لا نسعى، كما ليس في مقدورنا، أن نوفِّر للقارئ شرحاً أكاديميَّاً مطوَّلاً بشأنِ "نظريَّة كلِّ شيء"، سواءً انطلقت من النِّسبيَّة العامَّة أو ميكانيكا الكم، أو جاءت عبر فرضيَّاتِ جاذبيَّة الكم التي تسعى للجمعِ بينهما؛ ومن ضمن تلك الفرضيَّات، نظريَّة الأوتار التي تتقدَّم الرَّكب بإحيائها للأمل وتعزيزها للثِّقة في التَّوصَّل إلى نظريَّة فيزيائيَّة شاملة لكلِّ شيء. لا نسعى لذلك، وإنَّما نُريدُ أن نطرح المسألة في إطارِ سياقٍ يسمح بتناول المسعى العلمي البحت من منظورٍ فلسفيٍّ يُساعِدُ على إضاءة بعض الجوانب التي قد تخفى على بعض المشتغلين بالعلمِ أنفسِهم.
عندما نقول "نظرية كلَّ شيء"، فإنَّنا نعني توحيد قوى الطَّبيعة الرَّئيسيَّة الأربعة، وهي: الجاذبيَّة، والكهرومغنطيسيَّة، والنَّوويَّة بشِقَيْها القوي والضَّعيف، فيما هي تؤثِّر مجتمعةً وعلى حِدَةٍ على الجُسيمات المادِّيَّة المتناهية الصِّغر (الإلكترونات والبروتونات والنِّيوترونات والنِّيترينوات، بأنواعها المختلفة جميعها). بدأت بحوث الجاذبيَّة بشكلٍ جاد مع غاليليو غاليلي، وانتظمت في نظريَّة فيزيائيَّة مُقنِعة مع إسحق نيوتن، إلَّا أنَّه لم يتم تفسيرها بصورةٍ حاسمة إلَّا عن طريق النِّسبيَّة العامَّة التي صاغها ألبرت آينشتاين في عام ١٩١٥. في المقابل، اضطلعت ميكانيكا الكم بتفسير القوى الثَّلاثة الأخرى تفسيراً وافياً. ومع ذلك، فإنَّ كلتا النَّظريَّتَيْن النَّاجحتَيْن في مجالَيْهما بشأنِ تفسير قوى الطَّبيعة لا تُعضدانِ بعضَهما البعض، بل تتناقضان. ومن هنا نشأت الحاجة إلى دمجهما في نظريَّة شاملة قادرة على تفسير كلِّ قوى الطَّبيعة في معادلةٍ لا يتعدَّى طولها بضع بوصات.
في هذا المقال، سنصفُ كلَّ جهدٍ إنسانيٍّ لا يخشى من استخدامِ العقلِ إلى أبعدِ مدًى ممكنٍ بأنَّه باسلٌ، إلَّا أنَّ هذا الجهد سوف يُصبِحُ جهداً إبليسيَّاً مريداً إنْ هو تخطَّى بإرادةٍ ذاتيَّةٍ حدودَه وسعى إلى توظيفِ أوهى نتائجِه لأجندةٍ آيديولوجيَّة أو لأغراضٍ لا تمِتُّ إلى بسالةِ العقلِ بِصِلَةٍ مهما كانت واهية. فالحياةُ على ظهرِ هذا الكوكب مُواجهةٌ بتناقضٍ رئيسيٍّ يستدعي حلَّاً بتضافرِ كافَّةِ الأطراف؛ فمن جهةٍ، يبدو أنَّنا نحيا في كَنَفِ كوكبٍ عاديٍّ، ضمن نجمٍ عاديٍّ، في مَجَرَّةٍ عاديَّة؛ ومن جانبٍ آخرَ، يبدو أنَّ الحياةَ على متنِ هذا الكوكب قائمةٌ على عددٍ من التَّوازناتِ الفائقةِ الدِّقَّة، بحيثُ إذا اختلَّ توازنٌ بزيادةٍ أو نقصانٍ متناهي الصِّغر، لأصبحتِ الحياةُ غيرَ مُمكِنةٍ حتَّى "في خبر كان"، لعدم توفُّر متطلَّباتِها الأساسيَّة (كربون؛ أكسجين؛ هايدروجين؛ نتروجين؛ حديد) أو لاستحالة نشوء المجرَّاتِ نفسِها، وبالتَّالي عدم تكوُّن النُّجوم والكواكب، ومن ضمنها كوكب الأرض.
في البدء، أشارت هذه الوضعيَّة، التي تُسمَّى بالكونِ المثالي، بلسانٍ فصيح إلى مُصمِّمٍ بارعٍ لهذا الكونِ البديع. وتتعدَّد وتتنوَّع التَّوازناتُ الدَّقيقة التي قادت إلى نشوء هذه الوضعيَّة، بدءاً من كيفيَّة إنتاج الكربون داخل نَوَى النُّجوم (التي هي عبارة عن مفاعلاتٍ نوويَّة ضخمة)، ومروراً بكسرِ التَّماثل ونشوءِ القوى الرَّئيسيَّة بُعيدَ لُحيظاتٍ من "الانفجار العظيم" (وهو عبارة عن مفاعلٍ نوويٍّ تتضاءل أمام ضخامته المفاعلات النَّوويَّة داخل نَوَى النُّجوم)، وانتهاءً بأهمِّها، وهو ما يُعرَفُ بالطَّاقة المُظلِمة (وهي بخلاف المادَّة المُظلِمة) أو مضاد الجاذبيَّة أو الثَّابت الكوني (وهو بمثابة العدد واحد وأمامه 119 صفراً، فإذا نقص الرَّقمُ صفراً أو زاد عنه آخرُ في حجم الطَّاقة المُظلِمة، لتوقَّفَ تمدُّدُ الكونِ أو انطلقَ شارداً من غير أن تتمكَّن قوَّةُ الجاذبيَّة من إيقافِه مُطلقاً).
لا نستطيع أن نجزم بشكلٍ قاطع ما الذي دفع بعضَ العلماء إلى تبنِّي نظريَّة الأوتار: هل كان ذلك بدافعٍ من بسالةٍ عقليَّة لسبرِ أغوار التَّوازنات الدَّقيقة للكون أم هو تعدٍّ إبليسيٌّ (أو لابلاسيٌّ) سافر، نشِطَ عندما بدأت نظريَّة "الانفجار العظيم" تقودُ بِخُطًى ثابتة نحو تأكيد إبداعِ هذا الكون على يدِ مُبدعٍ حاذقٍ له؟ لكنَّنا سننحو نحواً إيجابيَّاً إزاء هذا الجهد العقليِّ النَّظري إلى أن يتبيَّنَ لنا تهافتُ دعوة أصحابه أو ينكشف لنا سِرُّ مخطَّطهم الآيديولوجي. خصوصاً، لأنَّنا نعتقد بأنَّه كلَّما كان التَّوازنُ محفوظاً، كلَّما تأكَّدت راهنيَّة الإيمان. فلو اختلَّ التَّوازنُ إيجابيَّاً، لبطلت قضيَّة الإيمان، لأنَّنا سنكونُ أمام مسألةٍ علميَّة لا تحتاجُ له، لأنَّها مُقنِعةٌ للجميع دون فرز؛ ولو اختلَّ التَّوازنُ سلبيَّاً، لعصفت به (أي الإيمان) تماماً، وتضاءلت الحاجة إلى فرضيَّة إله مبدِع للكون (مثلما جاء في زعمِ بيير-سايمون لابلاس أمام نابليون).
في عام 1921، اقترح ثيودور كالوتسا تمديد أبعاد النَّظرية النِّسبيَّة العامَّة الأربعة، بإضافةِ بُعدٍ ضمن مجالٍ ذي مقدارٍ بدون اتِّجاه (إسكيلر فيلد)، لتُّصبح خمسة أبعاد، بدلاً من أربعة، حتَّى تُمكِّنَ ألبرت آينشتاين من حلِّ مشكلة توحيد المجالات. وفي عام 1926، اقترح أوسكار كلاين بأنَّ هذا البُعد الخامس يقع على المستوى الكمومي (نسبةً إلى ميكانيكا الكم)، وأنَّه ملفوفٌ ضمن دائرة أسطوانية متناهية الصِّغر (نصف قطرها ناقص واحد يسبقه 30 صفراً من السِّنتمتر الواحد). ارتفع هذا العدد في نظرية الأوتار إلى 11 بُعداً. وبما أنَّ الكم المتناهي في الصِّغر يُمكِنُ أن يكون لَبِنَةً أساسيَّةً (بيلدينغ بلوك) للكون المتناهي في الكِبر؛ وبما أنَّ بدايات "الانفجار العظيم" قد صاحبتها فترة تضخُّم كوني، فإنَّ الأبعاد المتعدِّدة يُمكِنُ أن تكونَ مكاناً ملائماً لإيواءِ كونٍ متعدِّد (أو أكوانٍ متعدِّدة).
ضمن هذه الأكوان المتعدِّدة، يُمكِنُ أن تُحَلَّ معضلة التَّوازنات الفائقة الدِّقَّة، مثلما حُلَّت من قبلُ مشكلة التَّدورُّن (إيفولوشن)، وفقاً لآليَّة الانتخاب الطَّبيعي. فنحنُ، وفقاً لنظريَّة الأوتار التي تتبنَّى بشكلٍ متحمِّس فكرة الأكوان المتعدِّدة، موجودون على ظهرِ كوكبٍ ملائمٍ بشكلٍ فائقٍ للحياة، لأنَّنا لا يُمكِنُ أن نكون أحياءً على متنِ كوكبٍ لا يتمتَّع مثله بأفضلِ شروطٍ للحياة. فهناك أكوانٌ أو جيوبٌ كونيَّة لا حصرَ لها، وربَّما يكونُ لها قوانينُ فيزيائيَّة خاصَّةٌ بها، وربَّما تخضع هي الأخرى لنفسِ القوانين الفيزيائيَّة الكلِّيَّة الشَّاملة. وقد تكونُ هناك كواكبُ أخرى، ضمن جيوبٍ كونيَّة أخرى، لها شروطٌ مشابهة أو مماثلة لشروط الحياة على ظهر هذا الكوكب. كلُّ ذلك، على المستوى النَّظريِّ، ممكنٌ. إلَّا أنَّ التَّعويلَ على البرهنةِ أمرٌ واجب، ومهمَّة الإثبات تقعُ على مَنِ ادَّعى.
فإنْ كان هناك أحياءٌ في كوكبٍ آخرَ غيرِ كوكبنا، فأينَ هم (سؤال العالم الإيطالي إنريكو فيرمي)؟
وإنْ كان هناك أبعادٌ تفوقُ العشرةِ أبعاد، فأينَ هي (سؤالٌ مطروح بشكلٍ مُطَّرِد)؟
وفيما يتوازنُ هذا الكونُ بشكلٍ فائقٍ يفوقُ الخيال، سيستمرُّ الحاجةُ إلى مُبدِع.
وفيما ينحفِظُ التَّوازنُ بين اعتقادٍ واعتقاد، سيتعزَّزُ راهنيَّة الإيمان.
وهذا المسعى العِلميُّ الباسل، لإبداعِ لحنٍ متعدِّد الأنغام من دونِ عونٍ من عازفٍ منفرد، سيلقى مِنَّا كلَّ إعزازٍ واحترام، إنْ هو تمسَّكَ بالعروة العقليَّة البحتة، وانصرف عن التَّوظيف الآيديولوجيِّ البائس.
شارك هذا الموضوع: