم جلاله والكويك غرب النيل الأبيض، والقيقر والرنك على عدوة النهر "الشَّرقيَّة" الأخرى، حركةُ صائدي الأسماك (السَّمَّاكَه)، وهم خليط من الشلك، والهوسا، والملكيَّة، والسِّليم، ودينكا أبلانق، ومعظم تداخلات سودان المليون ميلٍ وحُلمٍ وعشمٍ يَتجدَّد، والصائدون لِشباكِهم وَكَوَاكِيْبِهم وسنَّاراتهم نَاصبون. وعلى المراكب التقليدية المنحوتة من جذوع الأشجار المُلْحِمةِ الضخمة الرَّيَّانة (أَشَرُوك) لِأرزاقِهم يَتتبعون. وهكذا الأزوال يُمارسون "الإِنْهَارَ" النيلي نواحي جنوب كوستي، شمال ملكال.
لَقَد كُنَّا هناك، وهاجس السفر المقيم والرحيل متشعِّب الآفاق والوجهات والمظانِّ والفضاءات يَلُفُّنا، حيث كنَّا نجمع سيقان نبات "الطَّرُور" النيلي اسفنجي الملمس والتكوين، حازمين الطَّرورات بِلحاها المتين، صانعين مراكبنا الصغيرة الجميلة بمتعةٍ وعزيمةٍ لا تلينُ، بل تُضيء ولا تحترق ! . وما نجتهد في تركيبه وحَزْمِه من جسد نبات الطرور، ليس مركباً بمقاييس مرتادي الأنهار وصائدي ثرواتها الحيوية السَّمكيَّة والتِّمْسَاحِيَّة والقِرِنْتِيَّة، إنَّما هُو "الطُّوف" كناية عن طَفْوِه على وجه مياه سيد الأنهار (النيل الأبيض). والحقيقة التي نستبطنها في انهارنا السمكي، ماهي سوى مَجَادِيفُ صبيَّة باكرة لارتياد فضاءات أُخَر، مجترحين حيلاً بريئة تفضح ما توطَّن في النُّفُوس وتَحكَّر، مُلخِّصاً بعض الوسائط المعينة على سفرٍ بعيدٍ بعيد، ورحيلٍ تتكاثرُ وجهاته وتتعدَّدُ وفقَ الحاجةِ ومُؤَطِّرات الأفق الإنساني آنذاك.
نهاياتُ الدَّرت، بدايات الصَّيف هي نقلة أخرى لنا ونحن نشهد انحسار مياه النهر الأبيض النبيل، مخلِّفاً جُزُراً نيليةً في حجمها الصغير "نسبيّاً"، وثرائها الكبير "فعليّاً" بأنواع جميلات مملكة الأسماك النيلية بأحجامها المتباينة، هديّةً لصائديها السَّمَّاكة، وغيرهم من الهواة عاشقي التَّرحال والإنهار والسفر الرحيل كحالنا. حيث كُنتَ تنصب سِنَّارتك المطعَّمة بِــــــ "الصَّارقيْل" الذي نستخرجه من باطن الطين الأسود اللَّزج أو المخلوط بالرمل الشاطئي، والذي يُشبه خيوط طعام "الشِّعيرِيَّة" مُسكِتة "كَدائِس" بطونِ ضيوف الهجعة"!
أسماك النيل الأبيض متعددة الألوان مختلفة الأحجام، متباينة الطباع الخَلْقيَّة والخُلُقيَّة في مملكة ذوات الزَّعانف والخياشيم، تتلمس طريقها المحفوف بالمخاطر "الشَّبَكيَّة، والسِّنَّارِيَّة، والكوْكَابِيَّة" وهي توازن ضابطةً أذيالها مغبةَ التمرُّغ في وحْلِ الطمي النيلي الخصيب، أوالاختناق بضحالة المياه وحشو خياشيمها بالطين، وهي تزاحم رفيقات المصيدة "البطريقيَّة" التي تحفها من كل ناحية وصوب.
أما أميراتُ الأسماك النيلية، تلكم البلطياتُ الجميلاتُ ، والتي يطلقون عليها عالمياً اسم Tilapia Nilotica أي البُلْطِيّ النِّيْلِي، فقد كانت مقصدنا الصَّيدي الأول والأفضل، وذلك لكثرتها ولذة لحمها حتى تكاد أن تكون إحدي بُنيَّات النيل المفضَّلات على جميع ما بمملكته من حيوات مائية.
ويجرنا الحديث عن البلطيات النيليات نحو رحيلنا البَعْدِي تجاه جنوب شرق آسيا، حيث صارت مملكة السيام (تايلاند) من أكثر الدول إنتاجاً وتصديراً لأسماك البلطي النيلي خاصةً، بما أنَّها لم تكن تَعرفه أو تسمع به من قَبْلُ. والفضلُ يرجع لملك السِّيام راما الخامس، والذي تلقَّى عام 1965حوالي خمسينَ سمكة صغيرة من البلطي النيلي هديةً من الأمير الياباني "وقتها" أَكِيْهِيْتُو والذي صار امبراطوراً لليابان لاحقاً، فقد قام ملك تايلاند باستزراع الأسماك في مزرعة بقصره، وظلَّ يتعهدها لسنوات حتى صار عددها مهولاً، فأهدى أصبعيات البلطي Fingerlings أي صغارها التي تُخرجها بفمها، متبرِّعاً بعشرة آلافٍ منها إلى إدارة الثروة السمكية بتايلاند لتوزيعها على المزارعين وفقراء الأرياف لتسد الرمق وتكون مصدر رزق. وقد نحجت مبادرة الملك نجاحاً منقطع النظير، حيث أصبحت البلطيات النيلية من أهم روافد المنتجات الغذائية في السوق المحلي التايلندي بواقع إنتاج 220.000 مائتين وعشرين ألف طِنٍّ سنوياً، ومؤخراً دخلت الأسواق العالمية كواحدة من أكبر المصدرين لهذه البلطيات الجميلات المشبعات.
ونواصل
شارك هذا الموضوع: