هذه محطَّة تشارنغ كروس: ثمَّة ضَوءٌ خافتٌ في الرَّدهةِ وقناديلُ منثورةً على طولِ الطَّريق ٣

محمد خلف - 07-10-2021

قلنا في المُشاركةِ السَّابقة إنَّنا سنُكمِلُ هذه الحلقة بمُشاركةٍ أخرى ختاميَّة، نستعرضُ فيها ما انكشفَ لنا تحت ضوءِ آخرِ قناديلِ الطَّريق، والذي سيجيءُ هنا في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسعُها مجالُ النَّص. إلَّا أنَّه قبل المُضي قُدُماً في استكمالِ فقراتِ هذه الحلقةِ الختاميَّة، التي تمهِّد إلى تناولِ المحاور الثَّلاثة، كلَّاً على حِدَة، نودُّ أن نقفَ لوهلةٍ قصيرة أمام عنصرٍ آخرَ من عناصرِ الشَّكل، وهو الزَّمنُ السَّردي، حتَّى نطمئنَ قليلاً إلى استيفاءِ شروطِ إنشاءِ شخصيَّة الكاتب، من جهةِ الشَّكل؛ قبل أن نستيقنَ تماماً من استيفائها، بعونٍ من قبسِ هذا القنديل الأخير، من جهةِ المحتوى.
سبق أن أشرنا في بدايةِ هذه الحلقاتِ إلى أنَّ الغرضَ الخفيَّ من إلقاءِ مصطفى سعيد لأبياتٍ من مقطع "هذه محطَّة تشارنغ كروس"، من قصيدة "أنتويرب" للشَّاعر والرِّوائي الإنجليزي، فورد مادوكس هيفر، التي تناولَ فيها أوضاعاً إنسانيَّة تسبَّبت فيها الحربُ العالميَّة الأولى، هو رسمُ تحديدٍ دقيق، إلَّا أنَّه غيرُ مألوفٍ، للزَّمنِ الرِّوائيِّ في "مَوسِمِ الهجرة"؛ وهو فترة ما بين الحربين في أوروبا، وهي الفترةُ التي يتحدَّثُ عنها مصطفى سعيد بقولِه: "ثلاثون عاماً. كان شجرُ الصَّفصافِ يبيَضُّ ويخضَرُّ ويصفَرُّ في الحدائق، وطيرُ الوقواقِ يُغنِّي للرَّبيعِ كلَّ عام. ثلاثون عاماً وقاعة ألبرت تغصُّ كلَّ ليلةٍ بعشَّاقِ بيتهوفنَ وباخ، والمطابعُ تُخرِجُ آلافَ الكتبِ في الفنِّ والفكر". وإذا كان هذا التَّحديدُ هو في الأساسِ تأطيرٌ زمنيٌّ لفعاليَّةِ شخصيَّة مصطفى داخل البندر الكولونيالي، فإنَّ زمنَ السَّردِ في الرِّواية - الذي يبدأ من أوَّلِ جملةٍ مُكتمِلةٍ فيها: "عُدتُ إلى أهلي يا سادتي بعد غيبةٍ طويلة، سبعةِ أعوامٍ على وجهِ التَّحديد، كنتُ خلالها أتعلَّمُ في أوروبا"، وينتهي بالاستنجاد - هو تأطيرٌ زمنيٌّ لفعاليَّةِ الرَّاوي، حيثُ يتقاطعُ آخرُ سنواتِه في القرية مع آخرِ عهدِ مصطفي سعيد فيها.
إذا كان الأمرُ كذلك، ونحنُ بصددِ إنشاءِ شخصيَّةِ الكاتب، كيف يتسنَّى لنا إذاً تحديدُ زمنِه السَّردي، الذي ينبثقُ منه تأطيرٌ لفعاليَّته النَّصِّيَّةِ قائمةِ الذَّات؟ من الواضح أنَّنا لا نستطيعُ أن نجترحَ له زمناً يتطابقُ مع زمنِ شخصيَّة مصطفى سعيد أو الرَّاوي، وإلَّا لكانَ هو أحدُهما أو كلاهُما، إذ إنَّنا نعتمدُ على فرقٍ ناتجٍ عن تميُّزِهما، لإبرازِ وجودِه كشخصيَّةٍ مستقِلَّةٍ عن كليهما؛ كما لا يُمكِنُ، لنفسِ السَّببِ، أن نستخلِصه من سياقِ أقوالِهما، من ناحيةِ الشَّكل، كما استخلصناه تحت ضوء القناديل، وكما سنستخلصه في الفقرة "ثالثاً" أدناه، من ناحية المحتوى. إلَّا أنَّنا سننظرُ إلى حديثٍ صدر عن الرَّاوي في وقتٍ مبكِّرٍ من زمنه السَّردي، باعتباره مؤشِّراً على وجودِ زمنٍ سرديٍّ آخرَ، هو في رأينا زمنٌ خاصٌّ بشخصيَّة الكاتب قيد الإنشاء. ومن اللَّافت في ذلك الحديث، الذي سنستعرضُ طرفاً منه في الفقرةِ التَّالية، أنَّ الرَّاوي أوصله لنا معشرَ القرَّاء بعد أن فَرَغَ من الإجابةِ على أسئلةِ الأهلِ والزُّوار، وبدأ يعتادُ على إقامتِه بينهم، ولمَّا تمضي سوى أيَّامٍ قليلة عُقبَ عودتِه إلى القرية؛ إضافةً إلى أنَّه قد رواه لنا من مكانِه الأثير، "عند جذعِ شجرةِ طلحٍ على ضفَّةِ النَّهر"، حيث كان يقضي عندها ساعاتٍ طويلة إبَّانَ طفولته.
فبعدَ أن جابَ الرَّاوي القريةَ "طولاً وعرضاً، معزِّياً ومهنِّئاً"، استجابةً لرغباتِ أمِّه التي كانت تقفُ له "بالمرصاد"، ذهب ذاتَ يومٍ إلى مكانِه الأثير، ليُحدِّثنا من عند تلك الشَّجرةِ على ضفَّةِ النَّهر، قائلاً: "ورأيتُ الضَّفَّةَ تتقهقرُ عاماً بعد عام أمام لطماتِ المياه، وفي جانبٍ آخرَ يتقهقرُ الماء أمامها. وكانت تخطرُ في ذهني أحياناً أفكارٌ غريبة. كنتُ أُفكِّرُ، وأنا أرى الشَّاطئَ يضيقُ في مكان، ويتَّسِعُ في مكان، أنَّ ذلك شأن الحياة، تعطي بيدٍ وتأخذُ باليدِ الأخرى. لكن لعلني أدرَكتُ ذلك فيما بعد. أنا الآن، على أيِّ حال، أُدرِكُ هذه الحكمة، لكن بذهني فقط". قد قال الرَّاوي ذلك، بعد أن استرجَعَ – أوَّلاً - طرفاً من ذكرياتِ طفولتِه في ذلك المكان، وبعد أن لاحَظَ – ثانياً – تغيُّراً بطيئاً طرأ على البلد؛ الأمر الذي يعني أنَّ ما أكَّدناه من قولِه بالخطِّ الدَّاكنِ العريض قد حَدَثَ في زمنٍ مُتميِّزٍ تالٍ، نزعمُ أنَّه زمنٌ سرديٌّ مُخصَّصٌ لشَّخصيَّةِ الكاتب.
وما يُقوِّي الاعتقادَ بهذا الزَّعم، أنَّنا نجدُ في طيَّاتِ حديثِ الرَّاوي عند جذعِ الشَّجرةِ على ضفَّةِ النَّهر نفسَ خاصِّيَّة الكلام المُتوازن، عبر استخدامِ سلسلةٍ من المُتقابِلاتِ الضِّدِّيَّة: "ضفَّةٌ تتقهقرُ أمام المياه، وماءٌ يتقهقرُ أمامها"؛ شاطئٌ "يضيقُ" و"يتَّسعُ"؛ وحياةٌ "تعطي بيدٍ وتأخذُ باليدِ الأخرى". إلَّا أنَّ ما يُعَضِّدُ الزَّعمَ ويسندُه بدفعةٍ أقوى، هو اشتمالُ حديثِ الرَّاوي في هذا الموضِعِ بالذَّاتِ على عباراتٍ تُذَكِّرُنا أو بالأحرى تُوهِمُنا بأنَّ قائلها هو مصطفى سعيد، صاحبُ الدِّيباجَةِ القويَّة والعبارةِ الشِّعريَّةِ المُميَّزة التي لا تُخطئُها الأُذُنُ أو العين: "ثمَّةُ آفاقٌ كثيرة لا بُدَّ أنْ تُزار، ثمَّةُ ثمارٌ يجبُ أنْ تُقطف، كتبٌ كثيرة تُقرأ، وصفحاتٌ بيضاءُ في سِجِلِّ العُمُرِ، سأكتبُ فيها جُمَلاً واضحة بخطٍّ جريء".

ثالثاً: ما جاء في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلات

في بيتِ شابٍّ سوداني، زميلِ دراسةٍ للرَّاوي، دَارَ نقاشٌ طويل بين المُضيف "منصور" ورجلٍ إنكليزيٍّ اسمه "رتشارد"، كان يعملُ في وزارةِ الماليَّة. لم يشتركِ الرَّاوي في الحوار، لكنَّه تدخَّلَ فقط "دون وعيٍ" لتصحيحِ معلوماتٍ وردت في الحديثِ عن مصطفى سعيد؛ ثم قال فيما يُشبِهُ التَّلخيصَ لآراءِ المتحاورَيْن: "وبينما منصور يُفنِّدُ آراءَ رتشارد، أخلَدتُ أنا إلى أفكاري؛ ما جدوى النِّقاش؟ هذا الرَّجل – رتشارد – هو الآخَرُ متعصِّب. كلُّ أحدٍ متعصِّب بطريقةٍ أو بأخرى". وبعد وصفِ الرَّاوي لإحساسِ الرَّجلِ الأبيض "بإحساسِ الاحتقار الذي يحِسُّه القويُّ تجاه الضَّعيف"، أشار إلى عبارةٍ قالها مصطفى سعيد لهم (أي الرَّجل الأبيض، بوصفِه اسمَ جنس): "إنَّني جئتُكم غازياً"؛ ويقول عنها الرَّاوي معلِّقاً: "عبارةٌ ميلودراميةٌ ولا شك. لكنَّ مجيئهم، هم أيضاً، لم يكن مأساةً كما نُصوِّرُ نحن، ولا نعمةً كما يُصوِّرون هم". ونُلاحِظُ هنا أنَّ الرَّاوي يُعبِّر، عموماً، في وصفِه للرَّجلِ الأبيض عن رأيٍّ لا يختلفُ كثيراً عن الفطرةِ السَّليمة التي ترصِدُ الحقائقَ النَّفسيَّة المتعلِّقة بسايكلوجيَّةِ الشَّخصِ القويِّ إزاءَ تعاملِه في الغالبِ الأعمِّ مع الشَّخصِ الضَّعيف؛ إلَّا أنَّه عندما يسعى إلى تلخيصِ الآراء أو يلجأ إلى الاعتمادِ على التَّعليق، فإنَّه يصدُر عن عقلٍ جُبِلَ على إقامةِ الموازناتِ الدَّقيقة، والنَّظرِ إلى جانبَيْ المسألة، دونَ تحيُّزٍ لطرفٍ على آخر، مهما مالت قناعاتُه الرَّاسخة إلى أيٍّ منهما؛ الأمر الذي يُوشِي بأنَّ شخصيَّة الكاتب هي التي تتحدَّثُ في موضِعَيْ التَّلخيص والتَّعليقِ المذكورَيْنِ أعلاه.
ويُعلِّقُ الرَّاوي على تعلُّقِ إيزابيلا سيمور المَرَضِيِّ بمصطفى سعيد بقوله: "ياللغرابة. يا للسُّخرية. الإنسان لمجرد أنَّه خُلِقَ عند خطِّ الاستواء، بعض المجانين يعتبرونه عبداً، وبعضهم يعتبرونه إلهاً. أين الاعتدال؟ أين الاستواء؟". ويُوظِّفُ الرَّاوي استعارةَ "خطِّ الاستواء" أيضاً في ختامِ تعليقِه على النِّقاشِ الطَّويل الذي دَارَ بين "منصور" و"رتشارد": "كانا يقولانِ كلاماً مثل هذا، ويضحكانِ على مرمى حجرٍ من خطِّ الاستواء، تفصِلُ بينهما هُوَّةٌ تاريخيَّة ليس لها قرار". وتلك هي النُّقطة العميقة التي تُشيرُ إليها شخصيَّة الكاتب باستمرار، سواءً جاءت في طيَّاتِ أحاديثِ الرَّاوي أو تعاريجِ عباراتِ مصطفى سعيد؛ ففيها دائماً محاولةٌ للتَّقريبِ بين الآراءِ المتقابلة أو التَّنبيهِ إلى نقاطِ تلاقيها، سعياً للاعتدال، على الرَّغمِ من مقتضياتِ الواقعِ التاريخي، الذي يُطيلُ أمدَ الانقسام. وعندما يخلُصُ الرَّاوي إلى القول: "لا يُوجدُ في الدُّنيا عدلٌ ولا اعتدال" أو يستشهدُ بعد هذه العبارةِ مباشرةً بقولِ مصطفى سعيد: "إنَّما أنا لا أطلبُ المجدَ، فمثلي لا يطلبُ المجد"، فإنَّنا نستشفُّ لدى شخصيَّة الكاتب قيد الإنشاء حنيناً جارفاً إلى إقامةِ العدل وتحقيقِ الاعتدال، تماماً مثلما يصرخُ طفلٌ بشكلٍ عفوي: "هذا ظلم" ("إتس أنفير")، طالباً من والدَيْه أو أقرب الأقربين لديه تحقيقَ إنصافٍ أو عدلٍ فوري، إنْ لم نقل تحقيقَ اعتدالٍ يدرأ عنه في مُقبلِ أيَّامِه مغبَّةِ الجُنُوحِ والتَّطرُّف.
أثناء عودة الرَّاوي للخرطوم، عبر الطَّريق الصَّحراوي، بعد احتفالِهم بختانِ ولدَيْ مصطفى سعيد (سعيد ومحمود)، "وفي حالةٍ تقرُبُ من الحُمَّى"، طافت برأسِه، حسب قولِه "نُتَفٌ من أفكار"؛ إلَّا أنَّ فكرةً رئيسيَّةً ظلَّت تتخلَّلُ هذه "النُّتَف"، وهي الحربُ الدَّائرة بين الشَّمسِ والصَّحراء، والتي يروحُ ضحيَّةً لها أفرادٌ قلائلُ تجلبُهم ظروفٌ قاهرة إلى أَتُونِها؛ وهي ’الحربُ‘ التي تنتهي يوميَّاً "فجأةً بالنَّصر"، بقدومِ اللَّيل؛ وعنده، يُصبِحُ "شفقُ المغيبِ ليس دماً، ولكنَّه حنَّاءٌ في قدمِ المرأة، والنَّسيمُ الذي يُلاحِقُنا من وادي النِّيل يحمِلُ عطراً لن ينضُبَ في خيالي ما دُمتُ حيَّاً". وما يُكسِبُ هذه الفكرة "الواضحة وضوحَ الشَّمس" غموضاً، هو أنَّ الرَّاوي (ومن حقِّنا الآنَ أن نقولَ شخصيَّة الكاتب التي تتكلَّم من خلالِه) يُحاولُ أن يعتمدَ السَّردَ أساساً للتَّحاورِ مع نصٍّ آخرَ (هو نصُّ "الغريب" للكاتب الفرنسيِّ ألبير كامو) وفلسفةٍ أُخرى (هي الفلسفةُ الوجوديَّة، التي كانت رائجةً إبَّانَ صدورِ رواية "المَوسِم")؛ سنُرجئُ مناقشتها إلى حينِ تناولِ محور البندر الكولونيالي؛ ولكنَّنا سنُشيرُ في الفقرةِ التَّالية إلى كيف قادنا الكاتب، عبارةً على إثرِ أخرى، لتوضيحِ تداخُلِ نصِّه، أو تحاورِه الذَّكي، مع نصٍّ أوروبيٍّ أيقونيٍّ شهير.
بدأ الرَّاوي بالقول إنَّ السيَّارة في رحلةِ عودتِه إلى الخرطوم قد تحرَّكت "في أوَّلِ الصَّباح"، ثم سارت شرقاً ساعتَيْن، إلى أن "ضربت في الصَّحراء". وعندها يقول الرَّاوي مباشرةً: "لا يُوجدُ مأوًى من الشَّمسِ التي تصعُدُ في السَّماءِ بخطواتٍ بطيئة، وتصبُّ أشِعَّتَها على الأرضِ كأنَّ بينها وبين أهلِ الأرضِ ثأراً قديماً"؛ ويُعزِّزُ الرَّاوي هذه القول بتأكيدٍ آخر، وهو أنَّه: "لا تُوجدُ سحابةٌ واحدة تُبشِّرُ بالأملِ في هذه السَّماءِ الحارقة، كأنَّها غطاءُ الجحيم"؛ ثمَّ يردفُ بالقول: "عقلُ الإنسانِ ليس محفوظاً في ثلَّاجة. إنَّها هذه الشَّمسُ التي لا تُطاق. تُذوِّبُ المخ. تَشِلُّ التَّفكير". ولا يَمَلُّ الرَّاوي من الرُّجوعِ إلى هذا الموضوع: "لا شيء. الشَّمسُ والصَّحراءُ ونباتاتٌ يابسة وحيواناتٌ عجفاء"؛ كما يُضيفُ قائلاً: "الطَّريقُ لا ينتهي عند حدٍّ، والشَّمسُ لا تكلُّ. لا غروَ أنَّ مصطفى سعيد هَرَبَ إلى زمهريرِ الشَّمال".
وفي منتصفِ الرِّحلةِ عبر الصَّحراء، يتساءلُ الرَّاوي: "أين الظِّلُّ يا إلهي؟ ويستأنفُ الرَّاوي فكرتَه الرَّئيسيَّة، إذ إنَّ تساؤلَه البلاغيَّ لا ينتظرُ إجابة: "مثل هذه الأرضِ لا تُنبِتُ إلَّا الأنبياء. هذا القحطُ لا تُداويه إلَّا السَّماء. والطَّريقُ لا ينتهي والشَّمسُ لا ترحم". وهنا ينشأ فجأةً سؤالٌ واقعي، وليس بلاغيَّاً، فقد "قالوا إنَّ امرأةً من قبيلة الميرصاب قتلت زوجها، والحكومةُ ذاهبةً لتقبضَ عليها؛ فـ"لماذا قتلته؟"، في المقامِ الأوَّل، "في هذه الأرضِ التي لم تتركِ الشَّمسُ فيها قتلاً لقاتل"؛ فهُم "لا يعلمون". وهنا قال الرَّاوي: "خطرت لي فكرة، قلَّبتُها في ذهني، ثمَّ قرَّرتُ أن أُعبِّرَ عنها وأرَى ما يحدُث (لكنَّنا نعلمُ، من خلالِ تتبُّعِنا للحربِ الدَّائرة بين الشَّمسِ والصَّحراء، أنَّ الكاتبَ قد مهَّد لها بكلِّ تلك العباراتِ التي ذكرناها هنا وفي الفقرتين السَّابقتين، وأنَّها لم تخطُرِ الآنَ للرَّاوي، وإنَّما قلَّبَها الكاتبُ في ذهنِه مِراراً). قلتُ لهم إنَّها لم تقتله، بل هو ماتَ من ضربةِ الشَّمس، كما ماتت إيزابيلا سيمور، وشيلا غرينوود، وآن همند، وجين موريس". ولم يكنِ الرَّاوي مُنتظِراً تفاعُلاً إيجابيَّاً من رفاقِ الطَّريق: "لا فائدة. لا دهشة".
إلَّا أنَّ الكاتبَ (بخلافِ الرَّاوي) كان يهدُفُ إلى مزيدٍ من التَّوضيحِ لتحاورِه السَّرديِّ مع رواية "الغريب"، التي أقرَّ فيها بطلُها "ميرسو" للقاضي همساً بأنَّه لم يقتل أحدَ العربِ في الجزائرِ عن قصد، بل إنَّ ذلك قد حَدَثَ بسببِ ضربةِ الشَّمس؛ لذلك، فقد استرسلَ في نثرِ مزيدٍ من التَّعبيراتِ الدَّالَّة: "الشَّمسُ هي العدو. إنَّها الآنَ في كَبِدِ السَّماءِ تماماً، كما يقولُ العرب". ثمَّ تتداخلُ تشبيهاتُ الشَّمسِ واِعوِجاجُ مَسِيرِ السَّيَّارةِ في الطَّريقِ الصَّحراويِّ بسِيرةِ مصطفى سعيد ومحاكمتِه لقتلِ زوجته: "عجلاتُ السَّيَّارة تصدمُ الحصى بحقد. طريقُه المُعوَجُّ سُرعانَ ما يؤدِّي به إلى الكارثة. وفي الغالب، تكونُ الكارثة واضحةً وضوحَ الشَّمس"؛ بل إنَّ الشَّمسَ نفسَها تُصبِحُ واضحةً وضوحَ نفسِها: "والطَّريقُ لا ينتهي، والشَّمسُ واضحةٌ وضوحَ الشَّمس". ولم يلجأِ الكاتبُ إلى هذا التَّشبيهِ الأجوف، لاقترابِه من تحصيلِ الحاصل، إلَّا ليأسِه من حدوثِ التقاطٍ فوريٍّ لتحاورِ نصِّه السَّرديِّ مع نصِّ كامو ذائعِ الصِّيت، أو مع ما نُثِرَ في أعطافِه من فكرٍ وجوديٍّ، انتشرَ في فترةِ ما بعد الحربين في أوروبا، ثمَّ وَصَلَ إلى المنطقةِ العربيَّةِ لاحقاً في فترةِ السِّتينات وأوائلِ السَّبعينات.
لن نشرعَ هنا في التَّطرُّقِ إلى علاقةِ رواية "مَوسِم الهجرة" بفكرةِ ’العبث‘ التي تخلَّلت رواية كامو أو فكرة ’الاختيار‘ التي تُضمِّنت في فكرِ جان-بول سارتر الوجودي، لكنَّنا نُشيرُ فقط إلى أنَّها قد تُفسِّرُ قولَ الرَّاوي في نهايةِ الرِّواية: "لا يَعنيني إنْ كان للحياةِ معنًى أو لم يكن لها معنًى"؛ كما قد تُضيءُ مقارنةً بين قولِه: "طولَ حياتي لم أخترْ ولم أُقرِّر. إنَّني أُقرِّر الآنَ إنَّني أختارُ الحياة"، وبين قولِ مصطفى سعيد في الفصلِ الثَّاني من الرِّوايه، بعد دخولِه الفصلَ بالمدرسة: "وكانت تلك نقطةُ تحوُّلٍ في حياتي. كان ذلك أوَّلُ قرارٍ اتَّخذتُه، بمحضِ إرادتي". وعِوضاً عن ذلك، سنمضي في طقسِ تسمِّيةِ شخصيَّةِ الكاتب، بعد أن قدَّمنا حتَّى الآنَ ما يكفي من الحيثيَّات، على مستويَيْ الشَّكلِ والمحتوى، حتَّى نتمكَّنَ من تقييمِ دورِه في النَّصِّ من خلال معرفتِه بقصيدةِ "أنتويرب"، التي ألقى مصطفى سعيد أبياتاً من مقطعٍ منها، وهو في مجلسِ شُربٍ، في أوائلِ عهدِ تعرُّفِ الرَّاوي بشخصيَّته الفذَّة.

سنُفرِدُ حلقةً كاملة لطقسِ التَّسمِّية، وما يطرحه من مشكلاتٍ تتعلَّقُ بالإسنادِ عموماً إلى مرجع؛ وخصوصاً، المرجعِ النَّصي؛ إضافةً إلى الانخراطِ في عمليَّة تقييمِ الشَّخصيَّات، تمهيداً للدُّخولِ في المحاورِ الرَّئيسيَّةِ لهذه المشاركات، وهي محورُ البندرِ الكولونيالي، والوطنِ الأم، والعُمقِ الحضاريِّ الشَّامل.

محمَّد خلف
الاثنين 27 مارس 2017