وَعَدنا في الحلقةِ السَّابقة بأنَّنا سنكشفُ في هذه المشاركة شَخصيَّةً منسيَّة، وسنسعى إلى تنصيبِها، عكس كلِّ التَّوقُّعاتِ، بطلاً حقيقيَّاً، ليس لرواية "مَوسِم الهجرة إلى الشَّمال" فحسب، وإنَّما للمتنِ برُمَّته. وبما أنَّ هذه الشَّخصيَّة قدِ استُلزِمَ إنشاؤها إنشاءً، كما سنوضِّحُ لاحقاً، كضرورةٍ نشأت عن قصورٍ نصِّيٍّ اعترى الشَّخصيَّتين الرَّئيسيَّتين، بسببِ عدم قدرةِ الأوَّل (وهو مصطفى سعيد) على تجاوزِ حالة انفصامِه الظَّاهري، وعدم قدرةِ الثَّاني (وهو الرَّاوي) على القيامِ بدورِ الرَّتق، في أعقاب اطِّلاعِه بدورِ الوصي، ليس لزوجة مصطفى وولدَيْه فحسب، وإنَّما لكافَّةِ ميراثِه الفكريِّ والأدبي، إضافةً إلى إصابتِه هو ذاتُه عن طريقِ التَّماسِّ بعدوى الانفصام - فإنَّه يُصبِحُ من الضَّروري، أن نُسلِّطَ بعضاً من الضَّوء على استخدامِ هذا المفهوم في مجالِ علمِ النَّفسِ أوَّلاً، ثمَّ توظيفِه في مجالِ الأدبِ، ثانياً وأخيراً.
ففي علمِ النَّفسِ الفرويدي، ليس بالضَّرورة أن يعني انفصامُ الشَّخصيَّة وجودَ صَدعٍ في الشَّخصيَّة الواحدة، وإنِ اتَّخذَ المرضُ النَّفسيُّ عند البعضِ منحًى يَظهرُ خارجيَّاً في شكلِ هلوسةٍ أو استيهاماتٍ مُفرِطةً في الغرابة، أو عند البعضِ الآخَرِ منحًى يرتدُّ داخليَّاً في شكلِ توحُّدٍ أو انطواءٍ حاد. وفي علمِ النَّفسِ الوجودي، هناك محاولةٌ رائدة عند عالمِ النَّفسِ الإسكتلندي، آر دي لينغ، لرأبِ الصَّدعِ المُتوهَّمِ لدى "الذَّاتِ المُنقسِمة" (وهو صاحبُ كتابٍ شهير بنفسِ الاسم)، بإنشاءٍ نظريٍّ (مشفوعٍ بخبراتٍ إكلينيكيَّة) لشخصيَّةٍ شموليَّة، قادرةٍ على استيعابِ المشاعرِ الأنطولوجيَّةِ الفعليَّةِ المُشتَّتة في بوتقةٍ واحدة.
وفي مجالِ الأدب (وخصوصاً الأعمال الدَّراميَّة)، يتمُّ استخدامُ المونولوج للتَّعبيرِ عن الهواجس، وهمومِ النَّفسِ الدَّاخليَّة، وما يتبعُ ذلك من حَيرةٍ وتردُّد، كما في مسرحيَّة "هاملت" الشَّهيرة، للكاتبِ المسرحيِّ الأشهر، وليام شكسبير. أمَّا الرِّوائيُّ السُّودانيُّ الأشهر، فإنَّه يستخدمُ نَسَقَاً من الصُّورِ والأصواتِ الثُّنائيَّة للتَّعبيرِ عن حالتَيْ التَّوازنِ والتَّأرجُح بين الاستيهامِ الصَّارخ والانطواءِ الحاد؛ ممَّا يستدعي إنشاءَ كيانٍ ثالثٍ في النَّصِّ ذاتِه، لرأبِ الانقسام القائمِ بين الشَّخصيَّتَيْن. وسنُحاولُ أن نُثبِتَ أيضاً بأنَّ هذا الرَّأبَ لم يكن ينطوي فقط على التئامٍ بسيطٍ لجزئيْنِ منفصلَيْن، وإنَّما أيضاً على نَسَقٍ تقييمي، تُصبِحُ فيه قصيدة "أنتويرب" (التي جاء منها مقطعُ "هذه محطَّة تشارنغ كروس") مِعياراً لتحديدِ أوزانِ الشَّخصيَّات.
لن نتطرَّقَ في هذه المشاركة إلى أنساقِ الصُّورِ الثُّنائيَّةِ العديدة التي حَفِلَ بها نصُّ "مَوسِم الهجرة إلى الشَّمال" (سنتركُ ذلك إلى جمهرةِ المساهمين، وربَّما تناولنا بعضاً منها، إنِ انبثقَ سياقٌ مناسب)؛ وعِوضاً عن ذلك، سنُركِّزُ على الصَّوتَيْن الأساسيَّيْن، اللَّذَيْن يُعبِّرانِ عن الشَّخصيَّتَيْن المركزيَّتَيْن، وهما مصطفى سعيد عثمان والرَّاوي، الذي لم يخترِ الكاتبُ له اسماً ضمن النَّصِّ المنفرِد (وربَّما تعرَّفنا على اسمه واسمِ القريةِ التي تدورُ فيها أحداثُ الرِّواية من خلال تبييننا لاحقاً لملامحِ المتنِ الرِّوائيِّ المفتوح)؛ وبما أنَّ كلاهما يستخدمُ ضميرَ المتكلِّمِ المُفرَد في سردِ الأحداث ويتبادلانِ المواقعَ بالتَّساوي في توجيهِ النَّصِّ، وتوزيعِ أقوالِ بقيَّةِ الشَّخصيَّاتِ الثَّانويَّة، فإنَّ المكانَ المُتبقِّيَ للشَّخصيَّةِ الثَّالثة التي نعتزمُ إنشاءها هو تسلُّلُها بين طيَّاتِ حديثِ ذينكِ الشَّخصيَّتَيْن.
لم يتركنا الكاتبُ في ظلامٍ دامس بإزاءِ وجودِه شخصيَّةً قائمةَ الذَّاتِ داخل النَّص، وإنَّما نثرَ لنا قناديلَ تُنيرُ الطَّريق، وتُشيرُ لنا بلسانٍ ذرِب بأنَّه هو الذي يتكلَّمُ في هذا الموقع أو الذي يتوارى في موقعٍ آخر، أثناء تدفُّقِ السَّردِ العاديِّ أو عند انكشافِ أهمِّ لحظاتِ مساهمتِه في تكوينِ النَّص. ومن بين تلك القناديل، ما يُنصَبُ على مسافةٍ من حَدَثٍ رئيسيٍّ أو قبل وقوعِه؛ ومنها، ما يستقِرُّ في الخاطر، وما لم يُقَلِ اعتباراً لآخَرِين، وما انقطعَ بغتةً واستُؤنفَ تَوَّاً في الذِّهن؛ وما جاء أخيراً، في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسَعُها مجالُ النَّص. وفي كلِّ تلك المواقع، يجيءُ صوتُ الكاتبِ واضحاً، ولا يتركُ لبساً بأنَّه صاحبُ القول. إلَّا أنَّنا سنُتابِعُ أوَّلاً ذينكما الصَّوتَيْن الأساسيَّيْن، لنرى كيف حاولا معالجةَ الانقسامِ بداخلِهما، وكيف أنَّهما فشلا في نهايةِ المطاف، ممَّا استدعى انتصابَ الكاتبِ داخلَ نصِّه شخصيَّةً قائمةَ الذَّات (بصرفِ النَّظرِ عن دفعِه المُحِقِّ في العديدِ من المنابر ضد دعواتٍ غير مستنيرةٍ بالنَّصِّ ذاتِه - ومُحتَكِمَةً إلى خارجِه، لوجودِ قدرٍ مدهشٍ من التَّشابهاتِ أو التَّماثُلاتِ السَّطحيَّة - بأنَّه صورةٌ طبق الأصلِ من إحدى شخصيَّاتِه الرِّوائيَّة).
يمكن تلخيصُ الانقسامِ الظَّاهريِّ الذي يعتري شخصيَّة مصطفى سعيد في قولِه: "كنتُ أعيشُ مع نظريَّاتِ كينز (الاقتصاديِّ البريطاني، جون مينارد كينز) وتوني (المؤرِّخِ الاقتصاديِّ البريطاني، ريتشارد هنري توني) بالنَّهارِ، وباللَّيلِ أُواصِلُ الحربَ بالقوسِ والسَّيفِ والرُّمحِ والنَّشَّاب". كما يمكن تفسيرُ استقرارِه في قريةٍ خاملةِ الذِّكرِ عند منحنى النِّيلِ في شمالِ السُّودان، باعتباره محاولةً يائسة من جانبِه لرتقِ هذا الفتقِ الأساسيِّ في شخصيَّتِه، انتهت (أي المحاولة) بغتةً بظهورِ الرَّاوي (أناهُ الأخرى، التي تتنازعُ معه مِنصَّةَ الحكي وتتبادلُ معه المواقع) على مسرحِ القرية، ممَّا عجَّل برحيلِه غَرَقاً في شمالٍ كان يُريدُ له أوَّلَ الأمرِ أن يكونَ قَصِيَّاً، "في ليلةٍ جليديَّةٍ عاصفة، تحت سماءٍ لا نجومَ لها، بين قومٍ لا يعنيهم أمره".
أمَّا غرفتُه السِّرِّيَّة، "الغرفةُ المستطيلة من الطُّوبِ الأحمر" التي بُنيت على الطِّرازِ الإنجليزيِّ في قريةٍ بيوتها من الطِّين والطُّوب الأخضر، فقد كانت امتداداً خارجيَّاً لدواخلِه، قابلاً للبقاءِ والتَّوريثِ الفوريِّ لأناه الثَّانية، التي نصَّبها قبل رحيلِه وَصِيَّاً على زوجته، حُسنة بنت محمود، وولدَيْه محمود وسعيد. ولكن، سرعان ما تبيَّن للرَّاوي أمران: أوَّلُّهما، أنَّ مصطفى سعيد قد نصَبَ له فخَّاً بتأجيجِ حُبِّ الاستطلاع لديه، حتَّى يُواصلَ من بعدِه المَهَمَّةَ التي فشل في إكمالِها، وهي رتقُ ماضيه بالبندرِ الكولونيالي، بحاضرِه القريبِ بالقريةِ التي أحبَّها وأرادَ لولدَيْه أن ينشآ بها من غيرِ حاجةٍ إلى تجشُّمِ وعثاءِ السَّفر؛ وثانيهما، أنَّه بصورةٍ ما قد أُصِيبَ -وهو الموظَّفُ "الذي لا يُقدِّم ولا يُؤخِّر"، والذي قضى من قبلُ زمناً في البحثِ عن شاعرٍ مغمور- بعدوى أناه الأخرى، أو ’غريمِه‘ على حدِّ تعبيره، التي تجلَّت في شكلِ حُبِّه لحُسنة، وتردُّدِه ’الهاملِتي‘: "فلبثتُ واقفاً هكذا زمناً في حالةٍ من الإقدامِ والإحجام"؛ وتشكُّكِه في وجودِ مصطفى سعيد: "لم يحدُث إطلاقاً.. إنَّه طيفٌ أو حلمٌ أو كابوسٌ ألمَّ بأهلِ القريةِ تلك"؛ وفي وجودِه نفسِه: "قال إنَّه أكذوبة؛ فهل أنا أيضاً أُكذوبة؟". إلى أن قادته قدماه، في نهاية المطافِ، إلى النَّهر؛ فتجاذبه فيه تيَّارانِ متعادلانِ: أحدُهما يدفعه إلى الأمام صوب الشَّمال، والآخَرُ يسحبه نحو القاع؛ وفي اللَّحظةِ التي بدأ الحلُّ وشيكاً بالاستجابةِ إلى نداءِ القاع، صاح الرَّاوي في نهايةٍ مفتوحةٍ للنَّصِّ الرِّوائي: "النَّجدة. النَّجدة".
كشفنا في هذه الحلقة، عبر ما وصفناه بقناديلِ الطَّريق، الخطوطَ العريضة لشخصيَّةِ الكاتب المُراد إنشاؤها داخل النَّص، وسنُجسِّدُ في الحلقةِ القادمة تلك الشَّخصيَّة المنسيَّة من خلالِ أمثلةٍ تُحدِّدُ -بشكلٍ مُركَّز- النُّورَ السَّاطعَ من تلك القناديل؛ فما نُريدُ عملَه، يا عزيزي الصَّادق، ليس مجرَّد توضيحِ رؤى الكاتبِ داخل النَّص، وإنَّما تنصيبُه شخصيَّةً قائمةَ الذَّات، تماماً مثلما أنَّ الرَّاوي في "مَوسِمِ الهجرةِ" هو أيضاً شخصيَّةٌ قائمةُ الذَّاتِ، إلى جانبِ وظيفتِه السَّرديَّةِ المعهودة.
محمَّد خلف
الاثنين 6 فبراير 2017
شارك هذا الموضوع: