هذه محطَّة تشارنغ كروس: ثمَّة ضَوءٌ خافتٌ في الرَّدهةِ وقناديلُ منثورةً على طولِ الطَّريق -2-

محمد خلف - 21-09-2021

-2-

قبل المُضي قُدُماً في صياغةِ فقراتِ هذه الحلقةِ الخاصَّة باستكمالِ إنشاءِ شخصيَّة الكاتب من خلال تتبُّعِ خيوطِ الضَّوء الصَّادرة من قناديلِ الطَّريق، نودُّ أن نُذَكِّرَ القارئ بالمحاورِ الرَّئيسيَّة الثَّلاثة لمجملِ هذه المشاركاتِ حول كتاباتِ الطَّيِّب صالح؛ وهي، كما يُدرِكُ المتابعون ذوو الذَّاكرةِ النَّشِطة: أوَّلاً، محورُ البندرِ الكولونيالي، ويُمثِّله خيرَ تمثيلٍ شخصيَّة مصطفى سعيد، رغم وجودِ الرَّاوي لسنينَ عدداً في نفسِ المكان؛ وثانياً، محورُ الوطنِ الأم، ويُمثِّله شخصيَّة الرَّاوي، رغم وجودِ شخصيَّاتٍ أخرى تُضارِعُه، وربَّما تُصارِعُه أيضاً - مجازيَّاً وحرفيَّاً - مثل شخصيَّة محجوب؛ وثالثاً، محور العُمق الحضاري، الذي يُمثِّله شخصيَّة الكاتب، التي نحاول ضمن هذه المشاركاتِ الأخيرة أن نُنشئها إنشاءً داخل النَّص، حتَّى يتسنَّى لنا بسطُ الحيثيَّاتِ الأساسيَّة المتعلِّقة بتلك المحاور.
بمعنًى آخر، إنَّنا لم نبدأ بعدُ في الدُّخول في صُلبِ الموضوع، ولم نُفلِح حتَّى الآن في الاقترابِ الحميمِ من المحاور الثَّلاثة، على الرَّغم ممَّا نثرناه من معلومات، وما أبديناه من ملاحظات، وما بنيناه من خططٍ أوليَّةٍ بشأنِ إستراتيجيَّةِ القراءة وبدءِ التَّحليل. وإنْ قالَ قائلٌ أو سألَ سائلٌ لماذا لا نختصر الطَّريق، ونذهب إلى الكاتب مباشرةً، بدلاً عن التَّكهُّن بوجودِه داخل النَّص، فأفكارُه منثورةٌ في أكثرَ من نوعٍ أدبي؛ فهناك الأعمالُ النَّثريَّة، والبرامجُ الإذاعيَّة والتِّلفزيونيَّة، والمقابلاتُ العديدة في الصُّحف والمجلَّات؛ هذا بالطَّبع إلى جانبِ أعمالِه السَّرديَّة الشَّهيرة، التي تشمل الرِّواية (مثل "مَوسِم الهجرة إلى الشَّمال")، والقصَّة الطَّويلة (مثل "دومة ود حامد")، والقصَّة القصيرة (مثل "نخلة على الجدول")، والمقدِّمات الأكثر قِصَرَاً (مثل "خطوة إلى الأمام" أو "لكَ حتَّى المَمَات").
نُجيبُ على هذا السَّائلِ الافتراضيِّ بالقول: بالطَّبع، من الممكن أن نذهبَ مباشرةً إلى الكاتبِ نفسِه، فنُنازِعُه القول؛ ونقعدَ له كلَّ مرصد، فنُمسِكُه من لسانِه أو يدِه التي تُوجِعُه، ونتتبَّعَ خُطواتِه، ونتصيَّدَ هفواتِه؛ إلَّا أنَّ هذا، بعبارةِ معاوية محمَّد نور، لا يؤدِّي. بل إنَّ الشَّكلَ الأثيرَ الذي اختاره الكاتبُ منذ وقتٍ مبكِّرٍ للتَّعبيرِ عن أفكارِه، هو الجهةُ التي يكونُ الرُّجوعُ إليها "أنورَ وأبهر"، بعبارةِ الجُرجاني المُنيرة. ومن أجلِ هذا، سنُحاولُ أوَّلاً أن نُنشئَ شخصيَّة الكاتب داخل النَّص، للتَّعرُّفِ على آرائه الفكريَّة العميقة من خلال وسيطٍ سردي، وعبر ما يجيءُ على ألسِنةِ شخصيَّاتٍ رئيسيَّة، من ضمنها شخصيَّة الكاتب الواقعة قيد الإنشاء؛ ثم يُمكنُ لنا، من بعدُ، أن نرجعَ للكاتبِ الواقعيِّ نفسِه، للتيقُّنِ من صحَّة ما نزعمُ به من أقوالٍ معقولة أو آراءَ تتبدَّى لنا وجاهتُها ضمن هذه المشاركات المُخصَّصة لاستكشافِ عالم الطَّيب صالح من خلالِ محاورَ رئيسيَّةٍ ثلاثة.

ثانياً: ما يستقِرُّ في الخاطر، وما لم يُقلِ اعتباراً لآخَرِين، وما انقطعَ بغتةً واستؤنفَ توَّاً في الذِّهن
(كان القنديلُ الأوَّل الذي تعرَّضنا لقبسٍ من نورِه في المُشاركةِ السَّابقة، هو: ما يُنصَبُ على مسافةٍ من حدثٍ رئيسيٍّ أو قبل وقوعِه)

يُتيحُ لنا الضَّوءُ السَّاطعُ من هذا القنديل أن نتعرَّضَ أيضاً لشخصيَّة محجوب، الذي أنشأ الكاتبُ بينها وبين شخصيَّة الرَّاوي توأمةً، مثلما أنشأها بين الأخيرِ ومصطفى سعيد، حتَّى لكأنَّ الثَّلاثةَ يُشكِّلونَ فيما بينهم مجموعةً مكوَّنةً من ثلاثةِ توائم، مع الفارقِ الجوهريِّ في عمليَّة بناء وتكوُّنِ الشَّخصيَّة الرِّوائيَّة لدى ثلاثتهم؛ فإذا أخذنا الرَّاوي كأساسٍ للمقارنة، فإنَّ شخصيَّة مصطفى سعيد تُمثِّلُ، في بعضٍ من جوانبها الإيجابيَّة، توقَ الرَّاوي الرُّوحي، كما تُمثِّلُ في ذاتِ الوقتِ انعكاساً لفشلِه الفكريِّ والعاطفي، رغم نجاحِه الأكاديمي، الذي يتمُّ التَّأكيدُ عليه بـِ"انتصارِه" في نَيلِ شهادة الدُّكتوراة؛ وهي نفسُ الشَّهادة التي تتراءى للرَّاوي في بعضِ حالاتِ ضعفِه المعنويِّ رمزاً لخيبته، خصوصاً إذا ما قورن ذلك بالنَّجاح الاجتماعيِّ والسِّياسيِّ الذي لقيه محجوبٌ في مجتمعِ القرية، وفي البلدِ برُمَّتِه، من خلالِ مشاركتِه الفاعلة في الأحزابِ السِّياسيَّة، والجمعيَّاتِ التَّعاونيَّة (التي توطَّدت من خلالها في المَقامِ الأوَّلِ علاقتُه بمصطفى سعيد)، والمناسباتِ الاجتماعيَّةِ الرَّئيسيَّة (زواج - طلاق- سماية – ختان – كرامة – غسل ميِّت – دفن جنازة – إقامة مأتم – إكرام ضيف – استقبال وفد – أو استضافة عابر سبيل).
لو لم يواصلِ الرَّاوي تعليمَه، لصارَ مثل محجوبٍ تماماً؛ ولو لم يخُض مصطفى سعيد معاركَه الكيشوتيَّة (نسبةً إلى دون كيخوتة دي لا مانتشا في رواية سيرفانتيس، الذي اشتُهر باستخدامِ مَلَكَةِ الخيال لتحويلِ الواقع المُحيط به إلى استيهاماتٍ مُقنِعةٍ لِمَن حولِه) لرَجَعَ إلى الوطنِ مثل الرَّاوي، ولأصبحَ موظَّفاً "لا يقدِّم ولا يؤخِّر". إلَّا أنَّ محور البندر الكولونيالي، مع ذلك، لا يُمكِنُ له أن يعملَ داخل الرِّواية من غير التَّفاعل الضَّروريِّ بين شخصيَّتَيْ الرَّاوي ومصطفى سعيد؛ كما لا يُمكِنُ لمحورِ الوطنِ الأمِّ أن يكتسبَ قيمةً من غير تفاعلِ هاتين الشَّخصيَّتين مع محجوب؛ أمَّا محور العُمق الحضاري، فلا سبيلَ إلى إقامتِه في الأساس من غيرِ إنشاءِ شخصيَّة الكاتب، التي تتبدَّى من خلال كلِّ تلك الشَّخصيَّات، والتي نستبصرُ من خلالها أيضاً رؤية الكاتب ذاتِه، عبر بعضِ المواقف الفكريَّة المُعلنة أو المُواربة، حسب كلِّ حالةٍ على حِدَة؛ وهو ما سيتمُّ التَّنبيه عليه في حينه.
للرَّاوي – كما لمصطفى سعيد – تقديرٌ عميق لمحجوب، صديقِ صباه ورفيقِ مدرستِه الأوليَّة؛ وكان يُحبُّه حبَّاً جمَّاً (يُقاربُ حبِّي لأخي محجوب، الذي سمَّيتُ عليه ابني محجوباً، تيمُّناً به؛ وربَّما جاءتِ التّسميَّةُ – لا شعوريَّاً – بتأثيرٍ من شخصيَّة محجوب الآسِرة)؛ ومع ذلك، فقد كان انقطاعُ تعليمِ أحدِهما ومواصلةُ آخر (وهي عينُ المشكلة التي برزت إلى الوجود مع انبثاقِ المدارس التي كان النَّاسُ "يظنُّونها شرَّاً عظيماً جاءهم مع جيوش الاحتلال"، والتي واكبتِ "الخلاوي" حيناً، ثمَّ حلَّت محلَّها في نهاية المطاف) سبباً في أن أصبح الرَّاوي لا يستطيعُ أن يُطلِعَ محجوباً على ما أحاطنا عِلماً به نحنُ معشرَ القرَّاء، فنراه يُنصِبُ لنا على التَّخصيصِ كلاماً يُخفِضُه تحت رادارِ محجوبٍ؛ فيقول، بعد أن أجابَ محجوباً بإجابةٍ مُقتضَبة بشأنِ سؤالِه عن الأوروبيِّين "هل بينهم مزارعون": "وآثرتُ ألَّا أقولُ بقيَّة ما خطرَ على بالي"، ثم يستدركُ بالقول: "لم أقلْ لمحجوبٍ هذا، وليتني قلت، فقد كان ذكيَّاً. خِفتُ، من غروري، ألَّا يفهم".
عندما نُحلِّل محتوى الكلام الذي باحَ به الرَّاوي لنا، وأخفاه عن محجوب، نُلاحظُ نفسَ السِّمةِ التي تحدَّثنا عنها من قبل، وهي إحداثُ التَّوازنِ عن طريق المقابلة الضِّديَّة، التي تظهرُ في عباراتٍ مثل: "يولدون ويموتون"؛ "من المهدِ إلى اللَّحد"؛ "بعضُها يصدق وبعضُها يخيب"؛ "فيهم أقوياء وبينهم مُستضعفون"؛ "بعضُهم أعطته الحياة ..، وبعضُهم حرمته الحياة"؛ إلى أن يخلُص في حديثه عن الأوروبيِّين بالقول: "لكنَّ الفروقَ تضيقُ وأغلبُ الفقراءِ لم يعودوا فقراء". وهذا النَّوعُ من الموازناتِ هو سمةٌ فكريَّة لدى جمهرةِ المتعلِّمينَ تعليماً عالياً؛ يتَّخذ عند البعضِ منحًى إيجابيَّاً، فيُساعدُ على التَّريُّثِ والبعدِ عن التَّهورِ أو التَّطرُّفِ الطَّائش؛ ويتَّخذُ عند البعضِ الآخرِ منحًى سلبيَّاً، فيقودُ إلى التَّردُّدِ والحَيرةِ شبهِ الدَّائمة، كما في حالة "هاملت" أميرِ الدَّنمارك في مسرحيَّة وليام شكسبير الشَّهيرة (التي تتلخَّص في "مونولوجه" الأشهر، الذي يُناجي فيه نفسَه قائلاً: "أنْ أكونَ أو ألَّا أكون، تلك هي المسألة" أو بلغةِ شكسبير نفسِها: "تو بي أور نوت تو بي، زات إز زي كويسشن").
نلمسُ هذا التَّردُّد الطَّويل بين القطبين عند مصطفى سعيد، الذي يقول للرَّاوي: "إنَّني أعرف بعقلي ما يجب فعله، الأمر الذي جرَّبته في هذه القرية، مع هؤلاء القوم السُّعداء. ولكنَّ أشياءَ مُبهمة في روحي وفي دمي تدفعُني إلى مناطقَ بعيدةٍ تتراءى لي ولا يمكن تجاهلها". كما نلمسه بشكلٍ أحَدَّ عند الرَّاوي نفسِه، خصوصاً على مشارفِ انتهاءِ الرِّواية عند منتصفِ النَّهر، حيث يقول: "كانتِ الأشياءُ على الشَّاطئينِ نصفَ واضحة، تبينُ وتختفي، بين النُّورِ والظَّلام"؛ أصبحتُ بين العمى والبصر. كنتُ أعي ولا أعي. هل أنا نائمٌ أم يقظان؟ هل أنا حيُّ أم ميِّت؟؛ ثمَّ يقول: "تلفَّتُّ يُمنةً ويُسرة، فإذا أنا في منتصفِ الطَّريق بين الشَّمالِ والجنوب"؛ وفي تلخيصٍ كاملٍ لمجمل حياته، يقول: "طول حياتي لم أختر، ولم أُقرِّر. إنَّني أُقرِّرُ الآنَ إنَّني أختارُ الحياة". لكن أيَّ نوعٍ من الحياة، وضمن أيٍّ من الشُّروط؟ ويُجيبُ الرَّاوي بإجابةٍ لا تحملُ في طيَّاتها حلَّاً لحَيرته الطَّويلة، فيقول: "لا يعنيني إنْ كان للحياةِ معنًى أو لم يكن لها معنًى"؛ ثمَّ لا يلبثُ أنْ يصرخَ في نهايةِ الرِّواية: "النَّجدة. النَّجدة".

سنُكمِلُ هذه الحلقة بمشاركةٍ ختاميَّة، نستعرضُ فيها ما جاء في شكلِ تعليقٍ يُلخِّصُ الأحداثَ التي وقعت بالفعل أو يستخلِصُ منها دَلالاتٍ أو يبنِي عليها تأمُّلاتٍ لا يسعُها مجالُ النَّص. وربَّما شرعنا بعدها في تناولِ المحاور الثَّلاثة، كلَّاً على حِدَة.

محمَّد خلف
الأربعاء 15 مارس 2017