ظلَّ يبكي الماءُ في المنفى..
تذكر نهرَهُ وسليلَ أيَّام الطُّفولة والرَّهافةِ
بينه وجداول المرعى
في قريةٍ جرداءَ عادت
كان يجري حولها
وينام في الغابات يَحضنها كأيَّة طفلةٍ
(صحراءُ هذا العمر
صحراءُ كلُّ هُنيهةٍ مرَّت على بالي
ولمَّا تَهدِني أبداً لغير لظى الرِّمال)
تذكَّر ساحلاً حُرَّاً جميلاً
باتِّساع قصيدةٍ في الرُّوح
يكتبها بطين القلبِ،
رملِ يدَيهِ..
ينساها لأنَّ حبيبةً مالت عليهِ،
مرتبكاً ببسمتها لخِفَّتهِ
ويحلم بالتَّماوج فوق رمال ضفَّتهِ
مخلوقان يمتزجان
يرتجَّان إثر أثير لهفتِها للهفتهِ.
بكى عرَقُ الحبيب عليه في المنفى..
تذكَّر حقلَه الرُّوحي عند ظهيرة
كاد أن ينسى الظلال من الضَّفيرة
والقلب ينبِضُ مثلما تغريدُ طير الماءِ
في عشب الجزيرة
ذاك طائرهُ وتلكَ..
كانت تقول له أحبُّك
وهي مليئةٌ قمحاً وعافيةً وضحكة
وكان يرقص في جبين الكون
متَّزناً بحلم قصيدة حُبلى
يهشُّ بها على أحلامه
يسعى لغصن شُجيرةٍ في أوَّل الذِّكرى.
يالله يا الله..
هذي نُقطتي في الضَّعف
بدِّدها وخُذْني للقويِّ من المواكب
أرجو بلادي حُرَّة في الذَّاكرة
أرجو الحياةَ جميلةً
مثلَما أرجو نسيمَ الآخِرة.
في المنفى..
بكت كُرَّاسةُ الشِّعر القديم
من توقُّف حسِّها بالنَّاس والأشياء..
غاب الماء من عَرَصاتها،
غاب الهواء..
وبنى عليها العنكبوت..
كلُّ حرف كان بالأحرى يموت.
بكتِ الفراشةُ بين سمائها المنفى..
كانت تَودُّ لو أنَّها عادت إلى أُولى الحُقُول
أو أنَّها احترقت على حقل يقول
كانت تُمنِّي الزَّهْر بالفردوس في وطن بتول.
بكى الشِّبَّاك في المنفى..
تذكَّر طائراً عند الصَّباح على عمود خياله
كمْ كان يُبهجهُ الغناء
(والغناء هو الفناء)
هذي عبارتهُ إذا رقص النَّدى في الزَّهر
أو أجهشتْ بالدَّمع عينُ النَّهر
تذكَّر هَبَّةً عند الظَّهيرة باردة
كانت تنام مع الصَّغيرة
كلَّما شبَّت على الذِّكرى طيوفٌ شاردة
بكى دمعٌ على المنفى
كانت تُقدِّسهُ الحبيبةُ
حين ينساها الحبيب
صافي الرُّوح، بلَّوريُّ رقرقةِ العذوبةِ،
فوق هلال حاجبها الخصيب
تَحمرُّ عينٌ في غُلالتها
مثلما يَحمرُّ في الشَّفق المغيب.
وفي المنفى بكت كأس
لم تجِدْ فَوحَ الحَباب على الصِّحاب
ولا في اللَّيل صورتَها
وبقيَّة آخِر القطرات في رَوْحِ التُّراب.
بكى شجرٌ على المنفى..
تعلَّم أنَّ لحنَ حنينهِ أبداً وفيٌّ
لكنَّ رُكن البيت أوفى.
شارك هذا الموضوع: