كتب الشَّاعر الرَّاحل تاج السِّر الحسن قصيدته الشَّهيرة، "أنشودة آسيا وأفريقيا"، في مناخٍ من التَّفاؤل والتَّضامن، في إطارِ روح التَّعاون والصَّداقة التي سادت على الأقلِّ في ظاهرِ الخطاب، في أعقاب اِنتهاء الحرب العالميَّة الثَّانيَّة، حيثُ حاول عددٌ من البلدان إيجادَ مكانٍ له تحت الشَّمس، ولو في ظلِّ سيطرة القوَّتين العُظميَيْن (الولايات المتَّحدة وروسيا)، بعد خروجهما منتصرتَيْن في الحرب الكبرى في عام ١٩٤٥؛ فجاء أوَّلاً مؤتمر باندونغ في عام ١٩٥٥، وسرعان ما تبعه مؤتمر دول عدم الانحياز الذي انعقد لاحقاً في بلغراد في عام ١٩٦١.
في عام ١٩٥٦، أي بعد عامٍ من اِنعقاد مؤتمر باندونغ، عبَّر الحَسَن في "أنشودته" المتفائلة، التي تغنَّى بها الفنَّان عبد الكريم الكابلي، عن روحٍ تحتفل باستقلال الوطن، ليس عن طريق الِانكفاء على حدوده التي رسمها المستعمر، مهما اتَّسع نطاقُها، وإنَّما من خلال الِانفتاح على التَّكوينات الأكثر اتِّساعاً، حتَّى تَكُونَ ضماناً لحماية الكيان الوطنيِّ الأصغر، الخارجِ لتوِّه من ربقة الِاستعمار. إلَّا أنَّ هذه المساعي "الحميدة" كانت هي الأخرى مُحَمَّلَةً بأجنداتٍ محلِّيَّة: "الصِّين الجديدة" كانت تسعى إلى هيمنةٍ على الدُّول المستقلَّة حديثاً، لِتنهضَ بدَورِها قوَّةً ثالثة في وجه القوَّتين العُظميَيْن؛ والجزائرُ كانت تسعى، تحت قيادة جبهة التَّحرير، إلى طرد المستوطِنين الفرنسيِّين من أراضيها عنوةً واقتدارا؛ ومِصرُ التي يُعزِّز الشَّاعرُ مساعيها بِدَفعةٍ شِعريَّةٍ قويَّة، كانت تسعى إلى "اِجتثاثِ الأعادي" من كافَّة وادي النِّيل، لِتُشرِفَ بنفسِها على تأمين مصادر مياهِهِ الحيويَّةِ لِازدهارها، إنْ لم نقُلْ بقاءها الوجوديَّ ذاتَه.
على مستوى القصيدة "الأنشودة" ودعماً لرسالتها التَّضامنيَّة القارِّيَّة، اِستدعى الشَّاعر أسماء زعماء القارَّتين الأكثر شُهرةً (جومو "كِنياتا"، وجمال "عبد النَّاصر"، و"أحمد" سوكارنو، و"المَهاتما" غاندي، إضافةً إلى الشَّاعر البنغاليِّ روبندرونات "طاغور المُغنِّي")، وأسماء المناطق الجغرافيَّة المعروفة، بدءاً من القارَّتين وبعض الدُّول الرَّئيسيَّة (الصِّين، أندونيسيا، الملايو، الهند، مصر، الجزائر وكينيا)، وعددٍ من المدن المشهورة؛ فجاءَ اِسمُ وهرانَ الجزائريَّة ("وعلى وهرانَ يمشي أصدقائي") إلى جانب كلٍّ من باندونغَ الأندونيسيَّة (المدينة المُضيفة للمؤتمر)، ودمشقَ السُّوريَّة ("يا دمشقُ كلُّنا في الفجرِ والآمالِ شرقُ")، وحَلفا السُّودانيٍّة (عند حَلفا عند خطِّ الِاستواءِ"). فمن بين تلك المدن المُنتقاةِ بعناية للتَّعبير عن الأفقِ المفتوح و"الأيدي الصَّديقة" الممدودة بلا مَنٍّ وأَذى، غرقت في الواقع حلفا القديمة بمياهِ السَّدِّ (وما يزالُ في الحلقِ غُصَّةٌ لا تبرحه وفي القلبِ حسرةٌ لا يُجدِي معها التَّناسي)؛ وفي المقابل على مستوى الخيالِ السَّردي، اشتُهِرت وهرانُ وخُلِّدت باعتبارها موقعاً لا يُنسى لرواية "الطَّاعون"، التي كتبها الفيلسوف الفرنسي الجزائريُّ المَولِدِ، ألبير كامو، في عام ١٩٤٦، بعد اِنتهاءِ الحربِ العالميَّةِ الثَّانية ببضعةِ أشهر.
في مُستهلِّ الرِّواية الشَّهيرة، يشرع الكاتب في وصف المدينة الجزائريَّة، على لسانٍ راوٍ (لا يُكشَفُ عن اِسمِه إلَّا في نهايةِ الرِّواية) يزعمُ بأنَّه شاهدٌ على أحداثٍ، وفي يدِه وثائقُ وشهاداتٌ لأشخاصٍ شاهدوها وهي تتكشَّفُ لهم شيئاً فشيئا؛ وهُم أشخاصٌ من مدينة وهرانَ، التي لم تكن في نظرِه (أي الرَّاوي) سوى مُحافظةٍ فرنسيَّة على السَّاحل الجزائريِّ المطُلِّ على البحرِ المتوسِّط. ويبدأ الرَّاوي مباشرةً في الانسحاب لِيترُكَ المجال لشهادات الشُّخوص، الذين ينبري على رأسهم دكتور بيرنار ريو، ثمَّ جان تارو، وريموند رامبرت، والأب بانيلو، هذا إضافةً إلى بعض الشَّخصيَّات الثَّانويَّة، مثل البوَّاب ميشيل، الذي كان أوَّل ضحايا الطَّاعون البابوني (وهو تورُّمٌ والتهابٌ مؤلِمٌ في العُقد اللِّيمفاويَّة التي تقعُ تحت الإبطَيْنِ وفوق الفخذَيْن، تصحبه حُمَّى وهذيان، ويؤدِّي إلى وفاةِ المُصاب، في غياب المُصل المُضاد للطَّاعون).
تبدأ أحداث الرِّواية بموتِ الفئران إيذاناً ببدء الوباء، وما يصحبه عادةً بتقليل السُّلطات من أهميَّةِ الحدث، واحتدام النِّقاش ونشوب الخلاف بين القائمين على الأمر بشأنِ تقييمه؛ ثمَّ يعقبه الشُّروع الخجول في فتح الأجنحة الخاصَّة لاستقبال المُصابين، ويليه البدء في اتِّخاذ الإجراءات الصَّارمة، التي تشمل الحَجْر المنزلي، والمراقبة اللَّصيقة للجثث وإجراءاتِ دفنها؛ ثمَّ الشُّحَّ المتوقَّع في كميَّة الأمصال، والنَّقص المريع في المخزون الإستراتيجي للمعدَّات الطِّبيَّة. ثمَّ يبدأُ إغلاقُ المدينة بأكملها، وإيقافُ وسائل المواصلات وخدماتِ البريد، مع الإبقاء على استخدام التِّلغرافات القصيرة للتَّواصل مع أفراد الأسرة والأصدقاء خارج المدينة. ثمَّ يبدأُ الكفاحُ الباسل في مكافحة الوباء ومواساةِ المصابين والتَّصدَّي لحالاتِ اليأس التي تعبِّر عن نفسِها بمحاولاتِ الهربِ والانتحار، ذلك الكفاح الذي يقوده دكتور ريو (الذي لا يؤمِنُ بأيِّ إله) والأب بانيلو (الذي يتَّخذُ الوباء سانحةً للتَّبشير)، إلى جانب السَّائح جان تارو، والمهندس المدني جوزيف غران، والصَّحفي ريمون رامبير، الذي عدَّل عن محاولة الهرب بالانضمام لفريق مكافحة الوباء الذي يقوده دكتور ريو.
قد يبدو ما جاء في الفقرة أعلاه أليفاً للقرَّاء، رغم التَّلخيص المخلِّ لأحداث الرِّواية، فالعهدُ ليس قريباً، وإنَّما نحيا بالفعلِ في كَنَفِه؛ فمنذُ بدءِ تفشِّى وباء كوفيد 19، واتِّساعه جائحةً لفيروس الكورونا التَّاجي، انتبه النَّاسُ إلى التَّشابه المرآتي بين ما جاء في رواية "الطَّاعون، وما يحدُث تحت سمعهم وبصرهم؛ وفي وهرانَ نفسِها، لم يغِبِ التَّوازي عن طبيبٍ أخصائيٍّ بمستشفى محمَّد بوضياف، أجرى معه موقع "بي بي سي" لقاءً بشأنِ الجائحة؛ فقد قال البروفيسور صلاح ليلو للهيئة البريطانيَّة: "هناك تشابهٌ بين فيروس كورونا و"طاعون" كامو؛ إذ بدأ النَّاسُ يلومون السُّلطات". وفي بقيَّة أنحاء العالم، ارتفعت مبيعاتُ الرِّواية ارتفاعاً غيرَ مسبوقٍ منذ بدء الجائحة. إلَّا أنَّ ما دفعنا إلى الكتابة عن رواية "الطَّاعون" في هذا الوقتِ بالذَّات هو أمرانِ: الأوَّل، يتعلَّق بمآلاتِ حركة التَّضامن في "الأنشودة" و"الرَّواية"؛ والثَّاني، بأهميَّة إنشاءِ سرديَّاتٍ مزدوجة بشأنِ كلٍّ من الجائحة وتجارب النَّاجين من عَسَفِ الحُكَّام منذ عام 1989، والتي بدأت حلقتُها الأولى في "فيسبوك" بمساهمة معتز حلفاوي ضمن صفحة "جيل سرديَّات الموت".
كُتِبَتِ "الأُنشودة" تحت ظلِّ المدِّ الثَّوريِّ العالميِّ الذي انتظم الكوكب في أعقاب انتهاء الحرب العالميَّة واتِّساع حركات التَّحرُّر الوطنيِّ التي نالتِ الاستقلال وتلك التي كانت تُطالب به كِفاحاً سلميَّاً وعنيفا، لكنَّها بشَّرت بنجاحِ ثورةٍ ("والدُّجى يشربُ من ضوءِ النُّجيماتِ البعيدة"، التي أطربت حتَّى شاعراً تقليديَّاً مثل بابكر دوشين) جاءت في زمنِ الانكماشِ الثَّوريِّ وانحسارِ حركة التَّضامن العالميَّة؛ فلم يأتِ العالمُ إليها إلَّا بعد انتصارِها، كما لم يأتِ إليها داعماً (ولا أحدَ يقبله بشروطِه المُجحِفة)، بل جاء مشارِكاً (ومتربِّصاً تحفُّ به الظُّنونُ من كلِّ جانب). في المقابل، بدأ "الطَّاعونُ" في وهرانَ - حسب الرِّواية التي استفادت من أحداثٍ فعليَّة وقعت قبل مئةِ عام – في منطقةٍ محدودة (مدينة ساحليَّة تُديرُ مِعماريَّاً ظهرُها للبحر)، لكنَّ تأثيرَها يصِلُ إلى كلِّ بيتٍ في المعمورة، مع تفشِّي هذه الجائحة.
نحتاجُ سرديَّاتٍ موثَّقة تُغطِّي الجائحة، وانتهاكاتِ النِّظام السَّابق في كلِّ الجهاتِ والحقب المتتاليَّة لعمرِه الممتدِّ حتَّى ساعةِ الاعتصام (وربَّما تتَّسعُ السَّرديَّاتُ فتشملُ ضحايا الفيضانِ وسوءِ التَّخطيط)؛ وفي كلٍّ، نحتاجُ إلى حاضنةٍ نفسيَّة وطِبِّيَّة واِجتماعيَّة وقانونيَّة لهذه السَّرديَّات.
شارك هذا الموضوع: