هذه محطَّة تشارنغ كروس: ثمَّة جمعٌ غفير، متَّشحاً بالسَّوادِ، بالكادِ يهمسُ بصوتٍ عالٍ

محمد خلف - 13-08-2021

قلنا في الحلقةِ السَّابقة إنَّنا سنوضِّح كيف أنَّ الأبياتِ التي ألقاها مصطفى سعيد على مسمعٍ من الرَّاوي ستُساهمُ في تحديدِ الأدوار الرَّئيسيَّة، التي ستُساهمُ بدورِها في توضيحِ المحاور الأساسيَّة للمتن. ولتذكيرِ القارئ، نقول إنَّها تلك الأبياتُ التي تتحدَّثُ عن نساءِ فلاندرز، اللَّائي ينتظرنَ الضَّائعين، مشيرةً ضمن تعبيراتِها إلى توقيتِ ما بعد منتصفِ اللَّيلِ بمحطَّة تشارنغ كروس:
"هذه محطَّة تشارنغ كروس؛
انتصفَ اللَّيلُ قبل هُنَيهَةٍ.
ثمَّة جمعٌ غفير. لا ضَوءَ بالرَّدهةِ؛
ثمَّة جمعٌ غفيرٌ، متَّشحاً بالسَّوادِ،
بالكادِ يهمسُ بصوتٍ عال.
لا مِرَاءَ في أنَّ هذه امرأةٌ ميِّتةٌ -
أُمٌّ ميِّتةٌ! ذاتُ وجهٍ ميِّتٍ،
متَّشحةً إلى أَخمَصِ قدمَيْها بالسَّواد.
……………..
هذه محطَّة تشارنغ كروس.
تمامَ السَّاعةِ الواحدة.
يُرى فوق الكلِّ سحابةٌ ضخمةٌ
وبصيصٌ خافتٌ من الضَّوءِ
وأعمدةٌ هائلةٌ من الظِّلالِ
تتهاوى على جمعٍ أسودَ،
بالكادِ يهمسُ بصوتٍ عال.
……………
هؤلاء نساء فلاندرز
ينتظرنَ الضَّائعين".

يُلاحِظُ القارئ أنَّنا أضَفنا أبياتاً جديدة، ورتقنا آخِرَها بأوَّلِ تلك التي ألقاها مصطفى على مسمَعٍ من الرَّاوي، حينما كانا ضيفَيْنِ على محجوب، في أوائلِ عهدِ لقائِهما في تلك القريةِ الوادعةِ عند منحنى النِّيلِ في شمالِ السُّودان. وهدفُنا من ذلك، ليس فقط رسمَ الحدودِ الفاصلةِ للشَّخصيَّاتِ الرَّئيسيَّة، وإنَّما أيضاً تقييمَ أدوارِها في ضَوءِ معرفتِها بتلك الأبيات؛ وربَّما استطعنا أيضاً، بوجهٍ من الوجوه، حسمَ الجدلِ الدَّائرِ بين النُّقَّادِ حول البطلِ الحقيقيِّ لرواية "مَوسِمِ الهجرةِ إلى الشَّمال": هل هو مصطفى سعيد، كما يرى غالبيَّةُ النُّقَّاد، أمِ الرَّاوي نفسُه، كما يرى بعضُهم، ومن ضمنِهم الأستاذة منى أميوني، الباحثةُ بالجامعةِ الأمريكيَّة في بيروت، التي قامت بتحريرِ كتابٍ قيِّم عن الطَّيِّب صالح في عام 1985.
خرجتِ الأبياتُ، أثناء جلسةِ شُربٍ، من أعمقِ تجويفِ ذاكرتِه، حينما "ارتخت عضلاتُ وجهِه، وغاب التَّوتُّرُ في أركانِ فمِه، وأصبحت عيناه حالمتَيْنِ ناعستَيْن"؛ وفي الصَّباحِ التَّالي لتلك الأُمسِيَّة، أنكر مصطفى ما ألقاه من شعرٍ فيها؛ فحينما واجهه الرَّاوي في اليومِ التَّالي أثناء انكبابِه على حفرِ الأرضِ في حقلِه، قال له مصطفى: "لا أدري ماذا قلتُ وماذا فعلتُ في اللَّيلةِ الماضية (..) إذا كنتُ قلتُ شيئاً، فهو كخترفةِ النَّائم، أو هذيانِ المحموم. ليست له قيمة". فهل صحيحٌ فعلاً أنَّ هذا الكلامَ ليس له قيمة، كما زعمَ مصطفى؟
من المهمِّ بالنِّسبةِ لنا هنا الإجابةُ على هذا السُّؤالِ المركزي، لأنَّنا لا نُريدُ أن نُقيِّمَ على ضوئِها مصطفى سعيد فقط، وإنَّما بقيَّة الشَّخصيَّاتِ الرَّئيسيَّة كذلك. إلَّا أنَّ المهمَّ أيضاً التَّأكيدُ على أنَّ محاكمةَ الشَّخصيَّاتِ ومعرفةَ أوزانِها يتمُّ في الأساسِ على قاعدةِ النَّص، وليس خارجَه؛ وعَبرَ ما يُمكِنُ تسميتُه بالفعاليَّةِ النَّصِّيَّة، سيتمُّ، في نهايةِ المطافِ، تحديدُ أعيرةِ الشَّخصيَّات. وما يزيدُ الأمرَ تعقيداً حيالَ هذه الأبيات، هو أنَّنا أمامَ نصٍّ شعريٍّ، داخل نصٍّ روائي؛ أو نصٍّ مهاجرٍ إلى نصٍّ آخر؛ أو اختصاراً، أمامَ نصٍّ داخلِ نص. إلَّا أنَّنا سنجملُهما معاً ضمن ما اقترحنا تسميتَه بالفعاليَّة النَّصِّيَّة.
وفقاً للمحاكمةِ النَّصِّيَّة، مشفوعةً بالفعاليَّةِ النَّصِّيَّة، سنقبلُ كلامَ مصطفى سعيد على عِلَّاته، بأنَّه لم يكن يدري ما قاله (أو أنَّه كذَّب، كسباً للوقتِ، ريثما يُدلي أمامَ الرَّاوي بشَذراتٍ من قصَّتِه). كما لن نقبلَ ما طرحه الرَّاوي في البدءِ بشأنِ احتمالِ فقدانِ الذَّاكرة، كسببٍ وافٍ لنِسيانِ مصطفى للأبياتِ في اليومِ التَّالي. كلُّ ما يعرفُه مصطفى سعيد عن هذه الأبياتِ (سواءً كان صادقاً أو كانت هي واحدةٌ أخرى تُضافُ إلى سلَّةِ أكاذيبِه التي ستُصادفُنا كثيراً في النَّص) هو قدرتُه على إلقائِها في غيرِ ساعةِ صحو: أثناء جلسةِ شُربٍ، أو خلال حلمٍ ليليٍّ، أو أيِّ تسريبٍ آخرَ من تسريباتِ العقلِ اللَّاواعي. نصِّيَّاً، تُرفرفُ معرفةُ مصطفى بالأبياتِ فوق مستوى الوعي أو تنكتمُ في مكانٍ ما من منطقةِ ما دونِه.
على خلافِ ذلك، فإنَّ الرَّاوي، بسببٍ من قوَّة ذاكرته التي نصَّبتَه في الأساسِ راوياً للنَّصِّ، وبحُكمِ معرفتِه الأكاديميَّة بالشِّعرِ الإنجليزيِّ الذي يُبلغُنا النَّصُّ أيضاً بأنَّه قد حَضَّرَ بشأنِه رسالتَه في الدُّكتوراة، قد تذكَّرَ الأبياتِ بحذافيرِها، وأعادَها علينا مُسجَّلَةً في النَّصِّ الرِّوائي؛ ولولاه لما عَلِمنا بمصطفى نفسِه، وقصَّتِه الأثيرة، ناهيكَ عن بضعةِ أبياتٍ ألقى بها مخمورٌ أثناءَ ليلةٍ صيفيَّة. ليس ذلك فحسب، فقد أبلغنا الرَّاوي أيضاً بأنَّه قد وجد تلك الأبياتِ فيما بعدُ بين قصائدَ عن الحربِ العالميَّةِ الأولى. واللَّافتُ للانتباه، أنَّه حَرَصَ على الإدلاءِ بهذه المعلومة، قبل عرضِ الأبياتِ نفسِها في ثنايا النَّص؛ وكأنَّه يُريدُ أن يقول بذلك إنَّ هذا هو الزَّمنُ الذي تدورُ فيه أهمُّ أحداثِ الرِّواية، وهو الزَّمنُ الذي يصولُ ويجولُ فيه مصطفى سعيد في فضاءِ البندرِ الكولونيالي، إبَّانِ أفضلِ أوقاتِه، في الهَدئةِ ما بين الحربين العالميَّتين.
على ضَوءِ المعرفةِ بهذه الأبيات، يبدو الرَّاوي متفوِّقاً بمراحلَ من حيث فعاليَّتِه النَّصِّيَّة، فهو الحافظُ للأبيات، المدوِّنُ لها، والعارضُ لها في ثنايا النَّص؛ ليس ذلك فحسب، بل هو المُشيرُ إلى مصدرِها، وربَّما هو العارفُ أيضاً بأهميَّة هذه المعلومة، وإلَّا لما قدَّمها على نصِّ الأبياتِ نفسِها. صحيحٌ أنَّ مصطفى سعيد هو الذي ألقاها في الأساس، وهو المنفعلُ بأجوائها، المُدرِكُ لأثرِها العاطفي، وإلَّا لما حفِظَها؛ أو بالأصحِّ، استدخلها واستبطنها ضمن بنيتِه الوجدانيَّة، فصارت مع الوقتِ جزءاً من عقلِه اللَّاواعي. إلَّا أنَّنا نحتكمُ إلى النَّصِّ، وننظرُ في هذا الاحتكامِ إلى ما سمَّيناهُ بالفعاليَّةِ النَّصِّيَّة؛ وضمن هذه الفعاليَّة، يبرز الرَّاوي كأكثرِ الشَّخصيَّاتِ ثراءً، وأوفرها غِنًى نصِّيَّاً. غير أنَّ هناك شخصيَّةً أخرى لا تقلُّ أهميَّةً، بل تتفوَّقُ بمراحلَ على ذينكِ الشَّخصيَّتَيْن، منظوراً لكلٍّ من زاويةِ الفعاليَّةِ النَّصِّيَّة، ومُحاكِمينَ لهم جميعاً بمعيارِ الأداءِ النَّصِّي.

سنتعرَّضُ في حلقةٍ قادمة إلى هذه الشَّخصيَّة المنسيَّة، وسنسعى إلى تنصيبِها، عكس كلِّ التَّوقُّعاتِ، بطلاً حقيقيَّاً، ليس لرواية "مَوسِمِ الهجرةِ إلى الشَّمال" فحسب، وإنَّما للمتنِ برُمَّته.

محمَّد خلف
السَّبت 28 يناير 2017