فتحت اتفاقية جوبا نقاشات حيه تراوحت بين العسلطة والجدل من جهة والحوار والقراءات من جهة ثانية. ورغم مما رشح عن النقاشات بعض الآراء الشاذة عن موضوع النقاش إلا أن المشهد العام كان صحيا ومحركا للفكر والسياسة والقانون.
سأقتصر نقاشي في هذه المساهمة حول نقطتين الأولى تتعلق بمسألة سمو الوثيقة الدستورية في علاقته بسيادة أحكام اتفاقية جوبا. والثانية تتعلق بمدى اختصاص مجلسي السيادة والوزراء في بتعديل الوثيقة لاستيعاب اتفاقية جوبا.
فيما يتعلق بالنقطة الأولى, تنص المادة 3 من الوثيقة على أن "الوثيقة الدستورية هي القانون الأعلى بالبلاد وتسود أحكامها على جميع القوانين، ويلغى أو يعدل من أحكام القوانين ما يتعارض مع أحكام هذه الوثيقة الدستورية بالقدر الذي يزيل التعارض" . أما بروتوكول تقاسم السلطة في اتفاقية جوبا فتنص في المادة 24/1 منها, تحت عنوان سيادة أحكام هذا الاتفاق على الوثيقة الدستورية, في المادة 24/1 علي "اتفق الطرفان على إدراج اتفاقيات السلام الموقعة في الوثيقة الدستورية وفي حالة التعارض يزال التعارض بتعديل الوثيقة الدستورية".
موضوع سيادة اتفاقية جوبا على سمو الوثيقة الدستورية, في حالة التعارض وفقا للمادة 24/1 من اتفاق تقاسم السلطة والثروة, مقروء مع سمو الدستور الراسخ في القانون العام والذي تم التنصيص عليه في م 3 من الوثيقة, هو موضوع إشكالي ومعقد وقابل لتأويلات قانونية عديدة, بغض النظر عن موقفنا من الاتفاقية أو الوثيقة او كليهما.
إن التعارض( على الأقل الظاهر) بين المادة 24/1 من اتفاقية جوبا والمادة 3 من الوثيقة الدستورية لا يمكن فك عقدته من مقترب دستورية القوانين والتي تعني أساسا بسمو القانون الأساسي للدولة (أي الوثيقة الدستورية ) على القوانين الداخلية. بمعني ان اي قانون تسنه الدولة ويتعارض مع دستورها يعتبر غير دستوري وبالتالي لا بد من تعديله او الحكم ببطلانه وفي كل الأحوال لا يمكن الرضا بنفاذ أحكامه.
والسؤال هنا هل اتفاقية جوبا هي قانون صادر في دولة طبيعية ذات شرعية سياسية legitimacy حائزة علي رضا مواطنيها, وبالتالي يجب معاينتها وفقا لقاعدة تطابق نصوصها مع القانون الأسمى للدولة الشرعية (الوثيقة الدستورية) أم هي اتفاق بين السلطة السياسية وقوى تنازعها الشرعية السياسية, بالنتيجة لا معنى لمعاينة نصوها وفقا لقاعدة دستورية القوانين؟
هذا السؤال يحاول اخراج الموضوع من المقترب القانوني الصارم (والشكلاني في بعض المساهمات القانونية) ويدخله في رحاب ساحة نقاش يتعلق بمفهومين أساسيين هما :الشرعية السياسية والمشروعية القانونية legality . المفهوم الأخير يعني بتتطابق الممارسات مع القانون ويغطي افعال وممارسات فواعل actors ارتضت التحرك تحت مظلة دولة محكومة علي مضامين المفهوم الأول عبر تعبير هذه الفواعل عن رضاها على النظام القائم. في الأفعال والتفاعلات في ظل شرعية, بما فيه الاتفاقيات بين الأشخاص الحقيقيين والمعنويينضبطها وفقا للقانون الأسمى الذي رسخ بحكم سموه طبيعة التفاعلات المحكومة في مجاله ويجب أن تكون لذلك غير متعارضة مع نصوصه. أما في حالة التنازع حول الشرعية أو ازمتهاLegitimacy in conflict كما حدث بعد التوصل إلى الوثيقة الدستورية باعتراض جزء من الجبهة الثورية وآخرون عليها والمطالبة بإعادة ترتيب المجال السياسي بكيفية تستوعبهم باكثر عدالة. وبالنتيجة لابد أن يتم تغيير الوثيقة الدستورية لاستيعاب الترتيبات الجديدة التي تم التوصل إليها باتفاقية جوبا.
بتعبير مباشر يمكن القول إن اتفاقية جوبا إذا كانت قانون عادي بين الفواعل السياسية او اشخاص معنويين داخل شرعية الدولة السودانية وان نصوصها ما هي إلا لضبط قواعد اللعبة وفقا للشرعية السياسية الراهنة فإن لا مجال لسمو قواعدها على الوثيقة الدستورية, كما نصت المادة 24/1 من برتوكول السلطة,بأي تفسير قائم على القواعد الراسخة في القانون والممارسات الدستورية وبالتالي علينا القبول بالقراءات التي تعتمد على سمو م 3 من الوثيقة الدستورية على المادة 24/1 من اتفاقية جوبا. أما إذا كانت اتفاقية جوبا هي نتاج مساومات سياسية لاعادة ترتيب المسرح السياسي في السودان بين قوى تهيمن أو تسيطر على الحقل السياسي وقوى أخرى سعت لتقويضه أو إعادة ترتيبه,فإن المادة 24/1 من اتفاقية جوبا, والتي هي ترجمة لـ موازين القوى الراهنة , يمكن أن تسمو على م 3 من الوثيقة الدستورية لان محرك فعل السياسي الذي أنتج الاتفاق هو المعارضة لنصوص الوثيقة بهدف اعادة صياغتها حتى يقبل المعارضون للتحرك داخل الشرعية بدلا عن العمل المسلح خارجها بهدف تقويضها.
النقطة الثانية من هذه المساهمة هي المتعلقة بتعديل الوثيقة الدستورية. وهذه النقطة أثارت حوارات وقراءات جادة وهامة بين القانونيين بالإضافة لمساهمات مضيئة من غيرهم من المؤثرين على الرأي العام خاصة من الصحفيين والناشطين السياسيين. والمعركة هنا مباراة "دربي" وتجري بين القانونيين وغيرهم على ارضية المادتين 78 و 25/3 من الوثيقة الدستورية.
تنص المادة 78 على (لا يجوز تعديل أو الغاء هذه الوثيقة الدستورية الا باغلبية ثلثي اعضاء المجلس التشريعي), في حين ان المادة 25/3 من الوثيقة تنص (الى حين تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي, تؤول سلطات المجلس لأعضاء مجلسي السيادة والوزراء يمارسونها في اجتماع مشترك وتتخذ قراراته بالتوافق أو باغلبية ثلثي الاعضاء).
الواقع الحالي المعلوم للجميع هو غياب الجمعية العمومية, أوان شئت تغييبها, وبالتالي أي نقاش حول المادة 78 هو معركة في غير معترك.
وبالنتيجة يلتف عظمة النقاش هنا حول معنى أيلولة سلطات المجلس التشريعي إلى أعضاء مجلسي السيادة والوزراء فيما يتعلق بممارسة سلطات المجلس التشريعي الغائب او المغيب. تتمحور القراءات هنا حول التساؤل عما اذا كانت هذه سلطات المجلسين التشريعية تحل محل السلطات التشريعية كاملة ام انها سلطات محدودة ومقيدة تقع المصادقة علي الاتفاقية بنصوصها الخلافية خارج حدودها؟.
المادة 25/3 تنص صراحة بأن سلطات المجلس التشريعي الغائب تؤول لأعضاء مجلسي السيادة والوزراء. وكلمة الأيلولة في هذا النص الدستوري يمكن فهم معناها مصدر الكلمة وتطبيقاتها حسب ما جاء في قواميس اللغة العربية وكذلك بالرجوع إلى القانون الخاص الذي استخدم هذه الكلمة , مثلا أيلولة أملاك الميت إلى الدولة في حالة الوفاة دون وريث مثلا والتي تعني الانتقال او الرجوع. وبذلك يمكن القول باطمئنان بأن معنى الأيلولة في المادة 25/3 هو انتقال سلطات المجلس التشريعي إلى أعضاء مجلسي السيادة والوزراء كاملة ما دام المجلس التشريعي في حكم العدم. ليس هناك في نص المادة 25/3 أي تقييد للمجلسين على حقهم في ممارسة السلطات التشريعية للمجلس التشريعي المنتظر التي آلت إليهما, سوي شروط اجرائية تتعلق بممارسة السلطات في اجتماع مشترك وضرورة اتخاذ القرارات المتعلقة بممارسة هذه السلطات بالتوافق أو باغلبية ثلثي الاعضاء. هذا بالإضافة للقيد الزمني لممارسة هذه السلطة وهو قيام المجلس التشريعي بالكيفية المحددة في الوثيقة والذي يعني انتهاء الاختصاص التشريعي لمجلسى السيادة والوزراء. . وليس هناك أي نص آخر في الوثيقة الدستورية تمنع المجلسين من التشريع في قضايا معينة أو تخرج من دائرة اختصاصهم قضايا تكون حكرا على المجلس التشريعي.
قراءتي المهنية للمادة 25/3 تزعج رغبتي الشخصية القوية في الحيلولة دون تفرد اجتماع المجلسين, الذي يسيطر على مخرجاته اللجنة الامنية للنظام السابق, في التحكم في مصائرنا بممارسة السلطة التشريعية للمجلس التشريعي المغيب. ولكن القراءة القانونية في تقديري تجري عكس رغبتي الشخصية وملزمة إذا ما أردنا تأسيس دولة الحق والقانون.
شارك هذا الموضوع: