يشوب الموقف من نظام السلطة الانتقالية الكثير من الارتباك لدي عدد كبير من النخب السياسية والأفراد بسبب تعقيد العمليات التي تنطوي عليها هذه المرحلة والخيارات السياسية والاقتصادية للنخبة الحاكمة والمعارضة. لأنها نتاج لمخاض تاريخي طويل، حظيت ثورة ديسمبر عند ميلادها المبارك بدرجة عالية من الإجماع الشعبي وطنيا، والتقديراقليميا ودوليا بفضل قدرتها الابداعية علي احداث التغيير سلميا ضد النظام الاسلاموي البائد.
غير ان بعض الجينات التكوينية السالبة للثورة، التي تبدت لأول مرة في ثغرات الوثيقة الدستورية، بالاضافة للتعقيدات والمعوقات التي ظلت تضعها قوي النظام البائد حالت دون تفجير الثورة لكل ممكناتها التغييرية وانتهت بها إلي تسوية سياسية هي ربما كانت في تقديرات قادتها السبيل الأمثل لهبوط طائرة الثورة بسلام علي ارض الواقع، بكل تعقيداته، حتي يتم تجنب هبوطا خشنا قد يكون تكلفته عالية جدا من حيث التضحيات والخسارة في الارواح.
ان الركون إلي الهبوط الناعم كان خيارا سياسيا للنخبة الفاعلة التي ساهمت في احداث التغيير، بقيادة الثورة اولا وبعد نجاحها بإجراء المفاوضات والصفقات السياسية نيابة عن الثوار وبرضي غالبيتهم. فالهبوط الناعم كان خيار النخب السياسية وقادة الكفاح المسلح، ولذا جاءت التسوية بينهم والنخب العسكرية ممثلة في اللجنة الامنية. وبالنتيجة كانت الوثيقة الدستورية والاتفاق السياسي وتشكلت السلطة الانتقالية الراهنة بالكيفية التي تشكلت بها. وهو خيار ربما فرضته تقديرات هذه النخب لتكلفة الدفع بالفعل الثوري لنهاياته المنطقية وربما أيضا فرضته الضغوطات الخارجية التي كانت تدفع في اتجاه التغيير عبر التسوية بدلا عن الرهان علي قدرة الثورة السودانية علي احداث تغيير جذري عبر التصادم مع سدنة النظام البائد المسلحين والانتصار عليها.
السلطة الانتقالية هي نتاج ثورة شعبية أشعلت شرارتها الاولي مدينة الدمازين، في جنوب السودان "الفضل" يوم ١٣ ديسمبر ٢٠١٨ ونفخت فيها مدينة عطبرة والقضارف وبربر ونيالا وغيرها من روحها لهيب الثورية قبل أن تشتعل البلاد غضبة تمددت في كل أرجائها تتويجا لنضالات تيارات المقاومة السلمية وحركات الكفاح المسلحة التي انفجرت منذ السنوات الأولي في العاصمة والهوامش من اجل استعادة الديمقراطية وتحقيق العدالة والمساواة. غير ان الثورة السودانية لم تصل لنهاياتها المنطقية بتقويض النظام الاسلاموي وتفكيكه وبناء بديل ثوري علي إنقاضه، ولكنها بدلا عن ذلك انتهت إلي هبوط ناعم ارتضاه كل الفاعليين السياسيين المتحكمين في الفعل السياسي آنذاك (قحت واللجنة الأمنية لنظام الانقاذ الاسلاموي وغيرهم) في داخل السودان وخارجه.
التسوية السياسية وقبول تقاسم السلطة بين قحت والعسكريين منعت الثورة من الوصول الي محطتها الأخيرة بسبب التوافق علي تأسيس شرعية سياسية قائمة علي تراضي كل الاطراف المعنية آنذاك. وبذلك تأسست السلطة الانتقالية لا كسلطة ثورية ولكنها سلطة تسوية سياسية يتزامن فيها القديم الإنقاذي مع الجديد الثوري ويتساكنان، احيانا في تناغم ظاهري ولكن غالبا في صراع مستمر بينهما، بوسائل مختلفة. غير ان الصراع ظل دوما في إطار الشرعية السياسية التي تم التوافق عليها وتمحورت قضاياه حول المشروعية القانونية لممارسات بعض المكونات، خاصة المكون العسكري. بمعني أن الخلافات في جوهرها لم تكن حول الاتفاق الذي أسس للهبوط الناعم بل هي حول قضايا تتعلق بالصلاحيات والسلطات ودستورية بعض الممارسات والقرارات والاتفاقيات.
احتفي الجميع علنا بتأسيس شرعية التسوية والهبوط الناعم في يوم كان مشهودا، ولم يخرج عن هذا الإجماع الا قلة علي اساس مبدئي مثل الجبهة العريضة بالإضافة لأحزاب النظام البائد وحلفائها المتوافقين معها لأسباب معلومة . ربما كان اول تحدي لشرعية الهبوط الناعم جاء من قبل الجبهة الثورية وحركات الكفاح المسلح، لا لان هذه الفئة كانت معترضة علي مبدأ التسوية ولكن بسبب ما اعتبرته إقصاءا لها. ولذلك استطاعت هذه المجموعة أيضا ، عبر مفاوضات جوبا، التوصل لصفقة سياسية سمحت لها بإجراء تعديلات طفيفة علي المجال السياسي والوثيقة الدستورية المؤسسة للسلطة الانتقالية ومن ثم وافقت علي الانخراط في اللعبة السياسية وفقا "للشرعية السياسية المعدلة". مبدأ التسوية والهبوط الناعم ظل هو هو باعتباره اس قواعد اللعبة السياسية في المرحلة الانتقالية بالرغم من محاولات الإقصاء والاحتواء من طرف المكونات الثلاث الأساسية في السلطة- العسكر والمدنيين وقادة الجبهة الثورية.
ان المناداة بإسقاط السلطة الانتقالية من قبل بعض القوي الثورية التي ساهمت في تأسيسها لا يمكن تفسيرها بأنها موقف متسق مع ممارسات وخطابات هذه القوي منذ تأسيس سلطة الهبوط الناعم الانتقالية. فقد كانت هذه القوي شريكا أصيلا في هندسة عملية الهبوط الناعم وبالتالي يجب فهم مواقفها الأخيرة من زاوية التحول من موقع السلطة الي مواقع المعارضة. لان هذه القوي كانت جزءا من المفاوضات السياسية في مرحلة التأسيس كما أنها حظيت ببعض المكافآت السياسية بكيفية مباشرة او غير مباشرة. اذن المناداة بإسقاط النظام هي في التفسير الأخير سحب اعتراف هذه القوي بالشرعية السياسية القائمة والدعوة لتقويضها وبناء بديل مختلف. ولا غضاضة من هذا الموقف اذا ما انبني علي وضوح فكري وشفافية سياسية واعتراف صريح لمشاركتها في بناء هيكل شرعية الهبوط الناعم. ولا بد من الاشارة الي ان الدعوة لهدم الهيكل واسقاط النظام لا تتوافق مع "العودة إلي منصة التاسيس" لان منصة التاسيس هي منصة الهبوط الناعم التي شيدوها وكانوا أمناء عليها يوم الاحتفاء بتقاسم السلطة الانتقالية بين المدنيين وجنرالات اللجنة الأمنية للنظام البائد في أغسطس ٢٠١٩.
يجب النظر وتحليل تفاعلات الثورة السودانية في سياقها التاريخي وضغوطات البئة وطنيا واقليميا ودوليا. ان الحكم علي المواقف المختلفة بانها صائبة او خاطئة هو في حد ذاته موقف ايديولوجي مهما تلبس بالعقلانية والموضوعية ويتنافى بالضرورة مع مبدأ نسبية الحقيقة القار في العلوم الإنسانية وحتي في العلوم الحقة. فقط الدوغمائي/الوثيقي هو الذي تتبدي له الأشياء فقط في لونيين اثنين متناقضين ولا مجال لتداخل او تمازج بينهما. ان الشحنات السالبة التي تمت تعبئة "الهبوط الناعم" بها وتغليفه بالخيانة بشكل مستتر او صريح، ومن ثم "صرفه" لكل مؤيد لقرارات وممارسات السلطة ما هي إلا عملية تحايل مكشوف لتغبيش الوعي حتي يتم حجب حقيقة مشاركة كل قادة الثورة من احزاب قحت السابقين والحاليين في الهبوط الناعم. وبنفس القدر أن الهجوم الدعائي والعدائي علي القوي الثورية التي أعادت قراءتها للثورة وسيرورتها وخلصت إلي المناداة بإسقاط السلطة الانتقالية التي شاركت في تكوينها و"العودة إلي منصة التأسيس" هو خصم علي الثورة وأرباك لمسيرته البحث عن الوحدة والديمقراطية ودولة الحق والقانون.
انطلاقا من هذه القناعة، لا بد من احترام المواقف المختلفة من السلطة الانتقالية وفهمها، خاصة المواقف الناتجة عن قراءة الواقع السياسي من منظورات سياسية وفكرية تتسم بقدر كبير من الموضوعية في المقاربة والتحليل. ولكن هذا لا يمنع من فتح مفاكرات حول عدم تماسك بعض مفردات الخطابات التي تدعو لاسقاط النظام من قوي ثورية ساهمت بقدر مقدر في دفع عجلة الثورة. وهذا لا يمنع أيضا من توجيه النقد لسياسات السلطة الانتقالية وحواضنها السياسية وكشف عيوب السلوك السياسي وبعض التوجهات في السياسات العامة.
ان الرهان علي نجاح الثورة دون إسقاط السلطة الانتقالية هو رهان صعب ولكنه غير مستحيل. علينا البناء علي إنجازات الثورة والضغط علي السلطة الانتقالية بكل مكوناتها حتي تستجيب لتطلعات الشعب في الحرية والسلام والعدالة في ظل دولة مدنية لا مكان فيها لعسكريين في الحقل السياسي. أمامنا تحديات اقتصادية و اجتماعية وثقافية هائلة ولكن الثورة التي فجرها هذا الجيل الفريد قادر علي تخلطيها دون التخلي عن مبادئها او نسيان الشهداء الذين هم اكرم منا جميعا.
شارك هذا الموضوع: