للأشياءِ جميعِها وجهٌ وقفا؛ وَمَنْ أراد أن يقتفي أثر القفا، فليفعل، فهناك دائماً فرصةٌ لأن "تُصنَعُ من الحَبَّةِ قُبَّة"، وإن لم تقُد إلى صنيعٍ ذي بال؛ لكنَّنا سنسعى لتأمُّلِ صفحةِ الوجه، مقتفينَ أثرَ عبدِ القاهر الجُرجاني، الذي قال عنه طه حسين مُستدرِكاً، في معرضِ نَقدٍ لِقفا لا فائدةَ من ذكرِ تفاصيلِه: "أمَّا السَّيِّد الجُرجاني نافذُ البصيرة، فإنَّه يستخرِجُ من الأشياء الواضحة أسراراً غامضة". وبالفعل، قد نظر الجُرجانيُّ في قواعد اللُّغة العربيَّة، فوجد أنَّها تفتقرُ إلى تعليقِ مبانيها بمعانيها؛ وكان قد تتبَّع أوَّلاً أحرفَ الكلم، فوجد أنَّ تعلُّقَ بعضِها ببعضٍ رهنٌ لخياراتِ واضعيها، وهو مبدأٌ أكَّدت عليه اللِّسانيَّاتُ الحديثة في ما بات يُعرَفُ باعتباطيَّةِ العلامة اللُّغويَّة أو عشوائيَّتها؛ ثمَّ نظر في تعلُّقِ الألفاظِ بعضَها ببعض، فوجد أنَّها لا تخرُجُ عن حالاتٍ ثلاث: تعلُّقُ اسمٍ باسم؛ واسمٍ بفعل؛ وحرفٍ بكليهما (أي الاسم والفعل)؛ وهذا التَّعلُّق في مستواه اللَّفظيِّ الذي تُنَظِّمُه قواعدُ اللُّغةِ العربيَّة لا معنَى له (في واقعِ الأمرِ، حرفيَّاً) إن هو لم يتعلَّق بالمعاني المستقِرَّةِ في العقل.
قبل تعميم فكرةِ التَّعلُّق، نودُّ التَّنبيه على أنَّ عمليَّة "استخراج الأسرار الغامضة من الأشياء الواضحة" بطريقةِ الجُرجاني، هي ديدنُ العلوم ِالمُنتِجَةِ للمعرفة وجوهرُها الذي يُميِّزُها عن السَّفسطةِ التي تقتفي قفا الأشياءِ وتصرِفُ النَّظرَ عن وجهِها الذي يُمكِنُ أن يزدادَ نصوعاً بالنَّظرِ وإعادةِ النَّظرِ التي لا تنقطع؛ فهكذا نظر نيوتن إلى تفَّاحةٍ (حقيقيَّةً أو متخيَّلة) تسقُطُ من شجرةٍ، فاستخرَجَ من هذا "الشَّيءِ الواضح" عدداً من القوانين المتعلِّقة بالحركة الكونيَّة؛ ونظر فاراداي في قضيبٍ مُمَغنَطٍ داخل سلكٍ ملفوف، فاستنتجَ منه بمعونةِ ماكسويل المجالَ الكهرومغنطيسيَّ بمجمله؛ ونظر آينشتاين في الحركة العشوائيَّة لهُلامٍ في سائل، فاستنبط منها نظريَّاً عِلمَ ميكانيكا إحصائيَّةٍ ساعدت العلماءَ عمليَّاً على حسمِ الجدلِ حول وجودِ الذَّرَّاتِ والجزيئاتِ والتَّوصُّلِ إلى أحجامِها وأوزانِها؛ كما نظر هايزنبرج في شعاعٍ ضوئيٍّ يبرزُ أمامه ثمَّ يختفي بين الأشجارِ أثناء سَيرِه ليلاً في طريقٍ مُحازٍ لغطاءٍ نباتي، فصاغ منه مصفوفتَه الشَّهيرة لعِلمِ الميكانيكا الكوانتيَّة.
ما نُريدُ التَّأكيدَ عليه بصددِ تعلُّقِ اللَّفظِ بالمعنى الذي أشار إليه وبعجه الجُرجاني، هو أنَّ كليهما متعلِّقانِ بأساسِهُما المادِّي؛ فاللَّفظةُ المنطوقة والمسموعة أو نظيرتُها المكتوبة والمرئيَّة بالعينِ المجرَّدة هي في بادئ الأمرِ مادَّةٌ ملموسة، وستظلُّ كذلك بعد استقرارِها صورةً في الذِّهن، وبعد صيرورتِها كلمةً أو عبارةً في جملةٍ لها دَلالة متغيِّرة في نظامٍ لغويٍّ مهدَّدٍ على الدَّوامِ بالتَّحوُّل. وما يُعضِّدُ هذا الارتباط أنَّ للأشياء، بما فيها الزَّمانُ والمكان، بدايةً مع "الانفجار العظيم"؛ فإذا كانت نظريَّة "الانفجار" الفيزيائيَّة تؤسِّسُ للمادَّة وترسمُ تاريخاً لتطوُّرِها من أبسطِ أشكالِها إلى أكثرِ انبثاقاتِها تعقيداً، ومنها انبثاقُ الحياةِ والوعيِ والمعنى، فإنَّ نظريَّة التَّعلُّقِ أوِ النَّظمِ العامِّ تسلُكُ طريقاً عكسيَّاً يربِطُ اللَّفظَ منطقيَّاً بالمعنى، في ارتباطه المنطقيِّ هو الآخرُ بأساسِه المادِّي: أي بِما ظللنا نُردِّدِه منذُ رَدَحٍ، وهو تعلُّقُ أُقنومِ اللُّغةِ بأُقنومِ العقل، وتعلُّق كليهما بأُقنوم الواقع. ونُضيفُ بأنَّه إذا اختفتِ اللُّغة، فستدخلُ المعارفُ الإنسانيَّةُ جميعُها في منطقةِ السِّرارِ (بتعبيرِ الجُرجاني)؛ وإذا توارى العقل، فسيختفي معه الوعيُ بالأشياء؛ أمَّا الأشياءُ نفسُها إذا غابت، فسينطوي معها مجالُ الحقيقة، فيُصبِحُ ما قبل انبثاقِه قابَ قوسينِ أو أدنى من الحق.
ليس باستطاعةِ أحدٍ أن يُثبِتَ ما وَرَدَ في نهايةِ الفقرةِ السَّابقة، فليس هناك مَمسَكٌ مناسب يُؤهِّلُ لاختبارِ العبارةِ تجريبيَّاً، ولكنَّنا نتمسَّكُ عِوضاً عنه بعُروَةٍ وُثقى، نأخذُها على مَحمَلِ الجِدِّ ونرعاها ونسهرُ عليها بإيمانٍ راسخ، بأنَّ هناك دنيا نأخذُها غِلاباً، مثلما أنَّ هناك آخرةً نرجو ثوابَها؛ وأنَّ هناك مجالاً للحقيقةِ نستضيءُ فيه بضوءِ العقل، غير أنَّ هناك نوراً للحقِّ نقتربُ منه حثيثاً بالعبادة. في المقابل، لا يخلو تمسُّكُ القائلين بفكرةِ الكونِ المتعدِّد (مَلتيفيرس) من إيمانٍ ما بالفكرة، قد يترسَّخُ مع الوقتِ وقد يذوبُ كرقائقِ ثلجٍ مع أوَّلِ انبلاجِ صُبحٍ لنظريَّةٍ جديدة؛ فالفكرةُ تُؤكِّدُ من جانبٍ على انتفاءِ وحدةِ الكون، وبالتَّالي انتفاءِ بدايةٍ واحدةٍ له (ومنشئٍ واحدٍ له كذلك)، ولكنَّها تُؤكِّدُ من جانبٍ آخرَ على انتفاءِ وحدةِ العالمِ المادِّيِّ المعروفة، وبالتَّالي انتفاِء وجودِ قوانينَ فيزيائيَّةٍ شاملة لأكثرِ من كونٍ واحد، ممَّا يفتحُ البابَ مجدَّداً لاحتمالِ وجودِ كونٍ آخرَ (أو أكوانٍ أخرى) لا تسري فيها هذه القوانينُ الفيزيائيَّةُ "المحلِّيَّة" (أو الدُّنيويَّة)، وبالتَّالي انفتاحُ البابِ مجدَّداً لتغلغلِ الميتا-فيزياء في عالمِ الفيزياء.
إذا تركنا التَّكهُّناتِ بشأنِ الكونِ المتعدِّد جانباً، وركَّزنا على هذا الكون الواحد الذي ثبت بالدَّليل القاطع (إسموكينغ غن) أنَّه نشأ مع "الانفجارِ العظيم" ("بيغ بانغ")، وأنَّ للزَّمانِ بدايةً مع ذلك "الانفجار"، فإنَّه من الممكن تصوُّرُ أنَّ هذا الكونَ كان مع تلك البدايةِ في غايةِ النَّظمِ (أو الانتظام)، وأنَّ نظمَه قد اتَّخذ شكلاً ديناميكيَّاً حراريَّاً، يحكُمُه منذ البدءِ القانونُ الثَّاني للدِّيناميكيَّةِ الحراريَّة، الذي يقضي، على مستوى النَّظمِ العام، بتسارعٍ في زيادةِ الإنتروبيا (أو القصور الحراريِّ المطَّردِ الذي يستلزم اضطراباً في تعلُّقِ الأشياء ببعضِها البعض)، إلى أن يصِلَ الكونُ إلى فنائه المحتوم (أو انقضاءِ أجلِه بالمعنى الدِّيني). وهذا الكونُ الذي بدأ مع "الانفجارِ" عُمُرُه الآن 13.7 بليون عام، على وجهِ التَّقريب، ويُمكِنُ بالتِّلسكوباتِ المُقرِّبةِ للمكانِ والزَّمانِ على حدٍّ سواء رؤيةُ حالةِ الكونِ عندما كان عُمُرُه ٣٨٠ ألف عام، وما يمنعُ رؤيتَه فيما وراء ذلك هو تشتُّتُ الضَّوءِ بأثرِ البلازما؛ وما أثبتَ للعلماءِ حدوثَ "الانفجارِ" بالدَّليلِ القاطعِ أنَّ أثرَه يصِلُنا الآن، داخل المجالِ الكهرومغنطيسي، في نطاقِ المايكرويف؛ وهو ما يُعرَفُ بالإشعاعاتِ الخلفيَّةِ للكون، ويُمكِنُ الكشفُ عنها بتلسكوباتِ الرَّاديو الحسَّاسة؛ ولأنَّ هذه الإشعاعاتِ منتشرةٌ في جميعِ جهاتِ الكون، فقد ثبت أيضاً، بالدَّليلِ القاطع، أنَّ الكونَ بدأ من نقطةٍ واحدة، وهي ما تُعرف بـ"الانفجارِ العظيم" ("بيغ بانغ").
توجد داخل هذا الكونِ (أو هذا النَّظمِ العام) انتظاماتٌ فرعيَّة توحي بنقضِها للقانونِ الثَّاني للدِّيناميكيَّةِ الحراريَّة، منها نشوءُ الكائناتِ الحيَّة داخل أُقنومِ الواقعِ المادِّي، والانتشارُ الثَّقافيُّ والتَّأصُّلُ الحضاريُّ داخل أُقنوم العقل، ونظمُ الجُرجانيِّ والتَّعلُّقُ البنيويُّ الشَّاملُ داخل أُقنومِ اللُّغة؛ إلَّا أنَّها انتظاماتٌ محكومٌ عليها بالفناءِ المحتوم، وإن طالَ أجلُها؛ ويزدادُ هذا الانتظامُ ترسُّخاً وإحكاماً كلَّما قاد انبثاقٌ إلى آخر، بدءاً بأُقنومِ الواقع، فالعقلِ، فاللُّغة - إلَّا أنَّ "لكلِّ أجَلٍ كتابٌ" (الآية رقم "38"، سورة "الرَّعد") داخل هذه الأقانيمِ الثَّلاثة التي تدورُ بمجملِها في مجالِ الحقيقة؛ مع الانتباهِ إلى أنَّ أُقنومَ اللُّغةِ مع أهميَّتِه القصوى في هذا المجال، إلَّا أنَّه أُقنومٌ تركيبي: تزامنيَّاً، يحملُ في طيَّاتِه عناصرَ الأُقنومينِ الآخرين؛ وتعاقبيَّاً، يأتي تتويجاً لهما معاً، ومنه يبدأ التَّرابطُ العكسيُّ الذي يُعلِّقُ اللَّاحقَ منطقيَّاً بأسبابِ السَّابق. أمَّا النَّظمُ (سيد الاسم)، بلا قيدٍ لُغَويٍّ بين يديه أو خلفه، فإنَّه قائمٌ بذاتِه علامةً على الحقِّ ودليلاً ساطعاً إليه وليس عليه؛ والقرآنُ باعتبارِه نظماً مخصوصاً، كما نبَّه على ذلك طه حسين، هو كتابٌ قديمٌ في الأعالي وكلامٌ تنزَّلَ على نبيٍّ أُمِّيٍّ، في وقتٍ معلوم، بلسانٍ عربيٍّ مبين؛ وما يحفظُه من البِلَى، هو أصلُه في الأعالي، وتجدُّدُ فهمِه في الدُّنا (أو هذه الدُّنيا إن لم تتحقَّقِ التَّكهُّناتُ بشأنِ فكرةِ الكونِ المتعدِّد).
قلنا في الحلقةِ السَّابقة إنَّ ما يُميِّزُ القانونَ الثَّاني للدِّيناميكيَّةِ الحراريَّة عن غيرِه من القوانين الفيزيائيَّة الأساسيَّة هو أنَّه غيرُ قابلٍ للتَّصوُّرِ العكسي (نونكوميوتابل)، الأمر الذي يُنصِّبُه مقياساً وحيداً للحركةِ الأماميَّة للزَّمانِ، إذ إنَّه ينصُّ على اطِّراد زيادةِ الإنتروبي، ممَّا يُحدِثُ فارقاً بين الماضي والمستقبل، وبالتَّالي تثبيت اتِّجاه "سهم الزَّمن"، الذي يقضي باستحالةِ الرُّجوعِ القهقرى في اتِّجاه الماضي. إلَّا أنَّ لعالمِ الفيزياءِ النَّمساوي، لودفيغ بولتسمَن، رأياً آخرَ بشأنِ "سهمِ الزَّمن"، فهو يرى أنَّ الحرارةَ في الأساسِ عبارة عن حدوثِ اضطرابٍ مجهريٍّ للجزيئاتِ واصطدامِ بعضِها ببعض، وانتقالِها من الجزيئاتِ السَّاخنة إلى الباردة، وليس العكس، فيقودُ ذلك إلى تسخينِ الجزيئاتِ وانفراطِ عَقدِها أو انحلالِ ترابطِها السَّابق وحدوثِ ترابطٍ جديد؛ وإنَّ عدمَ الإلمامِ بكلِّ تفاصيلِ حركةِ الجزيئات هو الذي يُوهِمُ باطِّرادِ زيادةِ الإنتروبي، الذي يُحدِثُ فارقاً بين الماضي (إنتروبيا منخفضة) والمستقبل (إنتروبيا مرتفعة)، وليس العكس؛ ولكن إذا اكتُسِبت معرفةٌ كاملة بترتيبِ الجزيئات، فسينتفي معها الفارقُ بين الماضي والمستقبل، وبين السَّببِ والنَّتيجة. غير أنَّه لا غنَى لنا عنِ القولِ بأنَّ هذه خلاصةً شرطيَّة (مودَل) ومخالِفةً للوقائعِ (كاونترفاكشوال) في مجالِ الحقيقةِ الظَّاهرِ للعيان (ماكروسكوبيك)؛ وعلى أحسنِ الفروض، فإنَّ احتمالَ تحقُّقِها متناهٍ في الصِّغر.
لكن، بتصوير القرآنِ لخالقٍ ليس كمثلِهِ شيء، قادرٍ على كلِّ شيءٍ وعليمٍ بكلِّ تفاصيلِ العالم غيرِ المرئي (مايكروسكوبيك)، "عالمِ الغيبِ لا يعزُبُ عنه مثقالُ ذرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرضِ ولا أصغرُ من ذلك ولا أكبرُ إلَّا في كتابٍ مبين" (الآية رقم "3"، سورة "سبأ")، فإنَّ الزَّمانَ لديه لن يكونَ خاضعاً لتشظٍّ مماثلٍ لمجالِ الحقيقة، ولن يكونَ خاضعاً بالضَّرورةِ للإنتروبي، فهو الحقُّ، وهو الأوَّلُ وزمنُه "دهرٌ" غيرُ متقيِّدٍ بالقانون الثَّاني للدِّيناميكيَّةِ الحراريَّة. ويُمكِنُ أيضاً بتأويلٍ موازٍ لتصوُّر بولتسمَن بشأنِ "سهمِ الزَّمن" النَّظرُ في تشظِّياتٍ مماثلة تشُلُّ القُدرةَ على العِلمِ الكلِّي في مجالِ الحقيقة وتُحيلُها إلى محضِ معرفةٍ لا تُبارِحُ هذا المجال. فإلى جانب، الانقسام النِّصفي بين الظَّاهر للعيان "وترى الجبالَ تحسَبُها جامدةً" وغير المرئي "وهي تمُرُّ مَرَّ السَّحابِ" (الآية رقم "88"، سورة "النَّمل")، أي بين الفيزياء الكلاسيكيَّة وفيزياء الجُسيماتِ (المتناهيةِ الصِّغر)، هناك انقسامُ التَّعاقبِ (الذي يفترضُ التَّواصلَ) والتَّزامنِ (الذي يفترض الانقطاع)؛ وانقسامُ الموجةِ والجزيء؛ والزَّخمِ والموقع؛ والطَّاقةِ المظلِمة والجاذبيَّة؛ والمادَّةِ المظلِمة والمجال الكهرومغنطيسي – وكلُّها انقساماتٌ لها أهميَّتُها في السَّعيِ للإحاطةِ بمجالِ الحقيقة ( نرجو أن نجِدَ سانحةً لتناولِها)، غير أنَّها لا تُضاهي وحدةَ الأحدِ الصَّمد، لكنَّها قد تُعينُ بفضلِه في الاقترابِ حثيثاً من نورِه.
شارك هذا الموضوع: